ُقال: إنَّ "الدّين هَمٌّ في الليل ومَذلَّة في النهار".
فماذا لو كان هذا الدّين مادياً، ويَجثم على صدر صاحبه كالبلاطة الثقيلة؟ وفي المقابل يؤرق الشخص الذي عمل معروفاً وسَلَّف، بسبب الخوف أو القلق من إمكان عدم استعادة ماله؟
مشكلة شائكة ومُعقَّدة تلك التي تتشكّل لحظة الحديث عن الدّين المالي، بين الدّائن والمدِين. فهل تعرّضت لموقف من هذا النوع؟ إلام آلت تجربتك تلك؟ ليس سهلاً أن تطلب من الناس مساعدتك على إنجاز أمر، لكنك تُرغم في بعض الأحيان وتسلّم أمرك لربّك.. وتطلب. والأصعب هو أن تطلب مساعدة مادية، أو مبلغاً من النقود كسلفة من أحد الأشخاص، على أن تعود وتعيده إليه بعد فترة. والأكثر صعوبة هو أن يسألك أحدهم سلفة، وترى في الأمر مذلّة له، وضيقاً وأحراجاً كنت في غِنَى عنهما. التسليف أو الدين الماديّ يُقلق في الغالب الدائن والمدِين. فهل مَردّ ذاك القلق يعود إلى أن الأمر يرتبط بالنقود فقط أم هناك أسباب أخرى؟ ما قصص "السَّلَف تَلَف" التي حصلت مع أبطال التحقيق التالي، والتي تحصل معك ومعه ومع الجميع كل يوم؟ وما العِبَر التي استخلصتها نهايات هذه القصص.
- لِمَ العَجَلة؟
تبدو نادية رحومة (موظّفة مصرف) معتادة على قصص الدّين والسلف. تقول: "قدري أنني أعمل في مصرف، وبالنسبة إلى بعض الناس أنا قادرة على التصرّف في مال المصرف كما يحلو لي. وأشعر أحياناً بأن بعضهم يعتقدون أنني صاحبة المصرف الذي أعمل فيه". تضحك نادية على تعليقها الأخير. تضيف: "اضطررت إلى أخذ سلفة من المصرف، بسبب الذين استدانوا منّي مبالغ نقدية لا بأس بها، وتَمنّعوا عن إعادتها إليّ". تتابع: "نعم، صرت مَدينة للمصرف الذي أعمل فيه". تُردِّد نادية بقهر واضح: "لقد طلبت من صديقتي إعادة 13 ألف درهم استلفتها منّي منذ أكثر من ثمانية شهور، لكنها بكل برود، أفهمتني أنها لا تملك المبلغ، ولن تملكه في القريب العاجل". وتقول: "بالتأكيد أنا أصدّقها. فقد أنفقت المبلغ على ثياب أنيقة تتماشى مع صيحة الموضة الأخيرة". تتنهّد نادية متحسّرة وهي تزيد في كلامها، وكأنها بتنهّدها تزيد حسرتها حسرة: "وجارتنا مدينة لي بـ7 آلاف درهم، تزعم أنها ستردّها في القريب العاجل، حيث تقول هذا منذ سنة ونصف السنة تقريباً. في كل الأحوال أنا لست على عَجَلة من أمري". تنكّس نادية رأسها في الأرض، وتعلِّق بغضب: "أشعر بالإذلال في كل مرّة أطالب بحقّي، في حين أني أرى مَن استَدانَت منّي تُجاهر من دون حياء، بأنها سوف تُعيد الدَّين.. يوماً".
- أعزّ الناس:
يتذكّر يوسف جمعة (ممرض متزوج منذ 3 أعوام) أنه حين استدان يوماً من أحد الأصدقاء، لم ينم الليل بطوله ولم يعرف كيف طلع الصباح، ليذهب إلى المصرف ويسحب النقود التي استدانها ويعطيها صاحبها. يقول: "كان ذلك بسبب عطل في ماكينة السحب النقديّ، وكنت مضطراً يومها إلى بعض السيولة، فرأيت أن أستلف من زميلي في العمل لأن المصارف كانت قد أقفلت أبوابها". يستفيق يوسف من ذكراته التي مضى عليها سنوات عدّة، وبالعودة إلى الوقت الراهن يلاحظ: "تغيّر زمننا وحلّت الوقاحة مكان الحياء والخجل، وبات الفاجر يأكل مال التاجر. هي بعبارة، عملية قرصنة ونصب، يقوم بها في الغالب أعزّ الناس إلينا". يتلوّن صوت يوسف بحزن دفين وهو يحكي قصّته قائلاً: "هذا العزيز ليس إلا أخي. طلب مني في يوم من الأيام مبلغ 60 ألف درهم، بحجة إقدامه على شراء بيت يأويه وعائلته الصغيرة. فقمت وبعت أسهماً عقارية أملكها لأؤمِّن له المبلغ". يسكت يوسف، يبدو وكأنه يشعر بالخجل، يعترف: "عيب أن أتحدّث عن أخي. على كل حال لقد انتهت القصة منذ خمسة أعوام. منذ أن قرر أن يُطنِّش عن سداد دينه.. سامحه الله".
- اختناق:
"التطنيش ليس التفسير الصحيح للموضوع"، تعلّق مرام عبدالسلام (أستاذة رياضيّات) باقتضاب، قائلة: "الموضوع هو أكبر من ذلك، أقله معي أنا شخصياً. نحن من الناس المدينين ولا نملك أن نعيد الدين المستحق علينا". بخجل كبير، تجتهد مرام لتخرج الكلمات من فمها، تبوح: "الدين بشع والشعور بأنك مدين لأحد، يقصم ظهرك ويحني رأسك ويذلّك. لا أعرف كيف أترجم مشاعري، ولكنني أشعر بالاختناق، في كل مرّة أتذكّر الدين الذي راكمه زوجي علينا، بسبب إدمانه الاستدانة للعيش في بحبوحة".
تَدمَع عينَا مرام، وتضيف بصوت يرتجف: "لا أنام الليل من هاجس الدين، أخاف على نفسي وعلى ابني الوحيد وعلى زوجي، أتصوّر الشرطة تطرق بابنا في أي لحظة، وتسأل عن زوجي، وتغادر وهو معها..".
- أذى:
يحاول السيد شاويش (مهندس ميكانيكي متزوج منذ 30 عاماً ولديه 3 أولاد) أن يتكلّم بهدوء، إلّا أن نبرة صوته تخونه وهو يعلّق: "كثيرون استدانوا منّي ولم يعيدوا الدَّين الذي عليهم". يتلفّت السيد حوله متململاً، يكمل: "أملك مستندات تدين هؤلاء، لكني أرفض تقديمها إلى الجهات القانونيّة، لأني أكره أذية الناس الذين أحببت مساعدتهم في ما مضَى. إضافة إلى أنني لا أريد خسارة المزيد من المال على المحامين، وتضييع وقتي في المحاكم. ثم إنَّ بعض هؤلاء مقرّب وعزيز إلى قلبي، وثقت به كثيراً في وقتها". يُتابع مغتاظاً: صدق المثل القائل: "إذا أردت أن تخسر صديقك فسلّفه من مالك".
- طيبة:
يبتسم نجدت المجبّر (مدير مشتريات متزوج منذ 10 أعوام ولديه صبي وبنت) ما إن يسمع السؤال، ويجيب بسرعة: "أنا متوجّه حالياً إلى مكتب الصرافة لأحوّل مبلغ 1500 دولار أميركي إلى قريب لي، طلبه منّي بحجّة تأمين القسط المدرسيّ لأولاده. وأنا أدرك جيداً أن هذا المبلغ لن يعود إليّ، ولكن ليس باليد حيلة. إذا كنا نقدر على مساعدة محتاج فيجب ألّا نتردد". هي ليست المرّة الأولى، يصرّح نجدت "التي أسلّفت أحدهم المال. في الغالب هم لا يُعيدون دينهم إليّ ويطنّشون. وبصراحة مازلت إلى اليوم لا أطالب بمستند يثبت تسليفي لهم، إلّا في حالة استدانة أحدهم مبلغاً كبيراً".
يشرد نجدت قبل أن يتابع متهكّماً: "الثقة أحياناً تخون صاحبها، وهذا ما حصل لي جرّاء ثقتي ببعض الأشخاص الذين لم يكونوا أهلاً لثقتي". ويقول: "أرى أني طيّب أكثر من اللازم، وهذه صفة يستفيد منها الآخرون ويستغلّونها. ولكني في قرارة نفسي، بدأت أتّعظ من سوء تصرف بعضهم، وإذا طنّشت عن طلب سداد ما يدينون به لي، فلأنني أريد ذلك بطيبة قلب، وليس لأنني أخجل منهم".
- شروط:
على صعيد آخرن ترى أم عبدالعزيز، أن "الدَّين ليس عيباً إذا احترمت شروطه". تأخذ أم عبدالعزيز، وهي مشرفة تربوية متزوجة منذ 30 عاماً، لديها 3 أولاد، نفساً عميقاً قبل أن تعود لتبوح: "لديّ تجارب كثيرة في موضوع السّلف. فكم من مرّة سلّفت أشخاصاً كنت أدرك تماماً أنهم لن يعيدوا إليَّ ما يقترضونه منّي". تبتسم أم عبدالعزيز والطمأنينة تلفّ محياها وهي تضيف: "في الواقع لقد كتبت وصيّة لأولادي، أقول فيها إنني سامحت كل المدينين لي. لن أحمِّل أولادي وزر تحصيل ديون من المستحيل استعادتها". تنظر أم عبدالعزيز بعيداً، تقول وهي شاردة: "لكن أنا أسلّف الناس المال لأفك كربهم وضيقهم. أساعدهم ولا أنتظر مقابلاً، وقضيت عمري لا أسألهم ردّ ما أخذوه منّي، علماً بأنني مررت بظروف صعبة، وكان في إمكاني المطالبة بالدين الذي لي عليهم، لكنني لم أفعل".
- ثقة:
يشكر محمد والي (مدير إداري، متزوج منذ 13 عاماً، لديه ولد وبنت) الله قائلاً: "أحمده لأنني لم أخض تجربة الاستدانة من أحد، كنت لأشعر بكثير من المذلّة". من جهّة ثانية، يعلن: "لا أردّ محتاجاً يقصدني بهدف الاستدانة منّي، خصوصاً إذا كنت أثق به وكان من الأهل أو الأقارب أو الأصدقاء. لذا تراني أسلّفه من دون أن أطلب منه أية مستندات، لأن مجتمعنا العربي يعتبر الكلمة "شرفاً وعُرفاً وتقليداً لا يمكن التفريط فيها". ويتحدّث محمد عن تجربته مع الاستدانة فيقول: "هناك ثلاثة أشخاص استدانوا منّي منذ فترة طويلة مبالغ من المال، ولم يعيدوا إليَّ، بالتالي خجلت شخصياً من مطالبتهم بها. اليوم بتُّ أكثر حذاراً مع هذا الموضوع، وإذا عاد الأشخاص ذاتهم، وطلبوا مني مساعدة أخرى، سأفكّر مليّاً قبل تقديمها لهم، أياً كانت طبيعتها. لقد اهتزّت ثقتي بهم".
- استعداد:
من جهتها، لا تطالب سوزان (متزوجة منذ ستة عشر عاماً، لديها ثلاثة أولاد) بأي مستند يثبت تسليفها شخصاً من مالها، تعلّق على الموضوع بهدوء: "تجاربي ليست كثيرة في موضوع السلف، ولكني سبق أنْ سلّفت شخصين أو ثلاثة مبالغ مالية صغيرة، وبصراحة لم أطلب منهم ما يثبت أنهم استلفوا مني قرشاً. ولكني أطلعت زوجي على الأمر، بحكم أني لا أخفي عنه شيئاً، وليس لأي سبب آخر". إذن الثقة هي التي تدفع سوزان إلى اعتماد مبدأ التسليف من دون المطالبة بسند، وهي تقول في هذا السياق: "أنا مستعدة لأن أخسر المدين إذا كان مقرَّباً إليّ إذا لم يرد لي مالي، لكني غير مستعدة مطلقاً لان أطالبه بدينه مهما كبر حجم المبلغ الذي أخذه منّي".
- تلامذة:
ويبدو أن الدَّين لا يقتصر على الناس في الحياة العملية، إنما هو موجود أيضاً في المدرسة، لا بل إنه أمر عادي بين التلامذة، بحسب ما تؤكّد دانة سعيد (أول ثانوي) التي تصرّح: "صحيح أننا مازلنا تلامذة، لكننا نسلِّف بعضنا بعضاً مبالغ صغيرة، مثل 10 دراهم أو 20 درهماً". تضيف: "شخصياً، لقد اعتدت أن أديِّن زميلاتي مثل هذه المبالغ، وبالطبع لا نسترجعها من بعضنا لأنها زهيدة جداً، ولا نقصد الانتفاع بها، إنما نحن نأخذها لحاجتها في وقت معيَّن، وهي ليست بالرصيد الكبير أو المؤذي للذي يعطيها". "بصراحة أنا أخجل من أن أستردّها". تضيف دانة معلّقة بحياء: "أتمنّى أن لا أحتاج في المستقبل إلى أن أستَدين مبلغاً كبيراً، لأنه ليس بالأمر الممتع، علماً بأني إذا استَدنْت فسيكون من شخص قريب جداً منّي". في المقابل تؤكد دانة أنها "في المستقبل، حين أتسلّم عملاً وأصبح منتجة في المجتمع، لن أتردد لو سألني أحدهم الاستدانة منّي، في إعطائه المبلغ الذي يريده، إذا توافر معي".
- صداقة:
ولأّن المال لا يقف حائلاً بينه وبين أصدقائه، يقول طارق بن علي (مدرِّب كرة طائرة، متزوج منذ 9 أعوام، لديه ولد وبنت): "لن أخسر صديقاً من أجل مبلغ من المال، فالمال يأتي ويزول، لكنّ الأصدقاء الحقيقيّين يبقون إلى جانبنا دائماً". هذه هي رؤية طارق إلى موضوع المال والاستدانة، وهو يتابع بحماسة مدرِّب الرياضة: "نعم غالباً ما أسلِّف أصدقائي المال، وهم يعيدونه لي من دون أن أطالبهم به. صحيح أن بعضهم لا يفعل، ولكن ليس لأنه لا يريد سداد دينه، ولكن لأنه يفتقر إلى المال ليسدده". وفي إطار كلامه عن نفسه، يقول طارق باعتداد: "شخصيّاً لا أحبِّذ الاستدانة، أقلّه من الناس. عندما أحتاج ماديّاً، لا سمح الله سوف أقصد أحد المصارف وأستدين. هكذا أخفف نفسياً عن نفسي، ولا أرمي بثقلي على أصدقائي".
- تربية:
في رأي استثنائي، تقول زينة بدران (المتخصصة في التجميل): "أكره الدَّين، وأرفض أن أكون يوماً دائنة أو مَدِينة". بهذه الصَّرامة تندفع زينة إلى اختصار حديثها عن الموضوع، لكنها تعود وتضيف: "الله لا يجبرني. ولكني أخشى في حال استدنت من أحدهم، أن أشعر بالإحراج أو الإهانة أو الانكسار. بصراحة تربيتي تمنعني من مدّ يدي للطلب من أحد، إلّا من خالقي سبحانه. علما بأنني لن أتردد في إعطاء مُعوز أو محتاج، حتى لو اضطررت إلى حرمان نفسي من أمور كثيرة". تُقاطع إلهام عوني. ابنتها زينة لتقول : "قطعاً لم أستدن من أحد طوال عمري، ولن أعلِّم زينة وإخوتها العكس. الحمد لله، أني لم أنم يوماً وأنا قلقة من الديون التي تُثقل عينيّ بالأرق. هذه الراحة النفسية من حقّ أولادي أيضاً". تنظر إلهام بحنان إلى ابنتها الواقفة إلى جانبها مُتابعةً حديثها: "أنا متزوجة منذ 18 عاماً وأملك "متجر ملابس"، لم أعوِّد أولادي الثلاثة على السلف، حتى إنني لم أسمح بالأمر في متجري. فالدَّين يُشعر المدين بأنه يحمل جبلاً فوق رأسه، كما أنه ينغِّص على الدائن حياته، وهذا الشعور لا أتمناه لأحد". إلّا أنّ هذه القناعة لا تمنع إلهام من الاعتراف: "في العادة مَن يَستدين منّي ولا يعيد دينه، لا أطالبه به. ولكن أسوأ ما في الموضوع أني لا أتوب عن الأمر، لأنه يعود ثانية ويطلب من جديد، وأنا مع ابتسامة عريضة أعطيه".
- يصبح عادة:
ماذا عن الجانب النفسي للموضوع؟ يتطرّق استشاري الطب النفسي في عيادة "مركاتو" للطبّ العائلي في دبي، الدكتور علي العطيّة، إلى موضوع الاستلاف وتأثيره في الأنماط البشريّة. يقول: "للأسف في موضوع الاستلاف والتسليف هنالك نمطان من الناس، واحد مُحبّ للاستدانة، وأحياناً يكون غليظ الشعور واندفاعياً إلى درجة أنه لا يقاوم الرغبة في إرضاء أنانيته، فيستلف لشراء ما يمتعه من دون التفكير في تأجيل هذه المتعة النفسية، إلى أن تتيسّر حالته المادية. في حين هنالك آخر، يكره الدَّين لأنه مرهف ويَأبَه لنظرة المجتمع، ويَعي انعكاس الأمر عليه، فيتردد كثيراً قبل القيام به، وغالباً ما يلغيه، إلّا إذا حكمت عليه الظروف عكس ذلك".
ويَعزُو الدكتور العطية تَشكُّل هذه الأنماط البشرية إلى عوامل عدّة منها: "العوامل الوراثية، أي طبيعة المرء الذاتية وطبيعة شخصيته، إضافة إلى العوامل المؤثِّرة في البيئة". يضيف: "هنا أقصد التربية التي ينشأ عليها الإنسان، والمحيط والظروف الحياتية التي تشكّل طبعه. هذه المجموعة تؤلّف نمط الشخصية، فنرى الشخص يأبه لصورته أمام الناس والمجتمع، وآخر يَستدين من دون الإحساس بأدنَى شعور بالخجل". ويلفت الدكتور العطيّة الانتباه، إلى أن الاستدانة "تكون أصعب في المرّة الأولى من المرّات اللاحقة. لأن مَن يستدين، يتمرَّن ويتعلّم ويعتاد الأمر، حتى لو كان من الطبع المرهف والحسّاس". يتابع: "صحيح أن الموضوع يبدأ بتأنيب الضمير، لكنه مثل كل شيء يتحوّل مع الوقت ومع التكرار إلى عادة، ثمّ إنّ الضمير يمكن ترويضه وتطبيعه، بالتالي يمكن تحويل صاحبه الخجول إلى وقح". وبالعودة إلى طبيعة الأجناس البشرية، يوضح الدكتور العطيّة أن "الشخصية المرهفة والتي تبالي بالمستقبل وبنظرة المجتمع إليها، في العادة تكره الاستدانة وتحسب ألف حساب لها. هذه الشخصية بالتحديد، لا تدخل في ميادين المغامرات في العمل، ولا تخوض معترك التجارة والمضاربات. بل هي تخطِّط لِمَا عندها فقط، وتبتعد عن النزعة الاستهلاكية العشوائية، خوفاً من أن تقع في تَهلُكة مادية، فتفلس وتضطر إلى الاستدانة". ويقول: "في كل الأحوال، يترك الدَّين شعوراً بالذل في نفس صاحبه". ويشير إلى أنه "يجب أن يُمهَر الدَّين بتاريخ محدَّد، ليُجنِّب مَن سلَّف ماله الوقوع في فخ الخجل، وليُحمِّل مَن استدان مسؤولية سداد دَينه في وقته. فمن غير هذا التحديد، يصبح المسلِّف فريسة لقلق، قد يغيِّر مشاعره ويحوّلها إلى كره واحتقار صوب مَن استفاد من ماله، أو صوب آخرين لديهم النيّة للاستدانة منه". من جهة ثانية، يذكر بأن "هناك مَن يبقَى على طبيعته الطيِّبة، على الرغم من عدم استرداده ماله، ونحن ندعوه "بالمغفّل"، لأنه يظلّ يعطي من دون أن يأخذ حقّه. وهو لا يدري أنه بأسلوبه هذا، يشجّع عمليات الاستغلال والنصب والغشّ والاحتيال. في حين لو هو طالب بماله وأوقف من يسرقه بحجة الاستلاف، لَمَا تجرّأ غيره على الحذو حذوه".
- استحياء:
من الناحية القانونية، وحول المشكلة التي تقوم بين الدائن والمدين في حالة تَمنَع الأخير عن سداد دَيْنه، بسبب عدم إمساك الأول أي مستند عليه، يوضح المحامي يوسف الشريف، أن "الدائن يستطيع أن يطالب بحقّه من المدين بالطرق المقررة قانوناً، وتثبيت ذلك بشتّى وسائل الإثبات. فإذا لم يمتلك الدائن مستنداً يثبت حقّه، يمكنه طلب الاستماع إلى الشهود الذين حضروا عمليّة المداينة تلك، ويشهدون على وقائعها وحيثيّاتها". ويقول: "أما إذا لم يكن لديه شهود، فيكون ملجؤه الوحيد، هو طلب توجيه اليمين للمدين الذي يعود الأمر إلى ضميره. فإمَّا أن يقسم بأنه لم يستدن من هذا الدائن، أو أنه سدَّد دَيْنه. أو يرجع عن اليمين ويقرّ بالحقّ على نفسه". وعن الأسباب التي تجعل الدائن يتغاضى عن طلب إثبات أو مستند من المدين منه، يضيف الشريف: "يعود هذا الأمر إلى عدم التزام الناس بأحكام الشرع، أو العمل بالقانون ما يجعلهم عرضة لذلك. خصوصاً أن الناس يغلّبون الاستحياء في التعاون على المبادئ الشرعيّة والقانونية. ففي القرآن الكريم، آية المداينة، هي أطول آية في القرآن، وقد شرعت طرق الاستدانة ووسائل الإشهاد عليها. وكذلك في القانون، فقد جعل من الأوراق التجارية، سبيلاً لإثبات حقّ الدائن على المدين، إلّا أن تخلّي الناس عن هذه القواعد والمبادئ، بدعوى الحياء أو الثقة المفرطة، جعلهم عرضة لذلك". يضيف: "الثقة في الماضي كانت تُبنى على كلمة شرف، إنما ذلك مرتبط بالعادات والأعراف وليس تشريعاً. لذا يجب الالتزام بأحكام الشريعة والقانون، من ناحية الدائن الذي يستوجب عليه التحوّط لماله، ومن ناحية المدين الذي يجب أن يخاف الله وعقاب الآخرة، وألا يكون سبباً في إنكار الثقة بين الناس". ويختم بلفت الانتباه إلى أن "الشخص هو الذي يجعل من نفسه مغفّلاً والقانون لا يحميه لأنه ليس من ذَوي الغفلة الذين يحميهم القانون".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق