• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التربية بوابة التنمية البشرية المستدامة

د. إبراهيم يوسف العبدالله

التربية بوابة التنمية البشرية المستدامة
◄إنّ طبيعة العصر الذي نعيش فيه، والذي يمتاز بالثورة التكنولوجية الرقمية وبالتطورات الكبيرة في مجال تكنولوجيا المعلومات والإتصالات والإعلام، وتخطي حواجز الزمان والمكان من خلال القرية الكونية  ونظام الفضاء الإلكتروني للمعلومات (Cyberspace)، والثورة التكنولوجية الجديدة في تكنولوجيا الإنترنت التي طورت أنظمة بحث معلوماتي عبر الإنترنت فائقة الذكاء، إضافة إلى توقعات العلماء على أن تكون التغييرات والمضامين هائلة وسريعة ومستمرة في المستقبل القريب في هذا الحقل، وستشكل قفزة عملاقة في تاريخ البشرية. كما يمتاز هذا العصر بسرعة التطور الكمي والكيفي للمعرفة الإنسانية وتقيدها، وبالسرعة الفائقة التي تتحول بها نتائج البحث العلمي إلى منتجات متداولة على نطاق واسع في دول العالم كلها، وإنتشار التصنيع الحديث الذي يعتمد على المعلوماتية والتكنولوجيا المتطورة، والذي سيغير نمط الحرب في المرحلة القادمة حيث "سيرتبط مفتاح النصر في الحروب القادمة بعامل المعرفة والسرعة والدقة، وتشتيت قوات العدو وإرباكه إلى درجة تمنعه من القتال بكفاءة لتحقيق النصر الحاسم بسرعة وفاعلية" (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2001م). يضاف أيضاً إلى مميزات هذا العصر التقدم الكبير الذي حدث نتيجة الاندماج بين علوم الحياة والمعلومات، وخصوصاً ما يتعلق بهندسة الجينات وأثرها على البشرية، والعولمة وآثارها الإيجابية والسلبية واعتماد النظام الاقتصادي العالمي على المعرفة، وتحول محور الارتكاز من مصادر الطاقة المادية إلى الارتكاز على الطاقة الفكرية، وتحويل العلم إلى قوة اقتصادية، وانتشار التعامل التجاري في عالم بلا حدود، وزيادة الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض بشكل مضطرد، وخصوصاً المخصصة للاستخدام التجاري، وبروز أساليب اقتصادية جديدة تتناسب مع العولمة الاقتصادية وعالم تبادل المنافع، والتوجه إلى المزيد من خصخصة إنتاج السلع والخدمات في جميع دول العالم، وتفعيل عملية التنمية الاقتصادية من خلال آليات السوق والقطاع الخاص، وزيادة التعقيد في النظام المالي العالمي، وتراجع مفهوم الاقتصاد القومي بصورته التقليدية، والتوجه نحو التكتلات الاقتصادية، والمنافسة الحادة في التجارة والاقتصاد بين دول العالم لتحقيق إنتاج راقي النوعية، والاهتمام العالمي بالتفوق والتميز باستثمار كل الطاقات للتكنولوجيا الحديثة والقوى البشرية عالية المهارة، وتعزيز ثقافة الجودة (Quality Culture) والاتقان. فعالم الغد الجميع فيه متنافسون بلا حدود، والتأثير والتأثر العالميان نتيجة لتزايد سرعة التغير في المجتمع الدولي المعاصر في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية والثقافية، والمواءمة والتقارب في أساليب الحياة، وعمليات التجانس الثقافي (Global Cultural Homogenization) والثورة الأخلاقية، والقيمة الجديدة، والتغيرات العميقة في مفاهيم الإنسان وطموحاته، وقيمه الأخلاقية والجمالية، وتوجه الأسرة الدولية إلى تعميق الديمقراطية والمطالبة بالمزيد من الحريات والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص، وتعزيز مبادئ حقوق الإنسان، واتساع دور منظمات المجتمع المدني والمشاركة في صنع القرارات وإدارة المجتمع، وتعاظم دور المرأة في الحياة العامة والإنتاج والاقتصاد والسياسة، وما يواكبه من حقوق مدنية تتساوى فيها مع الرجل، والاهتمام بالحقوق الأساسية للطفل في الصحة والتعليم والرعاية الشاملة والأمن، إضافة إلى الاهتمام المتزايد بالشؤون البيئية على المستوى المحلي والعالمي، ومكافحة المجتمع الدولي للإرهاب والتعصب والتمييز في كافة أشكاله. كما أنّ من الملامح الرئيسية لهذا العصر النمو السكاني والتطور الهائل في وسائل العلاج والوقاية من الأمراض وتحسن فرص سلامة الإنسان وصحته، وبخاصة ما يتعلق بمتوسط العمر في الدول المتقدمة ومجموعة الدول النامية غير الدول الأفريقية الفقيرة، فمن المتوقع "أن يصل إجمالي تعداد البشر على الأرض إلى ما بين (8-9) مليارات) نسمة بحلول عام 2030م". [مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2001م].

