• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأنا وعبادة الذات في ثقافة القرآن

أسرة البلاغ

الأنا وعبادة الذات في ثقافة القرآن

    يقول تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا) (الفرقان/ 43)، يتحدّث القرآن الكريم عن قضيّة نفسية هي من أهم وأخطر القضايا في حياة الإنسان.. وهي أزمة الأنانية وعبادة الذات..

    إنّ معظم مشاكل الإنسان وأزماته النفسية والسياسية والإقتصادية والاجتماعية، وحالات الصراع والخلافات في المجتمع والأُسر والجماعات البشرية تعود إلى الأنانية وعبادة الذات، والنرجسية المرضية..

    إنّ الإنسان الذي يستغرق الوجود ويلخِّصه بذاته، وينظر إلى ما حوله ويتعامل معه من خلال الأنا والأنانية، لن يكون إلا مشكلة في المجتمع وعبئاً على ذاته..

    إنّ حب الذات غريزة مركوزة في أعماق الإنسان، وهذا الحب والإعتناء أمر مشروع عندما يكون التعبير عنه صحِّياً وسلميّاً.

    فمن حق الإنسان أن يحبّ الخير لنفسه، ويدفع الأذى والضرر عن ذاته، ويُحقِّق لها التفوّق والمقبولية في المجتمع.. غير أنّ هذا الحب للذات يتحول عند البعض إلى حالة مرضية، وعدوانية، واستحواذ على كلّ شيء، وإلغاء للآخر وحرمانه حتى من حقوقه المشروعة، ووضع العراقيل والموانع أمامه؛ لئلا يرتقي إلى مستوى منافسته أو التفوّق عليه.. بل تتحول الأنانية إلى عداء وانتقام إلى حدِّ القتل والإفتراء والتخريب عندما يشعر هذا الأناني بتفوّق الآخر عليه اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو علمياً أو صحياً أو جمالياً، أو أي تفوّق آخر؛ بل لا يطيق أن يرى غيره قد حاز خيراً أو أصبح قريباً منه في المستوى والإمكان والمكاسب..

    إنّ هذه السلوكية المرضية هي من مصاديق عبادة الذات التي تحدث عنها القرآن في خطابه للرسول الكريم (ص): (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا).

    إنّ الكثير من الناس لا يعبد الله.. لا يتّبع ما أراد الله، لا تتحرّك ذاته وإرادته بإرادة الله، بل يدور حول محور أنانيّته..

    إنّ عبادة الذات خطر على المجتمع والجماعات، فأينما وُجِدَ الأنانيون تحوّلوا إلى أزمة ومشكلة.. إنّ مظاهر التعبير عن عبادة الذات كثيرة.. ويتحدث القرآن عن الحسد كأحد أبرز مظاهر الأنانية.. والحسد كما يُعرِّفه علماء الأخلاق هو: (تمنِّي زوال نعمة من مستحقّ لها).

    إنّه تمنِّي زوال نعمة الآخرين؛ ليكونوا أقل منه، أو ليتراجعوا، ويخسروا ما عندهم، فيكونوا مثله، إن كان فاقداً للصحة أو الولد أو المال أو الجاه، أو الموقع... إلخ.

    ويتحدث القرآن عن أبرز تجسيد للأنانية وعبادة الذات في قصة يوسف مع إخوانه:

    (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) (يوسف/ 7-9).

    كما يتحدّث في موقع آخر عن أبرز مظاهر الأنانية والحسد التي تجسّدت في قابيل الذي قتل أخاه هابيل، لا لجرمٍ جناه هابيل، غير أنّه تُقُبِّل منه عمله (نذره الذي نذره)، فتفوّق على قابيل.. فدعت قابيل أنانيّته، إلى أن يقتل أخاه هابيل..

    إنّ أبشع صورة لمأساة الأنا وعبادة الذات يرويها لنا القرآن نموذجاً حيّاً للأنانية البشعة.. قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة/ 27-30).

    وبهذه الحوادث التأريخية المعبِّرة عن أنانية الإنسان وحسده، وتحوّل الأنانية والحسد إلى انتقام وعدوان.. يقدِّم لنا القرآن درساً تحليلياً للنفس البشرية الأمارة بالسوء.. بل وكم يُسجِّل تاريخ الصراع السياسي من حوادث القتل والإغتيال والإسقاط حتى بين الأُسر والكيانات الواحدة..

