• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

البناء الاقتصادي وحفظ الحقوق في سورة البقرة

أ. د. محمّد أديب الصالح

البناء الاقتصادي وحفظ الحقوق في سورة البقرة

الآيتان الثانية والثمانون بعد المائتين والثالثة والثمانون بعد المائتين من سورة البقرة وهما قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...) (البقرة/ 282)، وقوله جلّ شأنه: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ...) (البقرة/ 283)، هاتان الآيتان الكريمتان، كان من عطائهما – فيما تشرقان به من العطاء– دلالتهما من خلال الضوابط التي وضعت للمداينة من كتابة وإشهاد وتوثيق مصحوب باستثارة الإيمان ومراقبة الله عزّوجلّ، وما يتعلق بذلك كلّه.. كان من عطائهما الدلالة على مقدار الأهمية المعطاة للمال وحفظ الحقوق تحقيقاً لمصالح الفرد والجماعة في كتاب الله عزّوجلّ.

وهذا لا يعني أن ينشغل المسلم بالمال عن دينه وربّه، فيتجاوز الحدود طلباً للاستزادة من المال، أو الطغيان في الإنفاق الذي يجعل صاحبه من إخوان الشياطين.. ولكنّه يعني العدل، وحفظ الحقوق، والدقة في اختيار الطرق التي يوظّف المال من خلالها ويبني الاقتصاد من أجل تحقيقها. هذا إلى جانب تكريم الإنسان، ومواجهته بما فطر عليه من حبّ التملك، مع الضوابط والمعايير التي تحول دون الكسب الحرام، ودون الاعتداء على حقوق الآخرين، والحيلولة دون التنمية المطلوبة.

إنّ بناء القوّة الذاتية للأُمّة المسلمة، منوط بعناصر أساسية، يأتي في مقدمتها – بعد العقيدة – العلم والمال، كما أنّ الفرد في المجتمع المسلم، يجب أن يتوافر له الأمن والطمأنينة، فيكون أميناً على ماله، كما يكون أميناً على الضرورات الأخرى كلّها، من الدين والنفس والعرض والعقل وما إلى ذلك.

وإذن: فلا عجب أن يعني القرآن بهذه القضية هذا القدر من العناية، ويضع الضوابط والمعايير التي تكشف عن الإطار العام للتعامل المالي والاقتصادي، بما يصون حقوق الفرد، وينمي الثروة، ويضمن مزيداً من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

وسيراً مع المنهج القرآني في إنشاء الوازع الإيماني من داخل النفس، بجانب المؤيدات والسلطة، نجد آية المدنية قد ختمت بقوله تعالى: (.. وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة/ 282).

ثمّ جاء استكمال تلك الأحكام المتعلقة بالدين وتوثيقه وحفظ الحقوق المالية عموماً بين الأخ وأخيه سفراً وحضراً، في الآية التي تلت وهي قول الله جلّ ثناؤه: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة/ 283).

أرأيت!! إلى جانب الدلالة على أنّ شريعة الإسلام تقدم المنهج الرباني المتكامل للحياة بجميع شؤونها، وإلى جانب التنظيم والضبط على الصورة التي لا تُجارى، نجد (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)، كما نجد (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)، ونجد أيضاً (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ناهيك عن قوله سبحانه: (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وهكذا تقيم الهداية القرآنية إلى جانب ما تُلزم به من الانضباط في التعامل، إقامة حارس من داخل النفس، يحرص القيم والأحكام المطلوب العمل بها، والوقوف عند حدود الله بالتزامها، ويحول دون ارتكاب الحرام – بل ما هو من المشتبهات – وتجاوزِ المرء على إخوانه في المجتمع، مصحوباً ذلك كلّه: باعتقاد المسلم أنّ المال مال الله، وموكول إليه أن يتصرّف فيه وفق شريعة الله، بعد أن يكون قد جمعه من الكسب المشروع.

وبعد: فإنّ هاتين الآيتين من سورة البقرة – وأمثالهما كثير – أمانة في أعناق أهل الإيمان، وبخاصّة المؤتمنين منهم على تحقيق البناء الذاتي للأُمّة المطلوب إحكامه على الوجه الذي ينبغي، وتنمية طاقاتها الفاعلة، واستقرار مجتمعاتها في مواجهة التحديات دونما تجاهل أو غفلة عن التطوّر العلمي، وما يتسم به الواقع إقليمياً كان أو عالمياً!!

وإذا كانت الكلمة القرآنية قد أعطت ما أعطت من العناية بالوازع الإيماني وسارت به جنباً إلى جنب مع ما أوجبت من الضوابط والمعايير عند التعامل المالي؛ فإنّ الأمانة ثقيلة مطلوبة الأداء في تنمية هذا الوازع من خلال التربية والتعليم والإعلام وكلّ وسيلة مشروعة ممكنة.

ولا يخفى أنّ إقامة الحراسة للأحكام وتنفيذها بهذا الوازع مصحوباً ذلك بالمؤيدات التي تحمل على الالتزام بتلك الأحكام وضوابطها، توفر ما توفر من المتاعب والنفقات، وتسهم أيما إسهام فيما ينشده المخلصون الواعون من قوّة واستقرار، وبُعْدٍ عن التبعية والاضطراب.

ارسال التعليق

Top