• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإمام عليّ (عليه السلام) ومعاني المسؤولية

عمار كاظم

الإمام عليّ (عليه السلام) ومعاني المسؤولية

هناك مَن إذا ذكرت اسمه، شعرت بنفسك تدخل في كهوف التاريخ لتبحث عنه، لتحمل شمعةً هنا وهناك، حتى تستطيع أن تعرفه وتتعرّف فكره وحياته. وهناك مَن إذا ذكرته، شعرت بأنّ اسمه يتجاوز الزمن، ويحلّق في الآفاق الواسعة التي تطلّ بك على المطلق، ويطوف بك في كلّ موقع من مواقع الحياة، حتى إنّك تفتش عن شيء لم يتحدّث عنه تصريحاً أو إيحاءً أو إيماءً، فلا تجد هناك شيئاً من ذلك. وعندما تدخل عقله، فإنّك ترى العقل الذي كلّه شروق. هناك أشخاص إذا ذكرتهم، تشعر بأنّهم ينطلقون بك في التجريد، حتى لتحسّ في نفسك معهم بأنّك تبتعد عن الحياة. وهناك أُناس إذا ذكرتهم، شعرت بأنّهم إذا أمسكوا المجرّد بفكرهم، أعطوه حركيته وأنزلوه إلى الواقع.. ذلك هو عليٌّ (عليه السلام)، الذي إذا حاصره التاريخ ليبحث عن بعض الحواجز التي كانت تنتصب أمامه، وعن الدوائر التي أُريد له أن يُحاط بها، وعن الآفاق الصغيرة التي حُشَر اسمه فيها، وعن العصبيات التي أُريد له أن يُكتب في عنوانها، فإنّك لن ترى عليّاً في كلّ ذلك. لأنّ عليّاً (عليه السلام) هو الإنسان الذي عاش حياته كلّها مع الله تعالى، بانفتاحٍ يجعلك تعيش مع عباد الله لتحسّس آلامهم ومشاكلهم، ولتبدع لهم من خلال الله في عقولهم عقلاً، ولتُبدع لهم من خلال وحي الله في فكرهم فكراً.

كان الإمام عليّ (عليه السلام) يعمل على تثقيف الناس بالإسلام، ويبدو ذلك واضحاً من خطب نهج البلاغة، حيث كان يستفيد من كلّ المناسبات لتوعية الناس بكلّ قضايا الساحة، فكان الحاكم الذي يريد أن يرفع المستوى الثقافي لشعبه، وليس الحاكم الذي يريد أن يستثير عواطف شعبه ليربطه به. وهذه هي مسؤولية المسؤولين في الساحة الإسلامية، إذ عليهم أن يثقّفوا الأُمّة بكلّ ما تحتاجه، من ثقافةٍ سياسيةٍ أو اجتماعية أو دينية، لأنّ الله فرض على كلّ عالم يملك علم الإسلام، ويدرك حاجة الناس، أن يلاحق الناس ليعلّمهم، ويقتحم عليهم بيوتهم ليعلّمهم، وينتهز كلّ الفرص في ذلك ليرفع مستواهم، إذ لا يجوز - حينئذٍ - لإنسان أن يبقى في بيته، ليكتب ويخطب ويتحدّث ويناقش ويحاور، سواء كان في مستوى المسؤولية الرسمية أو لم يكن. فقد ورد في القرآن الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) (البقرة/ 159).

وقد أولى الإسلام مسألة التعليم أهميّة خاصّة. ومن هنا يقسّم الإمام عليّ (عليه السلام) الناس، في حديثه لكميل بن زياد: «الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلِّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع: أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق». ثمّ يقول: «يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تُنْقِصهُ النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق». ثمّ يحدّد الإمام (عليه السلام) للناس قيمة الإنسان فيقول: «قيمةُ كلِّ امرِىءٍ ما يُحْسِنه». وقد ورد في القرآن الكريم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزّمر/ 9).

ونعرف من كلّ ذلك، أنّ الله يريدنا أن نكون الواعين، ويريد من العلماء أن يوعّوا الناس في كلّ أُمورهم، ويعظوهم ويذكّروهم بالله، ويذكّروهم بعذابه وثوابه، ويعرّفوهم أحكامه، ويوجّهوهم نحو ما يحبّ، ويعرّفوهم كلَّ قضاياهم، ولا يجاملوهم في الحقّ، بل أن يقفوا ليقولوا كلمة الحقّ. هذا ما يجب أن نستذكره في حديثنا عن الإمام عليّ (عليه السلام)، الذي وُلِد في بيت الله، وجعل حياته كلّها في خدمة الله، فكانت شهادته بين يديه وفي بيته. وحين كان يشعر بأنّ الموت يدنو منه، كان يفكّر بتعليم الناس، فكان يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني»، وهو يكاد يلفظ أنفاسه، ذلك لأنّه كان يحبّ أن ينشر الوعي في حياة الناس.. هذا هو عليّ (عليه السلام) الذي نعتزّ به من خلال جهاده العظيم، وعلمه الجمّ الذي يخشع أمامه المُسلِم وغير المُسلِم، وعدله الذي أكّده في كلّ مواقع حياته، وإخلاصه لله وللإسلام.

ارسال التعليق

Top