• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإنسان وتقبل التربية

الإنسان وتقبل التربية
◄إنّ أصل تقبل الإنسان للتربية برأي الإسلام وعظماء الفلاسفة وخبراء التعليم والتربية ليس محل تردد، وإنكاره ينافي الفطرة والضمير ويخالف ضرورات العقل والشرع أيضاً بل هو في حكم إنكار البديهيات. ومبنى العقلاء في العالم يؤكد على هذا الأصل.

وعلى هذا الحال فإنّ هذه المسألة ومنذ العهود القديمة كانت محل بحث الفلاسفة وأرباب الديانات، وربطها بعضهم بمسألة (الجبر والاختيار) و(السعادة والشقاوة الذاتية) للإنسان.

بالتعمق في مسائل العلماء وأهل الخبرة والمعرفة بالإنسان، وبالالتفات إلى المباني العقلية والاعتقادية، فإنّ أصل تقبل الإنسان للتربية ليس محل بحث وأخذ ورد، وفي الوقت الذي تكون فيه الحيوانات الوحشية قابلة للتربية فكيف يمكن أن يكون تقبل الإنسان للتربية محل تردد؟ إنّ وجود النفس الأمارة والميول الحيوانية والشيطانية في الإنسان لا تلزمه على التخلق بالأخلاق الرذيلة؛ لهذا فكما أنّه يوجد استعداد للشر في وجود الإنسان، فقد وضع أيضاً في خلقه استعداد للخير.

إضافة إلى هذا فإنّ المربين الإلهيين والكتب السماوية أسرعوا لمساعدة العقل والفطرة وإعانة الإنسان على الإمساك بزمام النفس ومجاهدة الرذائل النفسانية.

  إنّ النفس في بدء فطرتها خالية من كلّ أنواع الكمال والجمال والنور والبهجة، كما أنّها تكون خالية أيضاً من أضداد هذه الصفات – المذكورة الأربعة – فكأنّ النفس صفحة نقية من كلّ رسم ونقش، لا توجد فيها الكمالات الروحية ولا تتصف بالنعوت المضادة لها. ولكن قد أودع فيها نور الاستعداد والأهلية لنيل أي مقام رفيع أو وضيع، وأنشئت فطرتها على الاستقامة، وعجنت طينتها بالأنوار الذاتية. وعندما تجترح سيئة، تحصل في القلب ظلمة وسواد. وكلما ازدادت المعاصي تضاعفت الظلمة والسواد، إلى أن يغشى الظلام القلب كلّه، وينطفئ نور الفطرة ويبلغ مرتبة الشقاء الأبدي. فإذا انتبه الإنسان قبل أن يستوعب الظلام القلب كلّه، ثمّ اجتاز منزل اليقظة ودخل على منزل التوبة واستوفى حظوظ هذا المنزل.

إنّ الناس ليسوا سواء من حيث القابلية والاستعداد، كما أنّهم هم ليسوا سواء من ناحية الشكل اللون والعرق. فقد قررت الإرادة الحكيمة للحقّ تعالى في دورة نظام الحياة الاجتماعية للبشر أن يخلق الأفراد مختلفين وبميول مختلفة؛ وليس معنى هذا التفاوت نفي قابلية التربية الأخلاقية حتى لو كان اختلاف المستويات والعوامل والشرائط يؤدي إلى سهولة أو صعوبة التربية. فلا ينبغي أن ننظر إلى العوامل الذاتية الموجودة في طينة الإنسان وخصائصه الإرثية، وإلى الأكل وحليب الأُم وروحيات الوالدين الحسنة والسيئة، على أنّها بدون تأثير. لقد أعطى الإسلام التوصيات اللازمة بهذا الخصوص ووضع برامج تعليمية وبنّاءة لتؤسس الجيل الصالح عن طريق الزواج الشرعي والإرشادات التربوية والأخلاقية للأب والأُم في مسألة الحلال والحرام والقيم المعنوية التي يجب الانتباه إليها.

نحن نعتقد بأنّه يمكن إحباط العوامل الذاتية والوراثية بتأثير التربية. فها هو الإسلام قد وضع برامجه التربوية للاختبار في محيط قد تجذر فيه الكفر والشرك وفساد الأخلاق وكان موسوماً بالجاهلية والضلال، ولكن في ظل التعليم والتربية الإسلامية في ذلك المحيط، ومن ذلك الجيل، تربى أناس عظام.

بالإضافة إلى العوامل الذاتية يجب أن لا نغفل عن أنّ شروط ومقتضيات المحيط الاجتماعي تترك تأثيراً أيضاً على أخلاقيات الإنسان مثل: المدرسة، والبيت، الجامعة، والثقافة والمحيط الاجتماعي، فإنّ هذه الأمور كلّها تهيئ الأرضية للتقبلات الآتية، وكذلك الأعمال الحسنة وتعامل الإنسان الحسن والسيء مع الآخرين فإنّه يؤثر أيضاً، فإذا ما سعى الإنسان إلى تطهير داخله ومرآة قلبه من الصدأ، فإنّ أنوار الهداية سوف تتجلى في قلبه أكثر فأكثر، والقرآن يذكر بدور المجاهدة في اهتداء الإنسان أكثر إلى طرق الهداية والكمال الأفضل (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) (الروم/ 10).

وهناك أيضاً دورٌ لعوامل أخرى في قابلية الإنسان للتربية مثل التدبر والتعقل، وهذه يمكن إعطاؤها عنوان واعظ داخلي، وكذلك التواضع في مقابل الحقّ في تقبل التربية.

فإنّ قابلية الإنسان للتربية ليست محل إنكار حتى لو استلزمت شروطاً. ولكن بواقعية أنها أخذت من أصل اختيار الإنسان. وبملاحظة ذلك. حتى الذين تلوثوا بالرذائل النفسانية ينبغي أن لا ييأسوا من إصلاح نفوسهم وأن لا يستسلموا لعواقب سوء المعاصي.

ولا تظن أنّ الرذائل النفسانية والأخلاق النفسية غير ممكنة الزوال، إنّ ظنوناً باطلة توحيها إليك النفس الأمارة والشيطان لكي تنحرف عن سلوك الآخرة وإصلاح النفس. فما دام الإنسان في دار الزوال وعالم التبدّل هذا، فمن الممكن أن يتغير في جميع صفاته وأخلاقه، ومهما تكن صفاته متمكنة، فإنها قابلة للزوال ما دام حياً في هذه الدنيا، وإنما تختلف صعوبة التصفية وسهولتها نتيجة شدّة هذه الصفات وخفّتها.

ومن المعلوم أنّ إزالة صفة حديثة الظهور في النفس إنما تتحقق بقليل من الجهد والترويض، كالنبتة في أيامها الأولى التي لم ترسل جذورها إلى الأعماق بعد ولم تتمكن من التربية. ولكن إذا تمكنت تلك الصفة من النفس وأصبحت من الملكات المستقرة فيها، فإنّه يصعب إزالتها، ورغم أنّ إزالتها ممكنة، كاقتلاع شجرة ضخمة معمّرة ضبت بجذورها في التربة، فكلما تقاعست وأبطأت في مساعيك لاقتلاع جذور المفاسد من قلبك وروحك، ازداد تعبك وعناؤك يوم اجتثاثها.►

ارسال التعليق

Top