• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التربية الدينية

السيد سابق

التربية الدينية

◄الدين والضمير:

إنّ أمثل الوسائل في تقويم الأخلاق، وتهذيب السلوك هو الأخذ بالتربية الدينية؛ لأنّ الدين بما له من تأثير على النفوس، وسلطان على القلوب هو الذي يوقظ حواس الخير، ويوجه إلى المكارم، ويبعث على الفضائل، ويحيي الضمير.

والضمير كما يقول علماء الأخلاق: هو الشعور النفسي الذي يقف من المرء موقف الرقيب – يحب على أداء الواجب، وينهى عن التقصير، ويحاسب بعد أداء العمل. مستريحاً للإحسان. مستنكراً للإساءة.

وهذه اليقظة الروحية هي حقيقة الإيمان وجوهره. وقد سُئل رسول الله (ص) عن علامة الإيمان فقال: "إذا ساءتك سيئتك، وسرتك حسنتك فأنت مؤمن".

هذه اليقظة الروحية هي مظهر رضا الله وإرادته الخير بالإنسان. يقول الرسول (ص): "إذا أراد الله بالعبد خيراً جعل له واعظاً من نفسه".

والطبيعة الخيّرة من شأنها أن تتجه هذا الاتجاه الخير، وتسعى إليه، وتحرص عليه، ويسوءها أن تنحرف عنه.

يقول الرسول (ص): "البرّ ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس".

وتربية الضمير تُكتسب بالتعليم والمران منذ الحداثة، وممارسة الفضائل النفسية، وأداء الواجبات الدينية. سواء كانت شخصية، أم اجتماعية. ومن ثم يقول الرسول (ص): "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".

ويقول: "إنّما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم".

أي: إنّما يكتسب العلم والحلم بالدربة، وأخذ الأسباب إليهما.

وإنّما كان ذلك كذلك؛ لأنّ العبادة تجدد الإيمان، وتعصم من الانزلاق الخلقي، وتحفظ من اتباع الشهوات، وتباعد بين الإنسان ونفسه الأمارة بالسوء، وتبعث فيه الرغبة في التسامي، والشوق إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.

هذا من جانب... والإسلام من جانب آخر يمدح الفضائل، ويعد عليها بحسن الجزاء. كما يذم الرذائل، ويتهدد مقترفيها بشر العواقب.

ثم هو يتخذ جميع الذرائع لغرس العدل والإنصاف، وإحياء فضيلة الإيثار وإنكار الذات، ويحبب إلى النفس المعاونة، والمؤازرة، والمحبة، والرحمة، والكرم، والإحسان، ويروضها على الصدق، والإخلاص، والأمانة، والوفاء.

وما من سبب من الأسباب التي تبعث على علو الهمة، والإباء، والقناعة، ومجانبة الريب، واحتمال الأذى من أجل الحقّ، والصبر على تبعاته إلّا وله في تعاليم الإسلام مجال رحب، وميدان فسيح.

 

أثر الرأي العام في السلوك:

والنفوس الإنسانية ليست كلّها مستعدة لأن تنهض بأعباء الفضائل، وتسير وفق قانون الأخلاق.

فمن الرجال جداول وجلامد            ومن النفوس حرائر وإماء

والإسلام يضع العلاج الناجع، والخطة المثلى؛ ليرعوي الجاهل عن جهله، ويرجع الشارد عن شروده. فهو يوجب على كلّ مسلم أن يطارد الرذيلة، ويقوّم الإعوجاج ويغير المنكر، وينصب من نفسه رقيباً على كلّ شذوذ يتنافى مع العرف الصالح والأدب الرفيع.

يقول رسول الله (ص): "مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

ويقول: "ما من نبي بعثه الله في أُمّة إلّا كان له من أُمّته حواريون وأصحاب. يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره..، ثم إنّها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن..، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

وهذه الرقابة تكون رأياً تكون له الهيمنة على المثل العليا، والقيم الفاضلة.

والرأي العام سياج منيع، وقوة لها وزنها في الحفاظ على العادات الحسنة، والتقاليد الصالحة.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) (التوبة/ 71).

 

العقوبة كعلاج:

وفي الوقت الذي يفرض فيه الإسلام الرقابة العامة على السلوك لا يغفل جانب القوّة المادية، واستعمال العنف، والأخذ بالحسم، والضرب على أيدي العابثين بالقانون، والخارجين على النظام، فإنّ من الناس مَن لا ينفع فيهم إلّا الشدة والقسوة.

فقسا ليزدجروا ومَن يك حازماً        فلقيس أحياناً على مَن يرحم

ومن ثم فهو يقرر لكلّ جريمة عقوبة ليستوفي المجرم جزاءه من ناحية، ويرتدع أمثاله من ناحية أخرى.

(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى/ 40).

ففي جريمة القتل يوجب القصاص.

(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (البقرة/ 179).

وفي الاعتداء على العرض بالزنا أو القذف يوجب الجلد:

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2).

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 4-5).

وفي جريمة السرقة يقول:

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة/ 38).

وفي الحرابة أو السرقة الكبرى يقول:

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 33-34).

وفي غير هذه الجرائم يضع الإسلام الأصل العام الذي يرجع إليه الحاكم في تقدير العقوبة، وهذا الأصل هو المنصوص عليه في قول الله تعالى:

(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى/ 40).

وهذه العقوبة هو التي يعبر عنها في الفقه الإسلامي بالتعزيز.

وفي الوقت الذي يقرر فيه الإسلام العقوبة لا يفرضها فرضاً، ولا يجعلها حتمية، بل يفتح باب العفو عنها في غير الحدود قبل أن تصل إلى الحاكم؛ فقد يكون العفو أصلح لنفس الجاني من العقوبة:

(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى/ 40).

وفي الحديث: "لأن يخطئ الحاكم في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".

 

عرض الواقع التاريخي:

وكثيراً ما يلفت الإسلام أنظار الناس إلى الواقع التاريخي للأُمم السابقة، ليذكرهم بسنن الله في الاجتماع البشري، وأنّه يستمتع بالحياة الطيبة ما أقام السنة الصالحة، فإذا جحد بها، وتنكر لها دمر الله عليه، وعذبه عذاباً نكرا.

وفي هذا التذكر العبرة النافعة، والعظة البالغة.

(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف/ 111).

(وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود/ 120).

 

الغاية من التربية الدينية:

والغاية من التربية الدينية أن تتهذب نفس الإنسان، وتتكامل؛ ليستطيع القيام بواجبه نحو الله ونحو أسرته، ونحو إخوانه في الإنسانية، وأن يقول الصدق، ويحكم بالحقّ، وينشر الخير بين الناس... وهذه هي درجة الصالحين التي يريدها الله للذين يتمسكون بالدين، ويحرصون عليه.

(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل/ 19).

 

مظاهر التربية:

وللتربية الدينية مظاهر تبدو في سلوك الفرد وتصرفاته، منها:

انتقاء اللفظ النظيف، والعبارة المهذبة حين الكلام. يقول الله تعالى:

(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء/ 53).

ومنها اتباع أهدى السبل، وأقوم المناهج، وأولاها بالحقّ في العمل. يقول الله تعالى:

(فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 17-18).

والمتدين يصون قلبه من أن تعبث به الأهواء، ويتطلع دائماً إلى ما هو أرضى وأنقى وأتقى.

ومن مظاهر هذه التربية علو الهمة، وكبر النفس بحيث نترك الدون من شؤون الحياة، وتقتحم الصعاب في اكتساب الفضائل، والأخلاق العالية.

إذا غامرت في شرف مروم             فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير              كطعم الموت في أمر عظيم

ومن مظاهر قوة الإرادة والشجاعة الأدبية. بمعنى أن يتمرس المرء بالصبر والثبات والجلد، ويطارد الجزع واليأس، ويقول الحقّ دون أن يخشى في الله لوم اللائمين.

وإلى هذا تشير الآية الكريمة:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 200).

وقد كان النبيّ (ص) يبايع أصحابه على أن يقولوا الحقّ ولو كان مُراً، وألا يخافوا في الله لومة لائم.

والإنسان الذي يتمرس بالتربية الدينية الصحيحة لا يعطل عقله، ولا مواهبه الفكرية. فلا يصدق الوهم، ولا يأخذ بالحدس والظن، لأنّ الظن لا يغني من الحقّ شيئاً. وإنّما يحكم العقل فيما يعرض عليه من مسائل العلم والكون والطبيعة والحياة؛ ليصل إلى العلم، وليبلغ اليقين.

وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى:

(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36).

أي: لا تقل علمت والحال أنّك لم تعلم، ولا سمعت والحال أنّك لم تسمع، ولا رأيك والحال أنّك لم ترَ؛ لأنّ الله -سبحانه- سيسأل الإنسان من أين جاءه العلم عن كلّ ما رآه، وسمعه، وعلمه.

وقد تصل التربية الدينية بالإنسان إلى حد الاستهانة بالحياة، والتضحية بالنفس وبكلّ شيء من أجل انتصار العقيدة، وإحقاق الحقّ.

عن أنس بن النضر أنّه لم يشهد مع رسول الله (ص) غزوة بدر، فشق ذلك عليه، وقال: أوّل مشهد شهده رسول الله (ص) -غبت عنه- لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله ليرين الله -تعالى- ما أصنع فشهد مع رسول الله يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو. واهاً لريح الجنة إني أجده دون أحد!!

ثمّ قاتلهم حتى قتل -رضي الله عنه- فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية.

قالت أخته الرُّبَيِّع: فما عرفت أخي إلّا ببنانه.

وفيه وفي أصحابه نزلت هذه الآية:

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) (الأحزاب/ 23).►

 

المصدر: كتاب عناصر القوة في الإسلام

ارسال التعليق

Top