• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التعايش في الرؤية الإسلامية

الشيخ محمّد علي التسخيري

التعايش في الرؤية الإسلامية

◄في أجواء الاختلاف يكون التعايش على أساس التعددية التي يرتضيها الإسلام، هو الحل الكفيل بتجنب مشاكل الصراع والتضارب في الرؤى والأفكار والمعتقدات بشتى ألوانها. ولا يعني التعايش القبول بنسق واحد من التفكير والسلوك، وصهر الجميع في بوتقته، كما لا يعني التنازل عن الحق أو توزيعه على المتعايشين بنسبة متساوية، وفقاً لمفهوم التعددية Pluralism الذي يفهمه الغرب، بل يعني أن يحتفظ  كلّ طرف بوضعه الخاص، ويمارس نشاطه الديني أو المذهبي أو الفكري أو السياسي، في إطار الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الإسلام بمضامينها المتوازنة والمرشدة، والتي لا تسمح لأي طرف بسلب حقوق الآخرين أو الاخلال بأمن المجتمع، مهما بلغت قوة هذا الطرف عدّة وعدداً، والصورة المثلى للتعايش هي صورة دولة المدينة، التي كان اليهودي والنصراني يعيشان فيها بأمان إلى جانب المسلم وفي كنف الدولة الإسلامية، وكان الحبشي والرومي والفارسي يتمتعون فيها بكل حقوق المواطنة كالعربي تماماً، وهكذا تعايش المهاجرون إلى جانب الأنصار، وتعايش الأوس والخزرج معاً، بل كان يعيش فيها أتباع التيارات الفكرية والسياسية، التي تشكل لوناً من المعارضة، وفي المقدمة تيار المنافقين والمشركين: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون/ 1-6)، لقد كان الجميع يدركون حقوقهم وواجباتهم، ويمارسونها بالصورة التي قننها الإسلام.

وتستند الرؤية الإسلامية في مجال التعايش مع الآخرين إلى أساسين رئيسين، هما:

1-    المصلحة الإسلامية العليا على ضوء الواقع القائم.

2-    الصلاة والرحمة الإنسانية والعلقات الأخلاقية.

ويستقي التشريع الإسلامي في كلّ مجالاته من هذين المعنيين فيعتبران من أهم سمات التشريع الإسلامي في شتى جوانبه. أما العناصر الرئيسية التي تحدد نوعية العلاقة بين المسلمين وغيرهم كآلية للتعايش، فأهمها:

1-    الأُمّة المثال: يصف القرآن الكريم الأُمّة الإسلامية بالوسطية، ويريد به المثال الأسمى والأُمّة الشاهدة التي كانت خير أُمّة أخرجت للناس، وهذا العنصر يدفع الأُمّة باتجاه السمو والتكمل في كلّ المجالات، والاستفادة الأكمل من تجارب الآخرين، ويعني ذلك الانفتاح على كلّ مجالات الحياة، وحمل رسالة إنسانية حضارية كبرى.

2-    المبدئية: وتقضي بنوعين من التعايش: الأوّل بين المؤمنين، وهو تعايش أخوي، ويعني وحدة الأفراد في مجمل الشؤون. والنوع الثاني مع الآخرين، ويحدد طبيعته مقدار قربهم أو بعدهم عن المبدأ الإسلامي، الذي يحدد مضمون التعايش معهم، كأن يكون ودياً حسناً أو يشوبه القلق.

3-    نفي السبيل على المؤمنين: ويعني أن أي تصرف أو وضع معاهدة تؤدي إلى تفوق الكافرين على المسلمين يعد ملغياً من أصله: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا) (النساء/ 141)، وهذه القاعدة تعد من القواعد الثانوية التي تستطيع الحكم على الأحكام الأولية بمجموعها. وهذا التوجه لا يعبر عن نوع من التكبر، إذ تعمل هذه القاعدة على أساس معايير إنسانية.

4-    التوعية والدعوة: فالتعايش لا يعني تجاوز حقائق الإسلام التي تؤكد استمرار التوعية والدعوة. ويقتضي التعايش المتوازن والعلاقات السلبية بين فئات المجتمع ان تركز النوعية على أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى/ 15).

5-    العدالة: يشكل العدل أهم أصول التصور الإسلامي للواقع، وأهم الأسس عند التعامل الاجتماعي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (النساء/ 135). ولعل الآية الكريمة: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8)، تعبر بدقة عن أهمية العدل في معادلات التعايش، حتى في حالات التوتر التي يكاد ان ينسى فيها العدل. ومن خلال النظر إلى طبيعة تعامل دار الإسلام مع غير المسلمين، ندرك البعد الإنساني في عنصر العدل. وهو ما يفسر أيضاً وقوف الإسلام إلى جانب المستضعفين والمحرومين في كل مكان.

6-    تأليف القلوب: في الأجواء التي يحكمها تأليف القلوب، تنفتح النفوس على الحقيقة وتتقرب إلى الواقع. ويعود هذا العنصر إلى تشريع سهم المؤلفة قلوبهم في مصارف الزكاة، والذي فتح المجال للوقوف إلى جانب المستضعفين والدفاع عن قضاياهم واجتذابهم نحو الإسلام، والانفاق عليهم بما يحقق مصلحة الإسلام العليا، وتعميق التعايش الإيجابي بين مختلف اتجاهات المجتمع.

7-    الوفاء بالعهد، ويقصد به الوفاء بكل العهود والاتفاقات التي تعقد بين المسلمين وغيرهم: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) (الإسراء/ 34). ومن هذه العقود ما صرح به الإسلام وحدد لها قوانينها العامة، ومنها ما يرى ولي الأمر ضرورتها لتحقيق مصلحة إسلامية عليا. ومثال الأولى: عقد الهدنة وعقد الأمان، ومثال الثانية: العقود الاقتصادية والعسكرية وغيرها.

8-    التعامل بالمثل: مبدأ جزاء الإحسان بالإحسان، ومبدأ القصاص: مبدءان واقعيان يرتضيهما المنطق الإنساني والتعامل الفردي والاجتماعي، وهدفهما ردع الاعتداء واستقطاب القلوب. يقول تعالى:

(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة/ 194).

(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة/ 8).►

 

المصدر: مجلة رسالة التقريب/ العدد 33 لسنة 2002م

ارسال التعليق

Top