• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإطارُ القرآني لكلمة الإيمان

عبدالكريم غلّاب

الإطارُ القرآني لكلمة الإيمان

لا نكاد نجد كلمة ترددت في القرآن بمثل الكثرة التي ترددت بهما كلمة الإيمان ومشتقاتها إلّا كلمة الله. فقد ترددت كلمة الإيمان أكثر من ستمائة وستين مرة لتؤدي كلّ الأهداف التي قصد إليها القرآن من إحداث مجتمع جديد أساسه الإيمان بالله وتصديق ما أتى به محمّد، وإحلال الثقة والطمأنينة بين البشر، وزرع اليقين في القيم والمثل التي أتى بها الإسلام.

وقد اختيرت الكلمة دون كلمة التصديق أو الاعتقاد مثلاً لأنّها تؤدي معنى لا نكاد نجده في كلمة أخرى. فالأمن في الأصل عدم الخوف، وهو يحمل معنى الثقة المطلقة، حينما نقول: آمنة وأمّنه (بتشديد الميم) على الشيء.

وهذا هو الذي تدل عليه الآيات القرآنية: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) (البقرة/ 283)، (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) (الأحزاب/ 72)، ولو أنّ الأمانة هنا أعظم أمانة يحملها مخلوق وهي طاعة الله أي التعامل مع الله على أساس ما يكون به الإنسان إنساناً والإله إلهاً. فالأمن هنا يحمل معنى الثقة التي تستغني على الرهان. والثقة صلة بالقلب الذي يطمئن. وعدم الخوف نجده في كثير من الآيات: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا) (النساء/ 91).

والمأمن المكان الذي يأمن فيه الإنسان، ومنه قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة/ 6)، وانعدام الخوف والثقة يحمل معنى الطمأنينة. ولذلك فالآمِن (بكسر الميم) هو المستجير ليأمن على نفسه والبلد الآمن والأمين في الآيتين (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة/ 126). إنما تعنى البلد المطمئن والبيت الذي يطمئن فيه الناس. وكلّ الآيات التي تصف البيت الحرام ومكة المكرمة بلفظة الأمن إنما تعني انتفاء الخوف: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ) (إبراهيم/ 35). (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران/ 97). (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ) (إبراهيم/ 35). (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) (القصص/ 57). (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت/ 67). (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) (الحجر/ 82). (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) (النحل/ 112).

وكما يكون الأمن في المكان يكون في النفس وهو في الحقيقة في النفس الإنسانية لأنّه اطمئنان إلى شيء. ومنه الاطمئنان إلى المكان. ولذلك كان الأمن في المكان انتقالاً من النفس إليه. والقرآن يعبِّر عن الأمن الحقيقي في النفس الإنسانية، الأمن الذي لا ينتقل من مكان إليها بل هو صادر عنها قارّ فيها. وفي القرآن آيات تبرز هذا المعنى الإنساني الذي تكاد تنفرد به النفس الإنسانية.

·      (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) (الشعراء/ 146-149).

·      (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (فصّلت/ 40).

·   (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) (النمل/ 89-90).

·      (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ) (الفتح/ 27).

·      (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف/ 99).

·      (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) (الحجر/ 45-46).

·      (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) (سبأ/ 18).

·      (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) (الدخان/ 55).

·      (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ) (القصص/ 31).

الاستعمال القرآني يطرد في تحميل الكلمة معنى الأمن النفسي سواء أكان بواسطة المكان الآمن أو بالأمن الداخلي الذي يأتي من طبيعة الظرف حينما يكون جنات وعيوناً وزروعاً ونخلاً، أو من انعدام ما يبعث على الخوف كحالة الذين يقبلون في الآخرة وهم يحملون حسناتهم فيأمنون من الفزع أو من الارتياح النفسي الذي يبعثه الله في قلوب المصطفين من عباده كوضعية موسى في آية القصص. ومن هذه الثقة والطمأنينة أخذت كلمة الأمانة والآمنة معناها التي هي ضد الخيانة. وفي سياق هذه المعاني السامية يأتي: آمَن المال (بفتح الميم) بمعنى خالصة وشريفة وأنفه وأعزه على النفس. ويأتي تعبير: لك الأمان، أي آمنتك، ومنه يأتي الاعتراف بالشيء والإقرار به وتصديقه وعدم تكذيبه.

ومن هذا المعنى المادي وهو انتفاء الخوف في المكان والنفس ينتقل إلى المعنى المعنوي، أي الشخصية المأمونة التي لا يخشى ضرر ينبعث منها أو من سلوكها وتصرفاتها. والتعبير القرآني يرتاح لنقل الأمن من معناه شبه المادي إلى المعنى المعنوي في كثير من الآيات.

هود (ع) يخاطب قومه ويدعوهم إلى الإيمان فيناقشون دعوته فلا يجد أقوى من كلمة الأمن ليبعث في قلوبهم الاطمئنان إليه فيقول فيما حكى القرآن:

·   (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف/ 67-68).

·      (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) (يوسف/ 54).

·      (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء/ 105-107).

·      (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء/ 123-125).

·      (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء/ 141-143).

·      (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء/ 160-162).

·      (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء/ 176-178).

·      (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الدخان/ 17-18).

·      (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (النمل/ 39).

·      (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير/ 19-21).

·      (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ) (القصص/ 26).

·      (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء/ 192-195).

الأمين في الآيات الكريمات لفظة مشحونة بكثير من الدلالات إذا كان أبسطها هو الصدق في القول وعدم الخديعة، فإنّها حينما تقترن بالنصح في آيات الأعراف تحمل معنى يعطي للنصح دلالةً خاصة، وحينما تقترن بالمكانة في آية يوسف تعطيه معنى آخر يزيد عن الأمانة المادية. وهي في آيات الشعراء تقترن بالرسالة فتعني أكثر من الصدق وتوحي بالاطمئنان وانعدام الخوف. وهي في النمل تحمل معنى الأمانة والاطمئنان إلى ذمة هذا العفريت من الجن الذي يأتي بالعرش قوياً على الاتيان به، وأميناً محافظاً عليه في نفس الوقت.

ويتطور المعنى من الالتصاق بالشخص إلى المعنى التجريدي في مختلف الصيغ التي تأتي منها مادة "أ. م. ن" فنجدها أمَنَة في الآية الكريمة:

·      (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (الأنفال/ 11).

وتقترن في نفس الصيغة مرة أخرى بالنعاس في الآية الكريمة التي تتحدث عن معركة أُحد:

·      (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) (آل عمران/ 154).

ومن هذا المعنى تنتقل الأمانة ضد الخيانة في آيات كثيرة منها:

·      (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) (البقرة/ 283).

ويحدِّد القرآن معنى "المؤمن" بصفات دالة في سورة "المؤمنون" فيقول من جملة أوصافهم: (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون/ 8)، والآية بنفس التعبير نجدها في سورة (المعارج، الآية 32) والأمانة هنا بالمعنى العام سواء كانت مادية أو معنوية. ونجد الأمانة بصيغة الجمع أيضاً في آية أخرى:

·      (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال/ 27).

وقد قرن القرآن هنا خيانة الأمانة بخيانة الله والرسول، ورغم أنّها نزلت في أبي لبابة الذي لم يحترم عهده لبني قُرَيظة الذين قبلوا النزول على حكمه بعد أن أرادوا الصلح مع المسلمين، إلّا أنّها قانون عام لاحترام الأمانة بمعنى العهد الذي يعطى للغير ولو كان مخالفاً لدينك.

المهم أنّ "أ. م. ن" ومشتقاتها من الأمانة إلى الأمنة والأمين والأمن كلّها تعطي معنى التحرر من الخوف والغش والخديعة، كما تعني الاطمئنان وراحة الضمير، فإذا انتقلت إلى الإيمان بالله وبالرسول وبما أنزل عليه بما يصاحب الإيمان من العمل الصالح، فإنّها تحمل معها كلّ هذه الدلالات والشحنات المعنوية.

في هذا الإطار اللغوي تدور كلمة الإيمان. وهو إطار واسع. ولكنه ينتهي عند الاطمئنان والثقة وانعدام القلق النفسي وراحة العقل والطمأنينة من الخوف. ولذلك حينما نقل إلى المعنى الديني أضيف إليه المفهوم الاصطلاحي الذي هو الاعتراف بالله وتصديق ما جاء به نبيه وقبول شريعته. ثم ما وراء هذا الاعتراف والتصديق من كلّ اطمئنان نفسي يتصل بالله أو بالدين أو بالنبيّ وما شرّع النبيّ من أحكام، وما يتبع ذلك من راحة الضمير.

والكلمة تتعلق أساساً بالقلب سواء في معناها اللغوي أو في المفهوم الذي أعطاها القرآن. وهي تردد عشرات المرات في أغلب سوره. فالثقة عند المستجير مثلاً لا تكون إلّا بالقلب، والأمانة من الخيانة لا تكون إلّا بالقلب، والأمن من الخوف لا يكون إلّا بالقلب، والإيمان بالغيب مثلاً لا يكون إلّا بالقلب، وهكذا نجد أنّ صلة الإيمان بالقلب مفهوم أساسي في كلّ استعمال معنوي للكلمة، بل حتى في الاستعمال المادّي لها نجد صلة للكلمة بالاطمئنان والثقة القلبية. فحينما تقول: أعطيت فلاناً من آمن مالي، أو: لك الأمان فإنّك تقصد – وتكاد تصرح –، من أعز ما أملك من مال ومن أنفسه وحلاله. وتقصد في الثانية: لك الاطمئنان وراحة القلب والثقة في ألا أخونك.

وهذا لا يمنع من أنّ الإيمان لا يتم إلّا بالتعبير عنه. فالإيمان في الديانات – كما في الحياة نفسها – ليس صفة خلقية مجردة فحسب. وهو لا يتعلق بالشخص مجرداً عن مجتمعه. ولذلك لا يكون ذا مفعول حقيقي إلّا إذا ترجم اللسان عما شعر به القلب من هذا الاطمئنان والثقة والتصديق. وترجمة اللسان لا تعني فقط الكلمة مقولة، ولكنها تعنى إشهاد المجتمع بأنّ المؤمن انتمى وأصبح ملتزماً بانتمائه. ومن هنا جاء رأي أغلبية المسلمين الذين يقولون: إنّ الإيمان لا يكفي فيه التصديق القلبي، بل لابدّ من التعبير اللساني بالشهادة مثلاً. ولابدّ من أن يتفق العمل مع الإيمان أي إنّ التصديق لا يكون بالقلب فقط، ولكن يترجم إلى العمل، وهذا هو الذي يقصد إليه القرآن حينما يلح على اقتران الإيمان بالعمل الصالح في كثير من الآيات.

ومن هنا كان نقله للمعنى الديني الذي يعني الاعتراف والتصديق والقبول والاطمئنان لما اعترف به المؤمن يحمل كلّ هذه المعاني، ويضيف إليها ما أسبغه القرآن على الكلمة – سواء استعملت في فعل الإيمان أو استعملت كاسم للمؤمنين أو صفة للمسلمين مثلاً – من معاني تعبيرية مكملاً لمعناها الديني ومميزة للمؤمن في بعض الآيات حتى عن مجرد المسلم أو الكتابي مثلاً.

وحتى يطبع القرآن كلمة المؤمن بكلّ هذه المعاني التي حملها إياها جعلها من أسماء الله أو عن صفاته التي تأخذ معنى الاسم، فقال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) (الحشر/ 22-23).

ومن تتبعنا لآيات الإيمان نجد أنّ القرآن يحرص في كلّ آية منها تقريباً أن يضفي على المؤمن صفة من صفاته، تكاد تكون تعريفاً له وتوضيحات لما يقصد إليه القرآن من معاني الإيمان، فالآيات الإيمانية لا تأتي حكاية عن مفهوم متعارف عليه – كالمفاهيم اللغوية المتعارف عليها بين الكاتب والقارئ مثلاً – ولكنها تأتي لتضيف في الغالب جديداً، أو لتذكر بمعنى من المعاني الإسلامية للإيمان ربما وردت في آيات أخرى سابقة أو لاحقة.

وهذا ما يؤكد الفكرة الأساسية في القرآن: وهي الهداية وتكوين المجتمع البشري المؤمن، وليتكوّن هذا المجتمع – حتى بالنسبة للأيديولوجيات المعاصرة – لابدّ أن تحرص على إعطاء المدلولات الحقيقية للأفكار التي تريد التبشير بها في كلّ مناسبة تمكنك من ترديد هذه الأفكار. وهذا ما نجده في القرآن حينما يحرص على توضيح الفكرة كلما أتت الفرصة.

وقضية الإيمان كانت من القضايا الأساسية التي عالجها القرآن لأنّها كانت موضع صراع بين مجتمعين كبيرين: مجتمع المؤمنين الذي كان الإسلام يعمل على خلقه، ومجتمع غير المؤمنين من الوثنيين والمشركين والمنافقين والكتابيين والكفار. وقد حاربوا الإسلام وحاربهم، لا بالسيف وحده، ولكن كذلك بالمحاجة والمنطق والقول. وكان القرآن سبيل الإسلام لهذه المحاجة العلنية. ولذلك كانت الفرص كثيرة للدعوة إلى الإيمان ومحاجة غير المؤمنين. وكلما جاءت الفرصة أعطى القرآن للإيمان معنى قد يكون جديداً، وقد يكون توضيحاً أو إضفاء إشعاع جديد على ما سبق من المعاني.

وكما هدف القرآن إلى تكوين مجتمع للمؤمنين أخذ من المؤمن مثال الإنسان الواعي بمسؤوليته في الحياة، المناضل في سبيل الحياة الأفضل، وفي سبيل إقامة العدل والحرية والاحتفاظ بالكرامة. ولذلك كان المؤمن دائماً قطب الرحى في النماذج البشرية التي قدمها القرآن: حلل نفسيته وأبرز حقيقته وصفاته، وعقد مقارنة واضحة بينه كنموذج أمثل للإنسان وبين النماذج الأخرى كالمشرك والمنافق والكافر والكتابي، وهو في ذلك لا يقصد إلى تحليل النماذج البشرية كنماذج إنسانية فحسب، ولكنه كان يقصد إلى ما تحمله هذه النماذج من أفكار.

 

المصدر: كتاب صراع المذهب والعقيدة في القرآن

ارسال التعليق

Top