    وعندما تستحكم سيطرة الأنا والأنانية على الذات، وتُصاب الشخصية بمرض النرجسية وعبادة الذات، يتحوّل سلوك هذه الشخصيات إلى ردود أفعال، وتعامل منطلق من هذه الرؤية، عندما يستولي الغرور والكبرياء على ذاته وتصرفاته، فيتحوّل إلى طاغوت في أعماقه.. حتى وإن كان لا يملك إمكانات الطاغوت بمعناه التسلطي والإمكاني.. ويتحدّث القرآن عن بعض مصاديق هذه الظاهرة فيعرضهم بقوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة/ 205-206). (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات/ 38-39).

    ولخطورة هذه المشكلة النفسية والسلوكية على الإنسانية، نرى القرآن يُحذِّر ويُثقِّف على التخلص منها.. وتركيز الدعوة إلى حُبِّ الآخرين، وحُبّ الخير لهم، كما هو حبّ الذات، وحبّ الخير للذات.. بل والتسامي نحو الإيثار، وتقديم الآخر على النفس.. ففي التحذير من خطورة الأنانية، والدعوة إلى الإبتعاد عنها، واعتبارها شرّاً مُستطيراً، نقرأ قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (سورة الفلق).

    إنّ القرآن يُثقِّف على الإستعاذة بالله من شرِّ حاسدٍ إذا حسد.. الحسد ذلك التجسيد الخطير للأنانية وعبادة الذات.. فقد عرفنا أنّ الحسد مُعرّف بأنّه: "تمنِّي زوال نعمة من مستحق لها".

    يكشف القرآن أنّ الحاسد يحمل في نفسه شرّاً لا يرى خيراً لأحد.. لذا أمرنا أن نعوذ بالله من شرِّ حاسدٍ إذا حسد.. أن نحذر منه فإنّ الحسد يدفع إلى الحقد والكراهية والإنتقام، ومنع الخير عن الآخرين.. والحسد يدفع الحاسد إلى القتل والإغتيال وإسقاط الآخرين والإفتراء عليهم وحرمانهم.

    إنّ ثقافة القرآن تُربِّي الإنسان المسلم على التوازن بين حُبّ الذات وحبّ الخير للآخرين.. إنها تسعى لتحرير الإنسان من الأنانية والنرجسية، وربط هذا التوازن بالإيمان. إنّ الرسول محمداً (ص) يُعبِّر عن ذلك بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه"، وقوله: "خيرُ الناس مَن نفع الناس".

    بل ويدعو القرآن، ويُثقِّف على الإيثار، وهو تقديم الغير على النفس.. نقرأ هذه الدعوة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).

    (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 8-9).

    إنّ القرآن الكريم يعرض نماذج وحوادث واقعية قد اتّصفت بالإيثار وتجردت من الأنانيّة.. إنّه يعرضهم مثلاً أعلى للإقتداء بهم، واستلهام سيرتهم.. والقرآن يدعو إلى العمل التطوّعي.. يدعو إلى الأمر بالمعروف.. إلى النهي عن المنكر، إلى مساعدة الآخرين والتعاون معهم، وإلى بذل المال والإنفاق التطوعي في سبيل الله، إلى الإندماج بالجماعة والتفاعل مع المجتمع.. إلى الدِّفاع عن المظلومين والمستضعفين وحماية الحق، ولو كلّف الإنسان ذلك حياته وما يملك، وبذا يُحرِّر الذات من الأنانية والإهتمام بالآخر.. والإنسان المؤمن بالله وباليوم الآخر.. يؤمن بعالم الآخرة وبالجزاء والعوض الآخر.. فهو يؤمن أن ما يُقدِّمه في الدنيا، وما يتنازل عنه من ذاته ومصالحه الخاصة يُقابله العوض والجزاء يوم الحساب.

    (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة/ 110).

    وبذا تجد الذات التعبير السليم عن ذاتها.. فكلّ ما يفعله الإنسان من خير للآخرين، وتنازل عن مكاسب الذات الدنيوية، سيعود على الذات بالنفع الأعظم يوم الحساب.. وبذا يحصل التوفيق بين الأنا والآخر.. ذلك لأنّ التنازل عن الذات هو لصالح الذات..

تعليقات

  • 2021-05-18

    الزهراء

    مقال جدا مهم وأعجبني كثيرا بوركت وزادك الله من فضله

ارسال التعليق

Top