سنتطرّق إلى ثلاث مقاربات للتقنية: التقنية نسيان للوجود، التقنية إيديولوجيا، والتقنية نظام.
1- هيدجر: التقنية نسيان للوجود:
التقنية سؤال فلسفي قبل أن تكون مجرد سؤال علمي، وحَظِيَت من ثم باهتمام الفلاسفة نظراً إلى ما تطرحه من تحدِّيات على الفكر الفلسفي المعاصر. ولا غرابة في أن يحظى سؤال التقنية باهتمام ليس هيدجر وحده بل ثلّة من الفلاسفة المعاصرين من أمثال هابرماس وإيلول وغيرهم.
ويُعتبر هيدجر رائداً في مساءلة التقنية، ولكنه يميِّز في الآن ذاته بين التقنية وماهية التقنية. ما يعني الفيلسوف أساساً هو مساءلة ماهية التقنية، لا التقنية، على اعتبار أن حصر السؤال في التقنية لا يعدو أن يكون منطلقه تصوراً أداتياً، وفي أحسن الأحوال تصوراً أنتربولوجياً وإنسياً للتقنية. بحسب التصور الأوّل التقنية نشاط أو فعالية أو وسيلة من أجل تحقيق غاية معيّنة، وعليه تمثِّل التقنية مجموع الآلات والاجهزة التي يُرمى من ورائها تحقيق غايات محددة وإنجاز أهداف مرسومة سلفاً. وبمجرد معرفة تلك الأهداف والمرامي والغايات ينتهى السؤال. بينما السؤال الفلسفي حول التقنية لا ينتهي بمعرفة الأهداف التي ترمي إليها.
أما السؤال الإنسي أو الأنتربولوجي فليس أحسن حالاً من السؤال الأداتي. وبمجرد ما نتصور أنّ التقنية نشاط إنساني خفيت عنا الخلفية الفلسفية للسؤال، وحُجِبَت علينا الممكنات التي بوسعها أن تفتح لنا آفاق التفلسف. كيف لا والحال أن نسبة التقنية إلى فعالية الإنسان يُنهي حتى إمكان السؤال نفسه، وذلك بواسطة ادِّعاء أنّ الإنسان يحقق نفسه من خلال التقنية وأنّه يتحكَّم فيها ويوجِّهها الوجهة التي يُريدها، ويرسم لها الحدود التي يريدها، بينما الملاحظ هو العكس تماماً: فكيف للإنسان أن يقود التقنية وهو المنقاد لها، وكيف يسوسها وهو المُسَاسُ لها، وأنّى له أن يسود عليها وهو المَسُود.
يعود قصور المقاربتين الأداتية والأنتربولوجيا إلى كونهما لا ينظران إلى التقنية سوى باعتبارها جهازاً أو مجموعاً من الأدوات والآلات المُسَخَّرة لإنجاز غايات ورسم أهداف، وبالتالي النظر إلى التقنية على أنها لا تتجاوز ما خُطِّطَ لها من دون أن تتعدّاه؛ بينما المطلوب هو مساءلة الجذور الميتافزيقية للتقنية، أو بتعبير آخر مساءلة ماهيتها الفلسفية. ويتطلّب الأمر في هذا المستوى العميق من السؤال عدم التحيّز لا للتقنية ولا عليها، وعدم تقريظها وتعداد حسناتها وإيجابياتها من جهة، ولا التبرُّم منها والخوف منها وإحصاء مثالبها وسلبياتها، فالمسألة ليست بهذا التبسيط والاختزال. ولا ينبغي أن نتخيَّل أن أفضل موقف هو الحياد الأكسيولوجي (Neutralite axiologique)، فالحياد خدّاع يُوهم بالموضوعية، بينما الموضوعية هنا ذريعة فقط للتخلُّص من صرامة الفكر. وصرامة الفكر تقتضي ألا نستسلم للمواقف السهلة التي تقتل السؤال الفلسفي في مهَدِه قبل أن يولد.
تقتضي صرامة الفكر وشجاعة الموقف الفلسفي اقتفاء أثر السؤال والسير في دروبه الملتوية وصولاً إلى عمق المسألة وجوهر المشكلة: بصرف النظر عن كون التقنية مجرد جهاز آلي أو إنجاز بشري ومهارة إنسانية، هي في العمق إدراك للوجود ورؤية للعالم. بمعنى آخر لا تنفصل التقنية عن تصور للوجود بمجمله، وللعالم برمّته، فهي انجلاء للوجود في الأزمنة الحديثة لا سابق له عند اليونان ولا في العصور الوسطى. يمكن القول إذن إن ماهية التقنية هي خاصية وجوهر العصور الحديثة والأزمنة المعاصرة.
بأيّ معنى تُعتَبَر في نظر هيدجر انكشافاً للوجود؟
لقد خصّص هيدجر الحديث في تقنية الطاقة سواء الكهربائية أو النووية وفي تقنية صناعة الرأي، وبيّن من خلال الأمثلة التي تناولها كيف أنّ التقنية أساساً تخزين للطاقة وكيفية لصرفها عند الحاجة. قبل أن تكون التقنية نشاطاً إنسانياً أو أداة لتحقيق غايات معيّنة، هي أوّلاً ماهية لها علاقة وطيدة بالوجود، وهي من ثم تعبير عن كيفية ظهور الوجود في الأزمنة الحديثة. التقنية استدعاء للوجود، للحضور، ومن ثمّ فهي استدعاء للطبيعة لكي تُخرِج ما بداخلها من طاقة. تستدعي التقنية الوجود لكي يُسلم ما بجوفه من طاقة وقوة؛ فهي بهذا المعنى تحريض للطبيعة، فما الأرض سوى قشرة لاستخلاص المعادن، وما الهواء إلا لاستخراج الأزوت، وما التربة سوى لاستخراج المعادن، وما المعدن سوى لاستخلاص الأورانيوم، وما الأورانيوم سوى لصنع الطاقة النووية. التقنية في عمقها تحريض للطبيعة لكي تخرج طاقتها وتخزينها وإعادة توزيعها. تضع التقنية الحديثة الوجود رهن الإشارة وتجعل منه مخزوناً للطاقة. تُستَعمَل الطاقة هنا بالمعنى العام سواء كانت طاقة كهربائية أو قوة هوائية أو غيرها، كلّ هذا لا يهم. حتى الإنسان نفسه لا يسلم من هذا، وهو بدوره مدعوّ لكي يُسلِمَ ما بداخله من قوة وطاقة. وهذا يؤكِّد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الإنسان نفسه لا يُعَدُّ استثناء من نمط انكشاف الوجود، وحتى لو أنّه بواسطته تُحَقِّق التقنية مساعيها وغاياتها، يقع بدوره في شراكِها: والمثال الساطع على ذلك هو أنّ الإنسان من منظور التقنية لا يُعتبر سوى مورد من الموارد، ويُتَرجم في علوم التسيير إلى موارد بشرية. يورد هيدجر مثالاً دالّاً فحارس الغابة مرتهن للغابة، وشجر الغابة مرتهن لصناعة الخشب، والخشب مُسَخَّر لصناعة مادة السليلوز، وهذه الأخيرة مُسَخَّرة لصناعة الورق، والورق مسخَّر لصناعة الجرائد والمجلات، وهذه الأخيرة مُسَخَّرة لصناعة الرأي العام. وعليه فماهية التقنية ثاوية خلف مظاهرها، إنها تحريض للطبيعة والإنسان معاً، تجعل كلّ شيء رهن الإشارة وتستدعيه للظهور في الوقت الملائم كلما دعت الضرورة إلى ذلك. إنها استخراج للطاقة وتخزين لها ووضعها رصيداً يتم استدعاؤه كلّما وجب ذلك.
2- هابرماس: التقنية إيديولوجية:
يُخَصِّص هابرماس في مقاربته للعلم والتقنية كإيديولوجيا – وهو نفس عنوان أحد كتبه – الحديث عن نوعين أو شكلين من التقنية: تقنية وعلوم الاتصال، وتقنية وعلوم الحياة (info sphere, biosphere).
