(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات/ 15).
الشخصية الإيمانية:
إنّ الشخصية الإيمانية التي تستحقّ أن يُطلق عليها عنوان المؤمن الصادق لها مقوّمات لا تكتمل إلّا بها مجتمعة مكتملة، ومع نقصان بعضها ينتقص بمقداره من صدق تلك الشخصية ومن صدق الإيمان.
وهذه المقوّمات أربعة: "الحكمة، والشجاعة، والعفّة، والعدالة".
وقد أشارت الآية الكريمة إليها:
فالإيمان بالله ورسوله وعدم الارتياب تعبير عن اليقين، واليقين إنّما هو من قوّة العقل ومنتهى الحكمة.
والجهاد بالمال هو السخاء وهو مصداق أبرز من مصاديق ضبط قوّة الشهوة وإخضاعها إلى حكم العقل والشرع وهو العفّة.
والجهاد بالنفس هو الشجاعة وهو ضبط قوّة الغضب تحت سلطان العقل والشرع.
وبنفس الجهاد بالمال والنفس فعلاً في الخارج تكون قد تحقّقت قوّة العدالة التي هي القوّة الرابعة والمقوّم الرابع، فإذا كانت الحكمة هي إشارة العقل التي قد ينصاع إليها الإنسان وقد يُخالفها، فإنّ العدالة هي تلك القوّة التي تدفع الإنسان نحو الجري العملي والتطبيق الفعلي الخارجي لما أشارت إليه الحكمة نظرياً.
الإنفاق في سبيل الله من مقوّمات الشخصية الإيمانية:
فظهر أنّ من مقوّمات الشخصية المؤمنة الصادقة الجهاد بالمال أي الإنفاق في سبيل الله والسخاء، فإذاً، لابدّ أن نعلم أنّه لا يكون المؤمن الحقيقي بخيلاً، حتى وإن اكتملت فيه خصال محدّدة.
والآية الكريمة فيها كلمة "إنّما" التي تفيد الحصر، وتعني حصر الإيمان الصادق بمن يمتلك في شخصيته تلك الخصال المذكورة.
قال العلامة الطباطبائي في الميزان: ".. فيه قصر المؤمنين في الذين آمنوا بالله ورسوله.. إلخ، فتقيد تعريفهم بما ذكر من الأوصاف تعريفاً جامعاً مانعاً فمن اتّصف بها مؤمن حقاً، كما أنّ من فقد شيئاً منها ليس بمؤمن حقّاً".
وكذلك شهادة الآية في آخرها بأنّهم هم الصادقون، تعني أنّه يوجد في المؤمنين مَن هو صادق الإيمان ومَن هو ليس بصادق، فمن افتقد صفة من الصفات الأربعة، ومنها الجهاد بالمال فإنّه يكون مندرجاً في الصنف الآخر من المؤمنين غير الصادقين في إيمانهم.
فعلى أيّ حال يجب أن يتنبّه المؤمن لهذا الأمر جيداً ويُدخل في حساباته الإيمانية مسألة الإنفاق والبذل في سبيل الله تعالى، تماماً كما يأخذ في حسبانه إذا أراد أن يترقّى ويتقرّب من خالقه صلاة الليل، أو الحجّ، أو العمرة، أو زيارة الأئمّة (ص)...
فكذلك إذا لم يكن معوّداً نفسه على الإنفاق والبذل فليفعل وليبدأ بتدريب نفسه على هذا الركن المهمّ من أركان الإيمان.
يقول العلامة الطباطبائي: "إذا قام السالك بتطهير يده ولسانه وسائر أعضائه وجوارحه، وأدّبها بتمام معنى الكلمة بالأدب الإلهيّ، ولكنّه لم يجاهد نفسه في مقام الإنفاق وبذل الأموال، فلن يكتمل سلوكه الإيماني بل يسير إلى النقص، ويكون ذلك النقص مانعاً من الارتقاء إلى المقام الأعلى...".
فنحن نعرف أنّ الإيمان درجات، وهناك إيمان مكتمل وإيمان ناقص، فالذي لا يكون سخيّاً بماله يكون في درجة متدنيّة غير مكتملة من الإيمان. وقد ورد عن النبيّ (ص): "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنكم خلقاً". فهذا الكلام النوراني من الرسول الأكرم (ص) يوضّح أنّ الإيمان منه مكتمل ومنه منتقص، وهو على درجات، وكلّما كان خلق المؤمن أحسن كان إيمانه أكمل.
لا يكون المؤمن شحيحاً:
نعم، قد وردت بعض الروايات بلسان أنّه لا يكون المؤمن شحيحاً، فعن الإمام الباقر (ع): "لا يؤمن رجل فيه الشحّ والحسد والجبن، ولا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً".
- في رواية عن أمير المؤمنين (ع): "ثلاث لا تكون في مؤمن: لا يكون جباناً، ولا حريصاً، ولا شحيحاً".
وقد يكون المقصود من هذه الروايات التي تنفي الإيمان عن الشحيح الذي هو البخيل، أنّ الشحّ بالفعل يُخرج الإنسان عن الإيمان من خلال إدخاله في المخالفات الشرعية المتعدّدة ويجعله فاسقاً أو جاحداً، فمثلاً:
قد يمنع حقّ الله في ماله الواجب عليه.
وقد يكون واجباً عليه صلة رحمه بالمال فلا يفعل.
وقد يمنع نفقة الوالدين والأهل من زوجة وأولاد وهي واجبة.
أو قد يترك الحجّ مع الاستطاعة... إلخ.
لذلك نجد أمير المؤمنين (ع) يُنكر على مَن جعل حال الظالم أسوأ من حال البخيل، فعن الإمام جعفر الصادق (ع) أنّ أمير المؤمنين (ع) سمع رجلاً يقول: إنّ الشحيح أعذر من الظالم.
فقال له (ع): "كذبت، إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر ويردّ الظلامة على أهلها، والشحيح إذا شحّ منع الزكاة، والصدقة، وصلة الرحم، وقرى الضعيف، والنفقة في سبيل الله، وأبواب البرّ، وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح".
البخل قد يُسبّب عاقبة السوء:
فهذا الإنسان وإن كان مسلماً في الظاهر إلّا أنّه ارتكب ببخله العديد من الكبائر التي تجعله في خطر شديد من خروج سكينة الإيمان من قلبه (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) (الرُّوم/ 10).
وقد يقوده بخله إلى خاتمة النفاق والسوء كما حدث لثعلبة بن حاطب، ولقارون... وغيرهما الكثيرين ممّن أهلكه الشحّ وأطفأ شعلة إيمانه البخل.
وبالتالي وإن كان مؤمناً بالظاهر إلّا أنّ الإيمان القلبيّ يُسلب منه لشحّه بالمال وعدم امتثاله للتكليف الإلهي بالبذل.
نستجير بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا.
فقد ورد أنّ ثعلبة كان فقيراً فعاهد الله لئن آتاني من فضله لأصدقنّ ولأكوننّ من الصالحين، فأعطاه الله مالاً كثيراً ببركة دعاء النبيّ (ص)، إلّا أنّه بخل وشحّ وتولّى، ولم يؤدّ ما فُرض عليه من زكاة في ماله، واعترض على حكم الزكاة بأنّه مثل العُشر الذي كان يؤخَذ كضريبة بغير حقّ، (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (التوبة/ 75-76).
فالإمَ أدّى به شحّه؟
إلى النفاق وخاتمة السوء (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (التوبة/ 77).
كيف نتخلّص من البخل؟
(وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ) (النساء/ 128).
"الشحُّ" مرض وبيل ابتليت به النفوس البشرية لابدّ من التخلُّص منه والقضاء عليه، وعند إتمام المهمة، فالوسام من ربّ العالمين – عزّ شأنه وجلّ ثناؤه – الفلاح الإلهيّ (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).
فأنت عند الله ساعتئذٍ من المفلحين.
فليس الشاهد لك عبداً مثلك يُخطئ ويُصيب، بل الشهادة من الخالق تبارك وتعالى.
والقضاء على البخل يكون باكتساب صفة الكرم. وحبُّ البذل إنّما يكون من خلال معاودة الإنفاق مرّة بعد أخرى فتسكن النفس بعد ذلك ويذهب عنها خوف الفقر، وتطرد تسويلات الشيطان من داخلها، فإنّ الشيطان يخوِّف الناس بالفقر: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) (البقرة/ 278)، كما يقول تعالى، وخاصة بعد أن يلمس أنّ ما يُنفقه يخلف الله عليه مثله، ولعلّه مضاعَفاً في الدنيا قبل الآخرة: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ/ 39).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق