◄نبحث هنا في أثر الإيمان والالتزام على المستوى النفسي والسلوكي للإنسان المؤمن والملتزم، وما يُمكن أن يؤسّس له من قوّة في مواجهة التحدّيات والضغوطات المتنوّعة. ونثير في ما يلي عدّة نقاط:
أوّلاً: إنّ الإيمان بالله يمثّل الإيمان بالمطلق، وهو المهيمن على الوجود كلّه، وبيده مقاليد الأمور، والذي لا يحدّه مكانٌ ولا زمانٌ، بل هو الخالق لها جميعاً، وهذا ما يمنح الإنسان شعوراً بالحرّية أمام كلّ ما هو داخلٌ في حيّز الزمان والمكان، وما هو مفتقرٌ إلى من يفيض عليه الوجود، ويمنحه الحياة، سواء من البشر أو من سائر خلق الله، فلأنّه مؤمن بالله ومرتبطٌ به، لا يعودُ لأحدٍ سلطةٌ عليه في ذاته، ولا لمخلوق موقعٌ في وجدانه يخضع له، إلّا بأن يثبت له أنّه يمثّل الحقّ أو العدل، فما يتبعه عندئذٍ هو الحقّ الكامن فيه، والعدل الموصوف في فعله أو موقفه؛ وهذا يمثّل منتهى الحرّية، وأعلى درجاتها.
وبعبارة أخرى، إنّ الإيمان بالله والعبودية له، إنّما يتجلّيان عبوديّة للحقّ، وبذلك كلُّ ما أثبت الحقّ لديهم في فكرةٍ ما، فإنّ مقتضى الإيمان أن يُدخلوها في منظومة اعتقاداتهم، وكلّ من أثبت لهم الحقّ في سلوكٍ ما، فإنّ ذلك يحتّم عليهم التزامه. وكما أنّ الحقّ لا ينافي مسألة الحرّية، بل تتحرّك الحرّية نفسها وفق ثبوت هذا الحقّ وعدمه، فكذلك لا يكون الإيمان والالتزام بمبدأ العبوديّة لله منافياً لمسألة الحرّية بل معزّزاً لها.
ثانياً: إنّ الإيمان بالله، والالتزام بإرادته، لا يحرّر الإنسان ممّا هو خارجٌ عنه فحسب، بل يحرِّرُهُ من داخله أيضاً، فهو يحرّره من نفسه، من شهواتها وغرائزها، فلا يعود للمال أو للجاه أو للشهوات الأخرى سلطة على إرادة الإنسان، فيملك – بمقتضى الإيمان بالله – أن يقول للمال "لا" إذا لم يكن منسجماً مع مبادئه، ويستطيع أن يقول للجاه "لا" عندما يكون موقعاً للظلم والجور على الناس، ويستطيع أن يقول لغريزته في الأكل والشرب والجنس وغيرها: "لا"، عندما تجمح به نحو ما يخالف التزامه.
ولو دقّقنا في الهدف من العبادة في الإسلام، لرأينا أنّ دور العبادة هو أن تحقّق هذا السموّ الروحي، الذي يتحسّس فيه الإنسان موقعه من ربّه، فيعي – بالتالي – موقعه في حركة الوجود والحياة، ويعيش معنى القوّة في إرادته أمام ما يواجهه من نوازع الداخل وضغوطات الخارج، ولعلّه إلى ذلك يشير قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45).
وإذا تفكّرنا في فلسفة الدِّين بعامّة، لخلصنا إلى أنّها تنطلق من رؤية كونيّة لموقع الإنسان في الحياة، ولما يمثّل القيم التي ترفع من مستوى الإنسان فيها، وتحفّز أداءه نحو الحدود القصوى للإبداع، وتزيلُ عنه كلّ الموانع التي تقف عائقاً عن ذلك، عبر منظومة من الأخلاق التي تلعبُ دوراً يُلقي من النفس – بشكل مستمرّ – كلّ النفايات السامّة، التي تمثّلها الأفكار السيّئة، والمشاعر السلبية، والذكريات المؤلمة... وبذلك لا يكون الالتزام بأوامر الله سوى تعبير آخر عن المعنى العميق لإنسانية الإنسان، وما يخالُهُ الواحد منّا قيوداً تنافي الحرّية، إنّما هي منهجٌ لتحرير الإنسان من الداخل، فتنعكس هذه الحرّية في الخارج في كلّ ميادين حركة الإنسان.
وهنا قد نفهم قول الله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30)، في أنّ وظيفة الإنسان في هذه الحياة هي أن يحافظ على نفسه من كلّ ما قد يعلق بها ممّا ينافي إنسانيّتها، وهو ما يحاوله الشيطان، في أن يتّخذ نصيباً من عباد الله، يحوّلهم إلى شياطين من الداخل، كما قال تعالى: (وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (النساء/ 118)، ويأتيه الجوابُ (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحجر/ 42)، ومن أولئك الذين سمحوا للشيطان أن يعبث بفطرتهم، فاستحوذ عليهم.
وبعبارة أخرى، ليس "الدخول في عباد الله" سوى عودة للنفس إلى معنى إنسانيّتها الصافية، وفطرتها السليمة، فكما كان تلويثها بإطاعة الشيطان، أو ما يمكن أن تعبّر عنه "النفس الأمارة بالسوء"، موجباً لخروج هذا الإنسان من الجنّة و"هبوطه" إلى الأرض، فإنّ منع الشيطان – عبر منظومة الإيمان – من تلويث هذه الفطرة موجبٌ لعودتها إلى الجنّة، كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) (الأعراف/ 27). وعلى كلّ حالٍ، فهذا بحثٌ آخر مرتبط بطبيعة العلاقة بين الشيطان والإنسان، ودور الشيطان في عمق الشخصية الإنسانية.
ثالثاً: استناداً إلى ما تقدّم، قد يبدو واضحاً لنا أنّ الإيمان لا يُفقد الإنسان ثقته بنفسه وتقديره لذاته، ولا ينمّي فيه عناصر الفقر الذاتي أمام الموجودات الأخرى المشاركة له في الفقر الذاتي، بل هو يدفع الإنسان نحو أعلى ثقة بالنفس، وأمام أعلى مستوى من الإشباع النفسي أمام المخلوقات الأخرى، إنساناً أو غيره، وبذلك تكون هذه النظرة الدينية تكريساً لاعتبار الإنسان محوراً تدور حوله حركة الوجود المخلوق، وذلك إنّما يكسبه من خلال ارتباطه بمحور الوجود الحقيقي، وهو الله، واجبُ الوجود، ومنبع الفيض في كلّ ما هو حقٌّ وصدقٌ وخير. وبهذا نفهم معنى أن يكون الإنسان خليفة الله على الأرض؛ فإنّ هذا إنّما يتحقّق من خلال عبوديّته لله؛ لتكون هذه العبودية قاعدة التحرّر أمام كلّ ما يضغط على إرادته، سواء كان ذلك من خلال نوازعه وغرائزه الذاتية، أو من خلال القوى الخارجية المحيطة به. وبهذا نفهم أيضاً قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، حيث إنّ العبادة هنا ليست العبادة بالمعنى الطقوسي فحسب، وإنما هي المسار الذي تحقّق العبادة الطقوسية أساساً من أسسه، لتكون العبادة فعل التحرّر المنشود الذي به يواجه الإنسان الشيطان ونوازع الشرّ ويحتكم إلى إرادة الله من موقع إحساسه بإنسانيّته. وبهذا أيضاً قد نفهم المبرّر لمبدأ التسخير الذي تحدّثت عنه عدّة آيات قرآنيّة، فإنّ التسخير خدمة للإنسان في تحقيق إرادة الله بالمعنى الذي أشرنا إليه، وكذلك قد نفهم أن يكون الإنسان قبضةً من الطين ونفخةً من روح الله؛ فإنّ تلك النفخة قد تكون أبعد من نفخة الوجود والحياة، وإنّما هي نفخة الإرادة والقدرة والإبداع والتطوير وتسيّد الكائنات ضمن السنن التي وضعها الله تعالى لحركة الكون والإنسان.
رابعاً: لعلّنا نستطيع هنا أن نؤسّس مبدأ مهمّاً من مبادئ الوجود الحضاري للإنسان، حيث كان الجدل الدائر حول الدِّين يتمحور في البحث عن دورٍ يكون الإنسان فيه فاعلاً أساسيّاً في الحياة، ولذلك تمّت القطيعة مع الدِّين الذي يشكّل حجر عثرة أمام انطلاق عجلة الإبداع والإنتاج، وأثّر ذلك على نظرة كثيرين للدِّين عموماً في موقعه من ذلك، حتى ذهب البعضُ إلى اختيار الإلحاد أو إبعاد الدِّين عن ساحة الحياة، باعتباره في نظرهم يشلّ حركة الإنسان، في الوقت الذي تمثّل فيه هذه الحركة المستندة إلى مبدأ الحرّية، القاعدة الأساسية لإنتاج الحضارة الإنسانية.
ونعتقد هنا أنّنا من خلال ما تقدّم، نستطيع أن نعيد إلى الدِّين بُعده الإنساني، وأن نرفع التنافي بين ما هو دينيّ وما هو إنساني، وأن نعطي للحركة الإنسانية كلّ حرّيتها لكي تعبّر عن نتاجاتها وإبداعاتها على هدى العقل، وفي خطّ القيم التي تبقي التوازن في مسار الحياة.►
المصدر: كتاب تأمّلات قرآنية (الحرّيّة الفكرية)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق