• ١٨ تموز/يوليو ٢٠٢٤ | ١١ محرم ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإمام علي (ع) وأوجُه العبادة

عمار كاظم

الإمام علي (ع) وأوجُه العبادة

إنّ العبادة الحقيقية هي النابعة والمنبثقة عن علم ودراية وفهم، وملؤها الإخلاص لله تعالى، فالعابد عليه أن يعرف معنى العبادة وكيفيتها وخصوصياتها ثم يمزج علمه مع النية الصافية والإخلاص الطاهر. فقد وردت روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ العبادة القليلة عن علم وإخلاص واستمرار أفضل من العبادة الكثيرة الفاقدة لهذه الأمور. وورد عنهم أيضاً أنّ العبادة ليست معياراً لوزن الشخص وإنما عقله الضابط والمميز له، نعم تكون العبادة شاخصاً جيّداً لمعرفة الناس إذا امتزجت العبادة مع السلوك اليومي النظيف والمنطق المتعقل والانضباط السلوكي واحترام الناس ومراعاتهم ومداراتهم... عندها تكون العبادة ضابطاً جيّداً وميزاناً مهماً... هذا ما نتعلّمه من عبادة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) التي كانت بهذا الشكل، وعبادته كانت عبارة عن صلاته وصيامه وصدقاته وبكائه وقيامه الليل وحبّه للمساكين وغيرها، وإن كانت حياته كلّها عبادة.

ولقد عظم المعبود عزّوجلّ في نفس الإمام عليّ (عليه السلام) فصارت عبادته تعبيراً عن الحب والشوق إليه، واستشعار أهليته للعبادة دون سواه ومن أجل ذلك كان عليّ (عليه السلام) لا يعبد الله خوفاً من عذابه، ولا طمعاً في جنّته ولا فيما أعده من نعيم للمتقين، وإنما سما الإمام (عليه السلام) في علاقته بالله تعالى إلى أعلى الدرجات أُسوة بأُستاذه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد كشف الإمام (عليه السلام) عن جوهر علاقته بالله تعالى وطبيعتها بقوله: «إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك». فأعظم به من يقين وأكرم به من إيمان!.

ولقد حدد الإمام (عليه السلام) ألوان العبادة في كلمة خالدة: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار». وكانت عبادته (عليه السلام) من النوع الأخير، حيث تصدر كحصيلة للشعور بأهلية المعبود واستحقاقه لها. ولكثر قيامه للعبادة ليلاً يحدثنا أحد الراوة حيث قال: «بت ليلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان يصلى الليل كلّه ويخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء ويتلو القرآن فمرّ بي بعد هدوء من الليل فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟» قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين. قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فراشاً وماءها طيباً والقرآن دثاراً والدعاء شعاراً وقرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم...». وهكذا كان عليّ (عليه السلام) في شدة تعلقه بالله، وعظيم تمسكه بمنهج الأنبياء (عليهم السلام) إنّه ترجمة صادقة لعبادة محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزهد المسيح (عليه السلام). وحول التزامه بقيام صلاة الليل طول عمره الشريف يُروى عنه (عليه السلام) قال: «ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): صلاة الليل نور». فقال ابن الكواء: ولا ليلة الهرير؟! قال (عليه السلام): «ولا ليلة الهرير». وإلى جانب تعاهد الإمام (عليه السلام) لأمر الصلاة فقد كان كثيراً ما يوصي باتباعه بتعاهد أمره، وأدائها في أوقاتها وتعريفهم بأهميتها وآثرها في شخصية المسلم فها هو يدعو المؤمنين من أصحابه: «تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها واستكثروا منها وتقرّبوا بها فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سُئلوا ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين».

ومن الشواهد على تعاهد الإمام عليّ (عليه السلام) لأمر الصدقة حيث نستقي من القرآن الكريم نماذج من صدقة الإمام (عليه السلام) عطرتها آيات الله تعالى بالثناء الجميل. ورسمت أبعاد الثواب الإلهي العظيم الذي لا يعلم مداه غير الله الذي أعده تبارك وتعالى لأمير المؤمنين (عليه السلام) ففي حادثة إطعام عليّ وأهل بيته (عليهم السلام) للمسكين واليتيم والأسير على مدى ثلاثة أيام وإيثارهم لهم على أنفسهم واكتفائهم بالماء وهم في أيام صوم متتالية تنزّلت آيات الله تعالى مسجلة أعظم مأثر عليّ (عليه السلام) في ضمير الوجود حيث ستبقى ترددها الآفاق والألسنة وصفحات المجد: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (الإنسان/ 8-12). وليس المهم في الأمر حجم ما قدمه الإمام (عليه السلام) لأولئك المحتاجين فإنّ الكثير من الناس يبذلون أضعاف ذلك. ولكن شتان بين ما ينفق لوجه الله خالصاً دون شائبة وبين ما ينفق من أجل غرض دنيوي أو جاه أو ذكر يشاع بين الناس. كما إنّه شتات بين مَن ينفق كلّ ما لديه وهو أحوج ما يكون إليه وبين ما ينفق بعض ما لديه... وهكذا يختلف التقويم عند الله بين ذاك وذلك!

ارسال التعليق

Top