وبالمقابل، تشير تقارير التنمية البشرية الصادرة من الأمم المتحدة أنّ الفقر والجوع والتخلف الذي تعيشه الغالبية الساحقة من شعوب بلدان العالم النامي في تفاقم، إضافة إلى انتشار الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة وانتشار الأمراض الخطيرة الفتاكة في هذه الدول.

إنّ كل ما أدت إليه حضارة عصر المعلومات وما سوف يؤدي إليه عصر ثورة ما بعد التكنولوجيا الذي ظهرت بوادره ستحدث تحولات والتغيرات والتطورات المتسارعة المعاصرة لابدّ من تربية ومناهج من نوع جديد تعتمد على عقول البشر وقدراتهم، بحيث تصبح عملية التعليم والتعلم ذات الجودة العالية التي تستهدف بناء الحياة من أجل المستقبل الدعامة الأساسية في التنمية المستدامة (Sustainable Development) والمنافسة الكونية (Global Competition). فالتجارب الدولية المعاصرة أثبتت أن بداية التقدم الحقيقية هي التعليم، فالتربية تتحمل مسؤولية كبيرة في تحقيق التنمية بمعناها الواسع التي تشمل كل نواحي الحياة. كل ذلك، كان له أعظم الأثر في دفع كثير من المجتمعات الدولية المتقدمة والنامية إلى إدخال تغييرات جذرية ملموسة في سياستها واقتصادياتها ومخططات تعليمها وأساليب تفكيرها وطرائق حياتها، وإعادة بناء أنظمتها التربوية ومناهجها الدراسية بصورة دائمة ومستمرة لتنسجم مع تطلعاتها المستقبلية ومع متطلبات العصر وتحديات المستقبل. وفي هذا الصدد أكد الخبراء الدوليون في أكثر من مجال، وكذلك منظمة الأُمم المتحدة (UN) واليونسكو (Unesco) واليونسف (Unicef) والبنك الدولي (World Bank) والمنظمات غير الحكومية (NGO) والمنتديات الفكرية والمؤتمرات العالمية وغيرها... أهمية التطوير التربوي في جميع دول العالم مع أعطاء الأولوية العليا للتعليم، ويرون أنّ الاستثمار في التربية في مستقبل البشرية جمعاء ثانياً، وقد حث مؤتمر البرلمانيين العالمي الذي عقد في العاصمة الفرنسية باريس. بالتعاون مع اليونسكو في الفترة الممتدة من 3-6 يونيو 1996م على "تنمية الخبرات المحلية ودعمها وإنتاج المعرفة واكتسابها ونقلها، والتركيز في المناهج التربوية والبرامج على تنمية القدرة على التكيف والتفاعل المنتج مع متطلبات العصر ومتغيرات المستقبل والانفتاح على الفكر العالمي وتنمية الإبداع". [اليونسكو (1996م). "توصيات مؤتمر البرلمانيين العالمي، 3-6 يونيو"].

وقد أكدت الدراسة التي أعدتها اليونسكو (تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن الحادي والعشرين) والذي يعرف بتقرير (Jacques Delors) والمعنون "التعلم! ذلك الكنز المكنون" (Learning: Treasure Within) على "دور التربية الرائد في تقدم المجتمعات ورقيها في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية، وبشكل خاص بناء القوى البشرية والتنمية الذاتية المستمرة والمستدامة" (Delors, Jacques, 1996). والاستثمار في رأس المال البشري يعني الإنفاق على تطوير قدرات وكفايات وطرائق تفكير ومواهب الإنسان إلى أقصى مستوى ممكن وبشكل مستمر ودائم طوال حياته، وتكوين الاتجاهات والقيم والمواقف الملائمة ليتكيف مع المتغيرات السريعة في كل مجالات الحياة، ويواجه تحديات العصر بكل ثقة، ويتمكن من التفاعل مع المستقبل.

يقول (الحميد، عبدالوهاب: 1997م) "إنّ الاستثمار في التعليم هو استثمار في الأُمّة، لأنّه استثمار في الإنسان والاستثمار في الإنسان يختلف عن الاستثمار في الآلات والمعدات. فالإنسان – ببساطة – ليس آلة يتم التخلص منها إذا ثبت أنها غير منتجة أو غير صالحة للإستخدام، والإنسان غير محايد كالآلة، فهو يملك فكراً ومشاعر. وعندما يتم ارتكاب الأخطاء في الاستثمار التعليمي. فتخرج المدارس والمعاهد والجامعات بشراً يحملون الشهادات ولكنهم غير قادرين على الإسهام في تنمية مجتمعاتهم، فإنّ الخسارة لا تقتصر على الأموال التي صرفت على هؤلاء الناس أثناء دراستهم وإنما تتجاوز ذلك إلى الآثار السلبية التي تنعكس على ميادين العمل المختلفة". كما يؤكد في موقع آخر نقلاً عن العالم الاقتصادي (Hia Myint) أنّ الأخطاء التي يتم ارتكابها في الاستثمار المادي، ومحاولات إنقاذ هذا الاستثمار، تؤدي إلى حدوث آثار سلبية على الهيكل الإنتاجي بكامله. كما أنّ الخطأ الذي يرتكب في الاستثمار في رأس المال البشري يؤدي إلى آثار سلبية مماثلة في البنية التحتية الاجتماعية لكننا عندما نحصل على النوع الخطأ من رأس المال البشري فلن يكون بوسعنا أن نتخلص منه، لأنّه يملك خاصية التكاثر". وعليه، أكّد تقرير اليونسكو (التعلم: ذلك الكنز المكنون، 1996م) أن مفهوم التعلم مدى الحياة هو أحد مفاتيح القرن الحادي والعشرين، وهو يتجاوز التمييز التقليدي بين التعليم الأوّلي والتربية المستمرة، ويستجيب للتحدي الذي يطرحه عالم سريع التغير، وأنّه ينبغي أن يحل التعليم مدى الحياة مكانة القلب في المجتمع (Delors, Jacques, 1996). كما يؤكد (الرشيد، محمد: 2000م) نقلاً عن نيريري بشيء من التصرف "إن أنسب صيغة تربوية للتعامل مع الأوضاع الاقتصادية الحالية والمستقبلية تكمن في تبني سياسة التعليم المستمر، حيث إنّ التعليم المستمر والتدريب المقترن بالحياة وبالعمل هو الحل، فكما أنّ العمل هو جزء من التعليم، فكذلك يجب أن يصبح التعليم جزءاً أساسياً لا ينفصل عن العمل، ويجب على الناس التعلم في أثناء العمل وفي أماكن عملهم، وينبغي أن تتحول أماكن العمل إلى أماكن للتعلم". مما سبق، نستخلص أنّ التربية من الميادين الحيوية الفعالة في تنشئة القوى البشرية وإعدادها في أي مجتمع، باعتبار أنّ الإنسان أساس كل تنمية والمحرك الحقيقي والفعال في مدخلاتها، كما أنّها تسهم إسهاماً فعالاً في تحقيق مطالب المجتمع وطموحاته المستقبلية، وهي الوسيلة الأساسية إن لم تكن الوحيدة لمواجهة تحديات ومتغيرات القرن الحادي والعشرين وتحديات التنمية، وهي استثمار "ذو عائد اقتصادي"، وقوة ومصدر للتقدم الاجتماعي والنمو التكنولوجي، ودفع لعجلة الإنتاج والتنمية في المجتمع. وبقدر ما تقدم التربية من وسائل فعالة في تنشئة الإنسان، تكون نوعية المجتمع وفعليته أفضل، فهي من أهم الوسائل التي يبني عليها العالم ثقته بمستقبل البشرية، وقد أصبحت مسؤولة عن تخلف المجتمعات أو تقدمها... وإليها تتجه أصابع الاتهام إذا حلت نكسة أو هزيمة. ومن أهم المرتكزات التي تقوم عليها عمليات التطوير التربوي النظر إلى العملية التعليمية التعليمية على أنها نظام يتكون من شبكة واسعة متكامملة العناصر، تشمل فيما تشمل الأهداف التربوية وبنية التعليم ومناهجه، ومحتواه، واستراتيجياته، وإدارته، ونظمه، ومؤسساته، والأبنية، والتجهيزات والخدمات التعليمية، وعلاقته بالمحيط المحلي والعالمي وغيرها. وهذه العناصر تشكل نظاماً للعملية التعليمية تتأثر بها كما أنها تؤثر في الوقت ذاته في السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع، وعليه فإن إصلاح التعليم، ورفع كفاءته، وزيادة إنتاجيته، يتطلب إدخال تحسينات وإحداث تغييرات، ليس فقط على كل عامل من عوامله الرئيسية، بل على كل جزء من أجزاء عناصره المتفرعة، لأنّ هذه الجوانب والأبعاد والعناصر والأجزاء كلها متفاعلة ومتداخلة، إذا أهمل أي جزء كان له مردود سلبي على الأجزاء الأخرى. وضمن هذا النظام تحتل المناهج التربوية موقعاً استراتيجياً في العملية التربوية، لأ،ّها وسيلة لإصلاح التعليم، وتجسد إلى حد كبير مضمون طبيعة التعليم والتعلم، ولأنها الترجمة العملية لأهداف التربية وخططها واتجاهاتها في كل مجتمع.► المصدر: كتاب (الإصلاحات التربوية لمواجهة متطلبات العصر وتحديات المستقبل)

ارسال التعليق

Top