الحقّ كلمة سهلة في النطق.. واسعة في الوصف.. رحبة في الكتابة والتأليف.. ولكنّه صعب في التطبيق ضيق عند العبور. وهذا ما عبرّ عنه الإمام عليّ (عليه السلام) في قوله: «فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف». من خصائص الحقّ لدى أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) أنّه «لا يجري لأحد إلّا جرى عليه ولا يجري عليه إلّا جرى له»، أي أنّ الحقوق في المجتمع متبادلة بين الأفراد فهي لا تجري في صالح أحد دون الآخر. يذكر الإمام (عليه السلام) خصيصة أخرى وهي التكافؤ في الحقوق بين الناس، إذ ليس هناك مَن يقول أنا أجل شأناً من أن يساعدني أحد في عمل الحقّ، وليس هناك أحد مهما كان صغيراً في شأنه لا يكون له في عمل الحقّ نصيب، فللجميع حقوقهم «تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها إلّا ببعض». قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2)، الجميع - عاليهم ودانيهم، عالمهم وجاهلهم، قويهم وضعيفهم، سيِّدهم وخادمهم - مطالبون بذلك، فإذا رأى أحدهم نفسه أسمى من ذلك في التعاون تعرض ذلك الرباط الاجتماعي للخطر. فالبناء الاجتماعي يبقى قائماً ما دامت تلك الحقوق المتبادلة محفوظة، إلّا فإنّ تراكم عدد الآجر بعضه فوق بعض دون ارتباط وثيق لا يصنع بناءً متيناً. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً».
هكذا يثبت الإمام (عليه السلام) تفرده في أدقّ المعارف عبر الزمن. ومن آثاره الريادية في العلوم المختلفة ما عرف عنه في مجال علم الفقه فهو أصله وأساسه وكلّ فقيه في الإسلام عيال عليه، وعلم التفسير فعنه أخذ ومنه فرّع، وعلم النحو الواضع الأوّل لأساسياته، وفي علوم اللغة من البلاغة والفصاحة والخطب وما جرى مجراها فقد كان مشرِّعاً للفصاحة ومسنّاً للبلاغة وقد شهد له أعداؤه قبل أصحابه في ذلك. حتى الشعر كان له منه نصيب، وله تنسب الحكم، وكان للحكمة العلوية أبلغ الأثر في توجيه الثقافة الإسلامية. وإليه يرجع تأسيس علم الكلام وفلسفة الإلهيات في الإسلام.
وهو الذي طلَّقَ الدنيا، وضرب أروع الأمثلة في الزهد والقناعة في طعامه ولباسه وفراشه وهو أمير المؤمنين، وهو القائل: «أأقنع من نفسي أن يُقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش». حتى أنّ أحداً من رعاياه لم يمت عن نصيب أقل من النصيب الذي مات عنه (عليه السلام) وهو خليفة المسلمين. فسلوكه ينطوي على رفض التكبر والتعالي وكان يخدم بيته فيحطب ويستسقي ويحمل ما يشتري في طرف ردائه وكان يخدم ضيفه بنفسه.
أمّا تقواه وعبادته، فهي عند أمير المؤمنين مزيج من الحبّ والتقديس لذات الله العزيز المجيد، والربط بين القيم التي جبل عليها وبين آلاء الرحمن التي تستحق التقدير والإكبار. وهي التعبير الشفاف عن العلاقة بين الوجود الصافي ونفسه الصافية، وأنّها المعادلة التي تحكم تصرّفاته اليومية الدائمة مع نفسه ومع الآخرين لا يُصيبها تذبذب ولا تشوبها شائبة ضعف أو نفع، وميزانها التوافق بين حقيقة الاعتقاد ورضا الله سبحانه. إنّها عبادة الأحرار كما يسميها سيِّد الأحرار أمير المؤمنين (عليه السلام) على أنّ عبادته (عليه السلام) بلغت حدّ الوصف، فمنه تعلم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة.
أمّا عدله، فقد كانت العدالة بعض كيانه وجزءاً من بنيانه وأصلاً من طبعه، وهو العدل المحض في قضائه وأحكامه. لقد قال أحد المنصفين: «ليس غريباً أن يكون علي أعدل الناس، بل الغريب أن لا يكونه».
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أقضاكم عليّ»، وأثر عنه (عليه السلام) أنّه أدخل في القضاء ما يعززه ولم يكن فيه، فهو أوّل مَن فرق بين الشهود، وأوّل مَن وضع صناديق الشكوى. كما أنّ وصاياه ورسائله إلى الولاة تكاد تدور حول محور واحد وهو العدل، وكان يأمر بالمساواة ويعمل بها.
ويرى (عليه السلام) أنّ فضل السابقة في الإسلام هو عند الله، والدنيا معاش والناس في المعاش سواء. وهو أوّل مَن طبق الحكم بـ«من أين لك هذا». وكان يحسب اقتطاع الأرض بالقرابة والنفوذ في جملة المال المنهوب. وكان يرى أنّه ما جاع فقير إلّا بما متع به غني وإنّ كلّ نعمة موفورة إلى جانبها حقّ مضيع.
إنّ العهد الذي كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) أروع ما أنتجه عقل وقلب ومروءة وصدق إيمان، إنّه مُنتهى مراقي العدل في الأرض. لقد سمّاه الكاتب القدير جورج جرداق بالوثيقة العلوية لحقوق الانسان.
أو من باب شجاعته ومروءته: فإنّ شجاعته أكبر من معنى الشجاعة المألوف، إنّها جزء من رسالة الإسلام وهي حصنها، ومع هذا لم يؤشر على مشهد واحد من مشاهد بطولته أنّه يمثل عدواناً.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق