• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإمام الحسين (ع).. طاقة وعطاء

عمار كاظم

الإمام الحسين (ع).. طاقة وعطاء

إنّ الإمام الحسين (ع) كان يمثل الحقّ وإنّ يزيد بن معاوية يمثل الباطل. ولكن هل يختص الحسين (ع) بطائفة معينة فقط دون سائر المسلمين، وهل يحق لجماعة أن تحتكرالحسين (ع) لنفسها؟ وهل لجماعة أخرى تتقاعس عن الانتماء إلى الحسين (ع) إلى الدرجة التي نراها؟ إنّ الحسين (ع) ليس إمام فرقة بعينها ولكنّه إمام مفترض الطاعة للمسلمين أجمع وإن خذلوه، بل هو شخصية عالمية طالما أشاد بها علماء ومفكرون من الديانات المختلفة ووقفوا أمامه إجلالاً وإعزازاً، ولا أشك بأنّ غير الشيعة الإمامية يعرفون قدر الحسين (ع) فهو سيد شباب أهل الجنة ولكنّهم يختلفون في كيفية إحياء الذكرى من خلال بعض الشعائر، فالإمام عندما خرج لم يخرج أشِراً ولا بطِراً وإنما خرج لطلب الإصلاح في أمةِ جده.

ويمكن لنا كمسلمين أن نجعل من الحسين (ع) عامل وحدة ونقيم الندوات المشتركة ونرقى بالحدث إلى مستواه العالمي اللائق به، فالحسين (ع) ليس البكاء البحت ولبس السواد فحسب وانما هو العمل والتضحية والفداء والعطاء، والوقت قد حان لنستفيد من وقائع التاريخ لخير الأُمّة وليس العكس ونجعل من واقعة الطف عامل وحدة وننبذ الفرقة والخلاف، كفانا تشتتاً وتمزقاً وتفرقاً. إنّ أروع ما يميز حركة الإمام الحسين كونها حركة سلمية وإن سقط وأصحابه صرعى مضمخين بدمائهم الزكية وانّه (ع) أعطانا درساً بليغاً في حقن الدماء عندما رفض أن يبدأ القوم بالقتال وعندما طلب من أصحابه أن يتخذوا الليل جملا ويأخذ كلُّ واحد منهم بيد واحد من أهل بيته ويتركوه لوحده للطغاة لأنّهم يريدونه هو، وانّه مستعد للشهادة والتضحية وحده وكم طالب القوم أن يخلوا سبيله ويدعوه يرجع من حيث أتى ولكنهم أبوا إلا أن يقتلوه بالطريقة المأساوية المعروفة فاستحقوا لعنة الله ورسوله إلى يوم القيامة.

إنّ خطّ الحسين (ع) هو خط الرحمة والمحبة والسّلام وقد وَرِثَ هذا الخط من أخيه الإمام الحسن (ع) الذي حقن دماء المسلمين في صلحه المشهور ومن أبيه الذي عَمِلَ المستحيل لتفادي الحروب التي فرضت عليه في الجمل ونهروان وصفين، لقد وَرِثَ خط الرحمة من جده الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين. انّه خط الأنبياء والرسل وهو وارثهم واستلم أبناؤه من بعده هذا الخط، حيث لم يسجل التاريخ عليهم أنّهم دعوا يوماً إلى عنف أو إلى إيذاء الآخرين ولم يسجل التاريخ انّ علياً والحسن والحسين وأبناءه من بعده تهافتوا على المناصب والخلافة لأنّهم ارفع شأنا من كرسي الحكم وأعظم قدرا، فالحسين يحكم القلوب في الدنيا والآخرة، وكم حاول الطغاة منذ 14 قرناً أن يطفئوا نورَ الحسين الذي أراد الله تعالى أن يتمه ولو كَرِهَ الكارهون، فها هو الحسين يُذكَرُ كلَّ سنةٍ وبكلِّ لغةٍ وفي كلِّ أرضٍ بالحرارة وبالحماس نفسيهما وكأنّه قُتِلَ بالأمس، وهذه الآلاف من الرايات والأعلام والمسيرات هي جزء من الشرف والعزة والكرامة التي حباها الله عبده الصالح على تضحيته الفريدة، وما ادخره الله له في الآخرة أجّل وأعظم، وبالمقابل أين يزيد وأين الحجاج وأين المتوكل وأين... ؟ إنّ القضية الحسينية هي قضية ذات أبعاد ثقافية، تحرّك السياسة في امتدادات الثقافة، وتحرك الجهاد في وعي الإسلام، والقضية هذه كانت نتيجةً طبيعيةً للتراكمات التي عاشها المجتمع الإسلامي في كلِّ انحرافاته، وفي كلِّ ما دخل فيه من هنا وهناك.

لذلك كانت كربلاء فرعاً من أصل، وجزءاً من كلّ، لن نستطيع أن نذكرها إن لم نذكر بدراً وأُحُداً والأحزاب وحنيناً وكلّ ما صنعه المجتمع المشرك في مواجهة رسول الله (ص) والإسلام في مكّة، ولذلك، لم يعد بإمكاننا أن نفصل كربلاء عن كلّ مأساة علي (ع)، ومأساته هنا ليست في أنّه ضُرِبَ في المحراب، فهي أقلّ أنواع مأساته، ولكنّ مأساته كانت في هذا العنفوان الكبير، والقمّة العليا من العلم والإبداع وحركية الفكر، ومواكبة امتداد الإنسان في مدى الأجيال، حتى يشعر كل جيلٍ بأنّ عليّاً (ع) معه في حضوره الثقافي والروحي، وفي كل أبعاده الإنسانية. وهو يرى القضية في معرفةٍ تنفذ إلى عمق الأشياء بأبعادها السلبية والإيجابية، "وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين". إنّ الذي يخرج الفكرة من أعماق الأعماق في خطّ الخير، قادر على أن يحرّك الفكرة في كلِّ الآفاق في خطّ الشر، ولكنّ دونها حاجزاً من أمر الله ونهيه يمنعه من التقدّم، لأنّ الرسالة لابدّ من أن تتقدّم، ويقف القائد يحدّق بها ويرعاها وينمّيها بعناصرها. وهكذا كانت مأساته، "إنّ ها هنا لعلماً جمّاً لو وجدت له حَمَلَة"، حيث كان يريد من خلال هذا العلم أن يثقِّف الأُمّة، إذ كان يعتبر أنّ العقل عندما ينفتح على الثقافة، فإنّ الفكر ينطلق بالحقّ مثقّفاً، وعندما ينفتح القلب عليها، تنطلق العاطفة بالحقّ مثقّفة، وعندما تنفتح الحياة عليها، تنطلق الخطوات المثقّفة، عندما تجاهد ثقافياً في الحرب، وعندما تجاهد سياسياً في الواقع، لأنّ قصّة أن تكون المجاهد، هي أن يكون عقلك في وعي الجهاد للقضيّة، ووعي القضية للجهاد. تلك كانت مأساة علي (ع)، وقد عاش (ع) في كلِّ كيان الحسين (ع)، فكان عقله وقلبه ومأساته عقل الحسين (ع) وقلبه ومأساته، ونحن نعرف من خلال خطاب الإمام الحسين (ع)، أنّه كان خطاب الأُمّة: "خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي"، كانت الأُمّة كلّ همّه، كما كانت الأُمّة همّ جدّه وأبيه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 110)، وأراد للأُمّة أن تتجدّد بحركيّة بناء المعروف في واقعها، وطرد المنكر من ساحاتها، كانت هذه هي القضية، ولذلك كانت آلام الحسين (ع) كآلام أبيه، كان يتألّم لكلّ هؤلاء الذين قيل له عنهم: "إنّ قلوبهم معك وسيوفهم عليك". وكان الحسين (ع) يتألّم، كيف تكون نبضات القلب ضعيفةً، بحيث إنّها لا تعطي الساعد وعي السيف الذي يضرب به، ووعي المعركة التي يخوضها. وقيمة القلب أنّه يتكامل مع العقل، العقل يعطي الفكر، والقلب يعطي الإحساس والشعور والنبضة الإنسانية من أجل أن تنطلق النبضات في خطّ الفكر، ولكن عندما تنحرف مسيرة القلوب، يبقى الفكر مجرد معادلة في التجريد، وينطلق القلب في اتجاهٍ آخر، فيحلّق الفكر في الفضاء، ويتمرَّغ القلب في الأوحال، لأنّ الدماء التي تضخّ في القلب هي دماء مليئة بكل ما يثقل القلب ويحجب عنه وضوح الرؤية، فيحبّ من أبغض الله، ويبغض من أحبّ الله. ولذلك، فإنّ القصة ليست في أنّ الإنسان قلب وعقل فقط، بل هو وحدة يتحرّك فيها العقل مع القلب، لتنطلق الطاقات في الاتّجاه السليم.

ارسال التعليق

Top