إنّ هذا يعني أنّ العلوم اللاحقة ستستمد تقنياتها من هذا العلم الرائد (النحو)، وبالفعل كان القياس النحوي هو أساس القياس الفقهي، والاستدلال الكلامي.
إنّ العلوم العربية على اختلاف أسمائها، وتباين أهدافها تبدو، من الناحية الابستيمولوجية كعلم واحد مهمته استثمار النصوص فسواء تعلق الأمر بالعلوم الدينية كالتفسير والحديث والفقه والكلام، أو بالعلوم اللغوية كالنحو والصرف والبلاغة، فإنّ مادة البحث هي دوماً النص.
النتيجة:
إنّ طبيعة الموضوع في البحث العلمي هي التي تحدد نوعية المنهج، وبالتالي طريقة التفكير، آلياته، وأدواته الذهنية.
وإذا تذكرنا أنّ العلوم الدينية والعلوم اللغوية، هي أوّل نشاط علمي مارسه العقل العربي، وأنّها ظلت الميدان الرئيسي لإنتاج وإعادة إنتاج المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية، أدركنا إلى أي مدى سيكون العلم العربي، علم استثمار النصوص موجها بل مؤسساً لآليات التفكير وإنتاج المعارف في الذهن العربي، وبالتالي إلى أي مدى سيكون النص، أي اللغة سلطة مرجعية لا شعورية، ولكن قاهرة للعقل العربي (الجابري: 1991).
وينبغي التذكير بالنقاط الآتية:
1- إنّ اللغة تعد من أهم مبتكرات الإنسان الحضارية، ولولا اللغة لما استطاع البشر الحفاظ على الحضارة والثقافة والتراث، فكلّ مجتمع بشري معروف له لغته الخاصة به تميزه عن غيره من المجتمعات.
2- إنّ علماء النفس أعطوا اهتماماً كبيراً لدراسة موضوع اللغة لمّا لها مِنْ علاقة بالفكر الإنساني والنمو المعرفي لدى الإنسان فبحثوا في مسألة إنتاج اللغة من خلال دراسة العمليات العضوية والنفسية والاجتماعية. ودورها في تكوين المقولات اللغوية وبحثوا في موضوع فهم اللغة من خلال تحليل الكلام اللغوي واعتنوا بموضوع اكتساب اللغة من خلال البحث في كيفية إكسابها للطفل وكيفية تعلمها وتعليمها.
3- إنّ اللغة وظيفة إنسانية تميز الإنسان بما هو إنسان وتكمن خطورتها في دلالتها وليس في ألفاظها.
4- إنّ اللغة هي نظام ورموز ونشاط إنساني مكتسب وليس غريزياً وهي أداة ووسيلة للاتصال والتواصل البشري، وليست غاية بحد ذاتها.
5- إنّ وظائف اللغة متعددة فهي تسمح في الاتصال وتساعد في عمليات التفكير ولها دور فعّال للعقل فهي وسيلة إبراز الفكر من حيز الكتمان إلى حيز التصريح، وأداة للتفكير التأملي ووظيفتها الأساسية هي التعبير عما يجول في نفس الإنسان، فضلاً عن وجود وظائف أخرى نفسية واجتماعية وحيوية وعملية.
6- إنّ الفكر خاصية ترتبط بالقدرة الفطرية وإنّ التفكير نشاط الفكر وآليته للانتقال من حالة القوة إلى حالة الفعل، ويحدث التفكير داخل الدماغ وتقوم به مراكز معينة.
7- إنّ العلاقة بين اللغة والفكر علاقة عضوية وعلاقة دينامية متبادلة مِنْ حيث التأثير والتأثر، فكلّ منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، فنحن لا نستطيع أن نتكلم بما لا نقدر أن نفكر فيه، ولا نستطيع أن نفكر بعيداً عن قدرتنا اللغوية.
8- لابدّ لنا مِن أسس علمية نستند إليها في تعليم الفرد لغته وعلينا أن ننتقي الطريقة الملائمة لإكساب الطفل لغته، بحيث تتناسب مع المراحل التي يمرّ بها في نموه الجسمي والعقلي والنفسي، فلكلّ مرحلة خصائص تتميز بها عن المراحل الأخرى، من هنا تتعدد الطرق تبعاً لذلك.
9- إنّ اللغة تؤثر في طريقة رؤية أهلها للعالم وفي طريقة تفكيرهم ولقد توصلنا إلى نتيجة في ذلك الصدد هي أنّ الرؤية التي تقدمها اللغة العربية لأهلها عن العالم من خلال مفرداتها كما جمعت في عصر التدوين تستنسخ إلى حد كبير عالم ذلك الأعرابي البدوي الموغل في الفقر البعيد عن الحضارة والتحضر عالم الصحراء بحيواناته وأدواته وطابعه الحسي اللاتأريخي.
10- إنّ اللغة بقوالبها النحوية المنطقية وأساليبها البيانية الاستدلالية تحدد إلى درجة ما طريقة التفكير طريقة الإقناع والاقتناع في الفضاء اللغوي الفكري العربي.
11- إنّ المنهج في العلوم العربية الإسلامية يتسم بالوحدة والارتباط الشديد بالبحث اللغوي الذي يعتمد منهاج القياس، قياس جزء على جزء وقياس غائب على شاهد، وهذا يعني لا منهجية علمية في العلوم العربية.
12- إنّ النظام المعرفي الذي تؤسسه اللغة العربية ليس إلّا واحداً من النظم المعرفية المؤسسة للثقافة العربية الإسلامية فهناك نظم ثلاثة للثقافة العربية مسؤولة عن تأسيسها (الثقافة) وهي:
· النظام البياني العربي.
· النظام العرفان الهرمسي الفارسي.
· والنظام البرهاني اليوناني.
ولعل تعدد النظم المعرفية في الثقافة العربية مسؤولاً عن الاختلافات التي حدثت فيها، ومثال ذلك ما حدث من اختلاف بين النصيين والسلفيين من جهة وبين الاتجاهات الأخرى في الفكر العربي، من جهة أخرى حيث أنّ النصيين تمسكوا بالأصالة على العموم، أما الاتجاهات الأخرى فإنّها تبنت نظماً معرفية أجنبية منقولة إلى العربية وكان ذلك بمثابة إقحام بنية فكرية في بنية فكرية أخرى مما جعل الاصطدام محتوماً.
13- إنّ الثقافة العربية قد تأسست في عصر التدوين منذ أربعة عشر قرناً عصر البناء الثقافي العام في التجربة الحضارية العربية الإسلامية العصر الذي شكل ويشكل الإطار المرجعي والعقل العربي لذلك فإنّ الحاجة تدعو إلى عصر تدوين آخر عصر تدوين جديد بمقاييس جديدة واستشراقات جديدة حتى ننتقل من الأصالة إلى النهضة إلى الحداثة والتطور والتقدم العلمي في كافة مجالات حياتنا وعلى مختلف الأطر والمستويات.►
المصدر: كتاب التفكير واللغة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق