الإمام عليّ (عليه السلام) هو الإمام الذي كان يعيش المسؤولية في عقله وقلبه وحياته، منذ أن انطلق مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتعلّم منه أن يكون الإنسان الرسالي المسؤول على مستوى النظرية والتطبيق، وعلى مستوى الجهاد والحركة وما إلى ذلك. كانت علاقته (علیه السلام) بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) علاقةً أبويّةً بكلِّ ما للكلمة من معنى الرعاية والحماية والتوجيه والاندماج. والإمام عليّ (عليه السلام) كان عندما يتحدّث عن مواقفه وعن جذوره التربوية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه يتحدّث حديث الإنسان الذي لا يفاخر بذلك، فعليّ (عليه السلام) هو المتواضع لله، وهو المتواضع للناس من خلال الله، ولكنّ عليّاً (عليه السلام) أراد أن يقول للناس إنّه الإنسان الذي عاش مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ أوحى الله إليه، الإنسان الذي عاش عقل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلبه وعاطفته وأخلاقه، وكان معه في الليل والنهار قبل أن يبعثه الله بالرسالة وبعده، وكان من خواصّه، ولم يسجد لصنم قطّ، ولهذا قيل عنه: (كرَّم الله وجهه).. وقد أراد الإمام عليّ (عليه السلام) ـ من خلال حديثه ذاك ـ أن يؤكِّد الموقع القيادي الذي يتميّز به في كلّ الأُمور التي لابدّ للقائد من أن يتّصف بها؛ في علمه، وعقله، وروحه، وشجاعته، وفي صلابته وخبرته، وفي رعايته للناس، وما إلى ذلك.. فأراد أن يقول لهم: اختاروا القيادة من خلال العناصر الأساسية في تاريخ القائد وعقله وثقافته، ولا تندفعوا في اختيار القيادة بفعل بعض العناوين والأوضاع والمجاملات وما أشبه ذلك، لأنّ القيادة تمثِّل الموقع الذي يقود الناس إلى ما فيه صلاح الدِّين والدنيا والآخرة. لذلك، فإنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قدَّم عليّاً للناس بما يُقدِّم صاحب المسؤولية المسؤول الذي سوف يحمِّله المسؤولية. فلماذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول ـ وهو ما يذكره جميع المسلمين ـ: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما يدور»؟ إذ لم يكن الإمام عليّ ـ يومذاك ـ مسؤولاً في موقع الحكم في ذلك الوقت، فكان واحداً من المسلمين يُجاهد ويعيش مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلماذا التركيز عليه إذاً؟! ليس إلّا لأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يقول للمسلمين: تطلّعوا إلى هذا الإنسان، فهو يمثّل الحقّ كلّه، وبذلك يمثّل الإسلام كلّه، لأنّ الإسلام هو الحقّ، كما ذكرت الآية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29)، فالإمام عليّ (عليه السلام) كان كلّ عقله حقّاً، ولم يقترب منه الباطل، لا من قلبه ولا من حياته، ولم يقل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل تلك الكلمة بحقّ أحد ـ قريباً كان أو بعيداً ـ سوى الإمام عليّ (عليه السلام)، ليقوم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعملية إيحائية، للتدليل على مكانة الإمام (عليه السلام) في المستقبل. ثمّ كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابها»، فكأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يقول للناس: إنّكم إذا فقدتموني، فإنّكم لن تفقدوا العلم بفقدي، فقد تفقدون رسالة السماء إلى الأرض، ولكن لن تفقدوا العلم، لأنّ الباب لا يزال مفتوحاً على مدينة العلم من خلال الإمام عليّ (عليه السلام)، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «عليّ أقضاكم»، فعليّ يملك ميزان الحقّ في كلّ ما يتنازع فيه الناس. فالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قدَّم عليّاً للمستقبل الإسلامي من بعده، قبل أن تُطرح المسألة في الساحة، لأنّه أرادهم أن يعرفوا عليّاً في الأُفق الواسع، وليس كبطلٍ للجهاد فقط، ولكن كبطلٍ للحقّ والعلم والمسؤولية كلّها. ولكنّ المشكلة هي أنّ القوم لم يبلغوا الرُّشد الثقافي الذي يملكون فيه أن يدرسوا عمق الأُمور، ويتعرّفوا على طبيعة الإيحاءات التي أراد الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الإيحاء بها، ولذلك، لم يرتقوا إلى ذلك المستوى. وهذا ما جعل الناس عندما حصلت واقعة غدير (خم)، لتؤكّد أنّ عليّاً أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بنص القرآن ـ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، يذهبون يميناً وشمالاً في احتمالات لا يملك الإنسان أيّ تفسير فكريّ لها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق