محسن الرميثي
الإنسان السوّي بفطرته عندما يواجه العمل الحسن أو القبيح وقول الحق أو الباطل، يميل إلى العمل الحسن وإلى قول الحق. والمؤمنون الذين انغرس الإيمان في قلوبهم وضمائرهم، مجبولون على اتباع القول الحسن والالتزام بطريق الحق والخير.
فعندما يعرض عليهم العقل الحق تراهم يستمعون إليه بإذعان ويصغون له بشوق، ولا يردّونه بمجرد ما يقرع أسماعهم – حسب هوى الذات والأنا – دون أن يتدبّروا ويفقهوا الفكرة التي يُراد الانطلاق إليها والوصول إلى حقيقتها.
ولهذا يصفهم القرآن الكريم بـ(أُولِي الألْبَابِ) والمعرفة، والله تعالى سيهديهم ويصلح بالهم: ويعرّفهم على نعمه وآلائه.
قال تعالى في سورة الزمر آية (17-18):
(فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ).. ونحن هنا نعرض لمسألة نقد الآخرين ومحاسبتهم.
- النقد السلبي:
كثيراً ما يُفهم النقد في مجتمعاتنا بأن يقوم الإنسان – عندما يحس بوجود خطأ معيّن – بدور التعبير والتشهير بمن صدر منه ذلك الخطأ لمجرد أنّه رأى سلبية في عمله، وبطبيعة الحال فإنّ وردت الأحاديث التي تدعو إلى عدم التعرّض لحرية وكرامة الآخرين، والإنسان المؤمن حريص على أن يكون عزيزاً مكرَّماً في نفسه التي لا يجوز أن يخضعها ويذلّها لغير الله تعالى.
فينبغي للمؤمن أن يكون على حذر دائم، فلا يكون وسيلة أو بوقاً لفضح الآخرين بلا شعور بالمسؤولية.
فالإسلام لا يسمح بفتح أبواب النقد الذي يكون على أساس التشهير والإيذاء، وتوجيه الاتهامات والافتراءات للآخرين، فتوجيه النقد أساساً لا من أجل أن يحصي الإنسان عثرات إخوانه ويزدريهم، فهذا ما نهى عنه الإسلام نهياً قاطعاً، وهو بعيد عن الخلق الإسلامي الرفيع، وفاقد لأبسط القواعد الخلقية..
فإسلامنا العزيز لا يرضى بأن نعتمد تلك الأساليب والاعمال التي يُراد منها التعرّض لكرامة الآخرين، أو نقوم بتوجيه التُّهم والأباطيل إلى الناس، أو ننصّب أنفسنا حكاماً عليهم ونحدّد بينهم من يعمل لله ومن يعمل لغيره، فيما نحن نفقد أبسط القواعد الإسلامية في التعامل مع الناس وإرشادهم وهدايتهم دون التفات إلى أننا مسؤولون عمّا نقوله أمام الله تعالى وأمام الرسول (ص) يوم القيامة.
قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18)، ومسؤولون أمام الأمة أيضاً، فإذا ظهر منا الظلم والإجحاف على الناس. فسنحاسب ونعاقب على فعلتنا غير المسؤولة وهذا ما يمكن أن نسميه بالنقد السلبي.
- المسؤولية عن الذات:
إنّ النفس الإنسانية لا نستطيع أن نحكم ببراءتها ونزاهتها ما دامت لديها نوازع ذاتية، قال تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم/ 32)، فلا عبرة إذاً بتزكية الإنسان نفسه واتهام الآخرين بفعل القبيح.
إنها العبرة بتزكية الله تعالى وهو سبحانه الذي يرضى ويتقبل أعمال العباد.. والإمام علي (ع) في خطبته المشهورة (خطبة صفات المتقين) يصف المؤمنين بأنّهم لا يزكون أنفسهم بل يخافون من ذلك فيقول (ع): "... إذا زُكِّي أحدهم خاف ممّا يُقال له فيقول: أنا أعلم بنفي من غيري وربّي أعلم بيَّ من نفسي، اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون...".
فالناقد لا ينبغي أن يأخذه العجب والغرور في نفسه فيبرر لها هفواتها وزلاتها، بل يقوم بعملية تأديب نفسه وتعليمها قبل أن يؤدب الناس ويعلّمهم أخطاءهم، وإذا نظر الإنسان إلى عيب نفسه وأدبّها، انشغل بالعيب الذي فيه عن عيوب الآخرين.. عن الإمام أمير المؤمنين (ع) يقول: "مَن نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره".
ويقول (ع): "من نصَّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم".
فالذي لا يستطيع أن يؤدب نفسه وأن يبعدها عن طريق شهواتها ولذاتها فليبتعد عن تنصيب نفسه إماماً وهادياً ومرشداً للناس.
- النقد الإيجابي:
أمّا إذا كان النقد للآخرين محوره النصح والإرشاد والتوجيه، فهذا ما أمر به ديننا الإسلامي وهذا هو النقد الإيجابي وسنتعرف على ذلك من خلال بعض الآيات والروايات التي تحث على التشاور والتفاهم والتناصح وإصلاح الفساد، وتقويم الاعوجاج في مسيرة الناس، سواء أكان ذلك على مستوى الأفراد أم الجماعات.
والمؤمنون أولى من غيرهم في أن يوجّه كل واحد منهم نقداً بناءاً إلى الآخر، فالمؤمن ولي المؤمن في الاتحاد والتعاطف والإرشاد والنصح، لكي تستمر مسيرة الإيمان على خطها القويم. وقال تعالى في سورة التوبة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ...) (التوبة/ 71). وفي حديث لرسول الله (ص) يقول فيه: "المؤمن مرآة أخيه المؤمن"، فكما أنّ المرآة تكشف عن مظهر الإنسان الحسن أو القبيح كذلك المؤمن يكون لأخيه مسدّداً وموجّهاً، إذ يدلّه على عيوبه ولا يتعرض له بسوء.
كأن ينشرها بين الناس، كما يعينه على تلافي الخطأ لكي لا يتفاقم الفساد أو ينتشر في حياة الآخرين، ثمّ يضع البديل لذلك ليظهر حسنه ونقاءه وصورته الجميلة للناس. قال الإمام الصادق (ع): "أحبُّ إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي" والإمام علي (ع) يقول: "ليكن أحبّ الناس إليك من هداك إلى أمر أرشدك وكشف لك عن معايبك".
فالشخصية الرسالية الواعية بحاجة إلى المتابعة والمحاسبة والتوقف عن المسير لتبحث عن أخطائها وتضع العلاج الناجح لها، وتتفقد الجراحات فتعالجها كي لا تتعمق أكثر.
فلابدّ من الرقابة الصارمة لكي نكون بالمرصاد لكل حركاتنا وسكناتنا وهنا نجد الكثير من الناس ممن يتركون أخطاءهم فلا يصححونها وعندما يرون الظلم لا يردّونه، وعندما يشاهدون الانحراف والاعوجاج لا يُقَوّمونه ويحجمون عن تلافي تلك الأخطاء والانحرافات ممّا يجعلها تسري في جسم الأمة فتعرّضه للأخطار والبلاء في مسيرتها وهذا من الخطأ الفادح الذي أُصيبت به الأُمّة بعد وفاة الرسول (ص) ممّا أدّى بها إلى التخبّط والاضطراب. فلابدّ من إصلاح هذا النمط من الناس بردعهم عن مساوئهم، وهنا يأتي دور النقد البناء الذي يفنّد ويبيّن هذه المساوىء والعلل ويضع لها الحلول المناسبة، ولا يتعرض لكرامة الناس من خلال توجيه الكلمات النابية والتشهير بأخطائهم، فهذا مرفوض في الشرع الإسلامي، بل يوجّه نحو الصواب والابتعاد عن مواطن الانحراف باستخدام الأسلوب الحسن والوداعة في الكلمة، وإبداء المحبة والعطف والحنان.
فهذا ما أمر به الإسلام من خلال القرآن الكريم وسيرة الرسول الأكرم (ص)، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (النحل/ 125).
فالدعوة إلى الله تعالى بالأسلوب الحكيم والعظة الحسنة تجعل للداعية المؤمن من أعدائه أصدقاء ومن أصدقائه أحبّاء وتقرب إليه البعيد ولا تنفرّ منه القريب.
ارسال التعليق