◄سوء الظنّ هو نقطة وصل بين ما تقدم من لمز واستهزاء وما سيأتي من تجسس وما شابه ذلك، فالظن هو السبب فيما تقدّم وعليه تُبنى القبائح، ومنه يظهر العدو المكاشح والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيباً فيلمزه به، فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك، لجواز أن يكون فاعله ساهياً أو يكون الرائي مخطئاً، وهكذا سوء الظن باعث على التجسس، والتجسس باعث على كشف الأسرار الى آخره.
روي عن الإمام الصادق (ع): "حسن الظن أصله من حسن إيمان المرء وسلامة صدره، وعلامته أن يرى كلّ ما نظر إليه بعين الطهارة والفضل، من حيث ركب فيه، وقذق في قلبه، من الحياء والأمانة، والصيانة والصدق، قال النبي (ص): "أحسنوا ظنونكم بإخوانكم، تغتموا بها صفاء القلب، ونماء الطبع".
فهذه هي عناصر الإيمان حقاً، فالمؤمن حييّ أمين يصون سر الناس ويتعامل معهم بالصدق، يصدق هذا فقط عند صلاح الزمان أو بين التجمع الصالح الذي تتسم علاقاتهم باأخوة الإيمانية.
إن المضاد لسوء الظن هو حسن الظن بالآخرين ويقصد به توجيه النظر إلى الجانب الإيجابي كإحتمال معقول يمنع عن الحكم المرتكز على الظن، كما ورد في الحديث المتقدم: "لا تظنن بكلمة خرجت..." ممّا يوحي بأن الاحتمال الواحد في المائة لا بد من أن يوقف المؤمن عن الحكم بنسبة التسعة والتسعين بالمائة، فلعل الحق في الواحد، ولكن ليس معنى ذلك أن يكون المؤمن ساذجاً لا يحذر من الاحتمالات المضادة.
عندما ندرس ظاهرة "سوء الظن" من الناحيتين النفسية والاجتماعية بمجمل تأثيراتها على الفرد والمجتمع نكتشف انها هي ذلك (المرض) الخطير الذي يحطم جهاز المناعة لدى المجتمعات والأفراد ليحول رياضها النضرة وجنانها الغنّاء إلى صحارى قاحلة تحرقها أشعة الشمس اللافحة والى خرائب تنعق فيها الغربان.
إن (سيء الظن) يرصد كلّ تحرك وكلّ همية وكلّ نظرة ويحسب انّها ألف حساب ثم تراه لا يحملها إلا على أسوأ المحامل.
إن النهي عن سوء الظن بالآخرين هو من أهم الأمور لتكوين الأمن الاجتماعي للمجتمع المسلم، إذا نُفذّ ذلك النهي شعر المجتمع بالعزة والكرامة والترابط الأخوي وساده المحبة والمودة والوئام (فإن سمعة وكرامة الأفراد في ذلك المجتمع تكون مضمونة من جميع الجهات، فلا يستطيع أن يهتك حرمتهم باستعمال الألقاب القبيحة ولا يحق له حتى أن يسيء الظن بهم، ولا يتجسس عن حياة الأفراد الخاصة ولا يكشف عيوبهم الخفية ( باغتيابهم)، وبتعبير آخر إن للإنسان رؤوس أموال أربعة ويجب أن تحفظ جميعاً في حصن هذا القانون وهي: " النفس والمال والناموس وماء الوجه".
والتعابير الواردة تدل على أن ماء وجه الأفراد كأنفسهم وأموالهم بل هو أهم من بعض الجهات. الإسلام يريد أن يحكم المجتمع أمن مطلق، ولا يكتفي بأن يكف الناس عن ضرب بعضهم بعضاً فحسب، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم، بل وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنهم أيضاً... وأن يحس كلّ منهم أن الآخر لا يرشقه بنبال الاتهامات في منطقة أفكاره. وهذا الأمن في أعلى مستوى ولا يمكن تحققه إلا في مجتمع رسالي مؤمن. يقول النبي (ص) في هذا الصدد: "إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به السوء".
إن سوء الظن لا أنه يؤثر على الطرف المقابل ويسقط حيثيته فحسب، بل هو بلاء عظيم على صاحبه لأنه يكون سبباً لإبعاده عن التعاون مع الناس ويخلق له عالماً من الوحشة والغربة والانزواء، كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين على (ع) أنه قال: "من لم يحسن ظنه استوحش من كلّ أحد" وبتعبير آخر، إن ما يفصل حياة الإنسان عن الحيوان ويمنحها الحركة والرونق والتكامل هو روح التعاون الجماعي، ولا يتحقق هذا الأمر إلا في صورة أن يكون الاعتماد على الناس (وحسن الظن بهم) حاكماً... في حين أن سوء الظن يهدم قواعد هذا الاعتماد، وتنقطع روابط التعاون، وتضعف به الروح الاجتماعية. ►
المصدر: كتاب أسوار الأمان (صيانة المجتمع من الانحراف على ضوء سورة الحجرات).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق