• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإحسان في استقبال الشهر الفضيل

الإحسان في استقبال الشهر الفضيل

◄قال الله تعالى في كتابه العزيز: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). أيّام معدودات ويحطّ شهر رمضان رحاله بيننا؛ شهر ننتظره بفارغ الصبر، من عام إلى عام، وندعو الله أن يبلّغنا إيّاه، لذلك نستعدّ لاستقباله استقبال الفرحين، كمن ينتظر عزيزاً طال غيابه، يشدّنا إليه الشوق والحنين، ليملأ العبق الزاكي نفوسنا وأرواحنا، ويجدّد حياتنا، يجوهرها، ويضفي عليها طهراً وصفاءً.

فضل شهر رمضان

شهرٌ أبان رسول الله (ص) فضله عندما قال: «أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله...»، «فإنّ الشقيّ مَن حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم...».

وقد كان الإمام الصادق (ع) يوصي به أولاده، قائلاً لهم: «فاجهدوا أنفُسكم، فإنّ فيه تقسم الأرزاق، وتكتب الآجال، وفيه يكتب وفد الله الذين يفدون إليه، وفيه ليلة العمل فيها خير من العمل في ألف شهر».

ولقد أراد الله سبحانه من هذا الشهر أن يكون محطّة سنوية لنتزوَّد بما أودع فيه، وهذا لا يتمّ إلّا إذا عرفنا ما ينبغي التزوّد منه، وإن كان من الصعب أن نحيط بكلِّ معاني هذا الشهر المبارك، بمفاهيمه وفلسفته وآثاره... ونبقى قاصرين عن الإحاطة التامّة به، فنحن في كلّ موسم جديد، وعلى طول العمر، تظلّ تتكشّف لنا منه معانٍ وبركات متجدّدة ونابضة بالحياة.

لكنّنا سنعرض لثلاثة من الآثار والنتائج المتوخّاة من هذه الفريضة، إن أحسنّا الاستفادة منها:

محطّة لبناء الذات

على مستوى الذات، فإنّ شهر رمضان هو شهرٌ لبناء الإنسان الحرّ الذي يمتلك قرار نفسه، فهو يقرِّر لها، ويتحكَّم بمسارها، ويحدِّد لها متى تأكل وتشرب وتمارس لذاتها وإلى أين تسير وكيف... وهذا بخلاف النظرية التربوية التي باتت تسود في واقعنا، والتي ترى في الاستسلام لسطوة الغريزة حرّية، وأنّك كلّما سعيت لتلبية شهواتك تكون حرّاً، وأنّ الدِّين عندما يدعوك إلى ضبطها، فإنّه يقيِّد حرّيتك ويخلّ بها. ولكنّ الحرّية، ليست في أن تسعى وراء رغباتك وملذاتك، أو أن تكون أسيراً لها وتكون هي مَن تقودك، الحرّية أن تنعتق منها، أن تتفوَّق عليها، أن تتحكَّم بها، أن تضبطها.

للأسف، لقد بتنا نعيش في عصرٍ وصل اللهاث خلف الغرائز والشهوات إلى مستويات غير مسبوقة، وما هو إلّا نتيجة عبودية لها، وهو تأليهٌ من نوعٍ آخر: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الفرقان/ 43).

إنّ الصيام في شهر رمضان يوفِّر لك الحرّية والانعتاق من أسر الشهوات، وضبط الملذات، وعدم ارتكاب المحرَّمات، كي تقوى إرادتك، وتمسك بقرار نفسك وتلجمها في أفضل ورشة تدريب تدوم لباقي أيّام السنة. وإلى هذا أشار الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

التربية الروحية

وفي مقابل الاهتمام بضبط الغرائز وتربية الجسد، ركَّز شهر رمضان على الروح، وهنا نأتي إلى المستوى الثاني، وهو مستوى التربية الروحية:

فقد شاء الله تعالى أن يكون شهر رمضان شهراً لبناء الروح، ولذلك هو شهر العبادة، وشهر تلاوة القرآن والدُّعاء والذِّكر والاستغفار وإحياء الليل بالعبادة بالتهجّد والذِّكر.. وقد أراده الله أن يكون شهر عبادة كيفما تحرّك الإنسان؛ فاحتسب الأنفاس تسابيح، والنوم فيه عبادة.

وهذا ما أظهر فضله رسول الله (ص) عندما قال: «مَن تطوَّع فيه بصلاة، كُتبت له براءة من النار، ومن أدَّى فيه فرضاً، كان له ثواب من أدَّى سبعين فريضة فيما سواه من الشُّهور، ومَن أكثر فيه من الصلاة عليَّ، ثقَّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومَن تلا فيه آيةً من القرآن، كان له مثل أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشُّهور». هو شهر ينادي فيه ربّ العزّة جبرائيل (ع): «يا جبريل، اهبط إلى الأرض، فغلّ مردة الشياطين، كي لا يفسدوا على عبادي صومهم وقيامهم».

إذاً هو شهر العبادة وتربية الروح بامتياز.

وهي فرصة لنا، لتعزيز علاقتنا بالله، لنجدِّدها ونعطيها الحيوية والفعالية، بأن نصلّي كأنّها آخر صلاة نؤدِّيها بين يدي الله، ونصوم كأنّه آخر صيام نقوم به، ونقرأ القرآن بتدبّر ووعي، وأن نذكر الله بقلوبنا لا بألسنتنا فقط، ونتوب إليه توبةً لا نحتاج بعدها إلى توبة، وهذا إنّما يعني تمحيصاً وتطهّراً وتزكية، كأرقى ما يكون التطهُّر والتزوُّد والتزكية والاستعداد للقاء الله.

شهر البذل والعطاء

ونصل إلى المستوى الثالث والأخير، وهو المستوى الاجتماعي: فشهر رمضان هو شهر الفقراء والأيتام، وشهر الزكاة وصلة الرحم، وشهر حُسن الخلق وإدخال السرور على قلوب الكبار والصغار ومَن هم في القبور.

وقد رغَّبنا بذلك رسول الله (ص)، عندما بيَّن ثواب ذلك عند الله، فقال: «مَن فطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق رقبةٍ ومغفرة لما مضى من ذنوبه»، «ومَن حسَّن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومَن خفّف فيه عمّا ملكت يمينه، خفَّف الله عنه حسابه يوم يلقاه»، «ومَن كفّ فيه شرّه، كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومَن أكرم فيه يتيماً، أكرمه الله يوم يلقاه، ومَن وصل فيه رحمه، وصله برحمته يوم يلقاه».

ففي هذا الشهر، ينعم الفقراء والمساكين والأيتام بالعطايا والبذل والاحتضان أكثر ممّا ينعمون في بقيّة الشهور، وتنمو في المجتمع إرادة الرغبة والتواصل مع الأرحام، وتتعزّز قيم المحبّة والرحمة للصغار، والتوقير للكبار، ممّا حرص عليه رسول الله (ص): «واذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه»، «وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم، وتحنّنوا على أيتام الناس يتحنَّن على أيتامكم...».

هذه كانت خطّة رسول الله (ص) للمسلمين في استقبال شهر رمضان، ونحن نستعيد هذه الخطبة في كلّ سنة، لتكون ورشة تربية اجتماعية، ننعتق فيها من أسر أنانيّاتنا وحدود ذواتنا، فتفيض فيه النفوس بالبذل والعطاء والصفاء والتسامح والسموّ الإنساني.

هنيئاً لكلّ الصائمين الذين يصومون عن الطعام والشراب، ويصومون معهما عن كلّ حرام. هنيئاً للذين يجعلون شهر رمضان ساحتهم لبلوغ أعلى درجات رضوان الله ومحبّته. هنيئاً للذين يفكّرون ومن أوّل يومٍ، كيف يخرجون من شهر رمضان، وقد حملوا لأنفُسهم زاداً وفيراً للدُّنيا والآخرة.

هيّا نشدّ الرِّحال، أيّام قليلة ونقف على أعتاب الدعوة الإلهيّة، نتهيّأ ونعدّ أنفُسنا؛ التسامح.. التنازل.. التضحية.. التواصي.. التوادّ والتراحم...

هيّا إلى ضيافة الله، وما أدراك ما ضيافة الله؟ رحمانية ورحمة، عفو ومغفرة، رضا وهداية...

وليكن دعاؤنا: «اللّهُمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والعافية المجلّلة، والرِّزق الواسع، ودفع الأسقام، والعون على الصلاة والصيام والقيام وتلاوة القرآن. اللّهُمّ سلّمنا لشهر رمضان وتسلّمه منّا، وسلّمنا فيه، حتى ينقضي عنّا شهر رمضان وقد عفوت عنّا وغفرت لنا ورحمتنا برحمتك يا أرحم الراحمين».

بارك الله لكم الشهر الكريم، وتقبّل أعمالنا وأعمالكم جميعاً.►

ارسال التعليق

Top