يطرح هابرماس مقاربة أخرى للتقنية، يمكن توصيفها بكونها مقاربة إيديولوجية واجتماعية. وبناء عليه فمقاربته تقترح تناول العلم والتقنية ضمن إطار أوسع ويتمثَّل في العقل الاستراتيجي والأداتي الذي يتَّسم من بين ما يتَّسم به استعمال كل الطرائق والمناهج والأدوات التي طوَّرها العقل في سبيل إخضاع الطبيعة والمجتمع والإنسان إلى غايات محددة أساسها الربح والمنفعة بصرف النظر عن القيم كيفما كان مصدرها. يمكن القول إنّ المنطق المستحكم في العقل الإستراتيجي هو تحقيق النفع والمردود والربح وإرساء الضبط والرقابة الاجتماعية وترسيخ الهيمنة السياسية. لقد صار كلّ شيء في المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة مختزَلاً في التقنية بما هي تحكُّم وسيطرة وهيمنة. ابتكرت هذه المجتمعات شتى الطرق التي تُمكِّنها من أن تنظِّم نفسها ذاتياً بكيفية تجعلها تعمل آلياً: يتكوَّن النظام الاجتماعي برمّته من مجموعة من الأنظمة الفرعية التي تعمل آلياً، فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يعمل وفقَ وسائل تمكِّنه من إعادة التوازن الذاتي درءاً لكلّ الاختلالات التي يمكن أن تهدِّد توازنه، كما يعمل النظام الإداري والسياسي وفق بيروقراطية تحفظ له احتكار الشرعية، ومن ثمّ الاستحواذ على السلطة. كما تتسم الحياة السياسية في هذه المجتمعات الحديثة باستبداد العقل الاستراتيجي الذي يُعيد إنتاج وتوزيع مواقع القوة والسلطة عبر تنظيمات سياسية مكوّنة من برلمانات ومؤسسات وأجهزة حزبية تضفي صفة الشرعية على الدولة البيروقراطية.
من هنا يتبيّن أن ما يهيمن على جميع الأنظمة السالفة الذكر هو العقل الإستراتيجي والمنطق التقني الذي يُعتَبَر العقل المنظِّم للمجتمعات الحديثة والمعاصرة. فالتقنية أوسع من أن تُحصَر في أدوات وأجهزة، إنها بالأحرى المنطق العام الذي يهيمن على الاقتصاد والإدارة والسياسة والسلطة والذي تُعتَبَرْ سِمَتُهُ المُهَيمِنَة النظر إلى كلّ شيء، لا على أساس أن له قيمته في ذاته بل على أساس أنّه موجَّه نحو غاية: الإنتاج ومزيد من الإنتاج في الاقتصاد، الرقابة والضبط في المجتمع، مأسسة الهيمنة في السياسة.
ليست التقنية في مدلولها العام – سواء تقنية الاتصال أو تقنية الطب والوراثة – سوى الاتجاه العام المُستَبِدّ بالمجتعات المعاصرة الذي يقيس كل شيء بالنسبة إلى ما يُدِرُّهُ من نفع، وبمقدار ما يحققه من غايات إستراتيجية يمكن تلخيصها في إرساء منطق الهيمنة، وهي بذلك لا تنفصل عن العقل الاستراتيجي والأداتي. ليست التقنية محايدة البتة – وهو هنا يلتقي مع هيدجر – ولا يمكن اختزالها في مجرَّد وسائل وأدوات. إذا كانت المجتمعات التقليدية ما قبل الحداثة تتسم بارتكازها على الحكايات والأساطير المؤسِّسة، والمجتمعات الحديثة بارتكازها على الإيديولوجيات الكبرى، فإنّ المجتمعات الرأسمالية المعاصرة تتسم بارتكازها على العلم والتقنية باعتبارهما إيديولوجيا.
نشأت من النسق الرأسمالي العام أنساق أو أنظمة فرعية: النسق الاقتصادي والمالي والصناعي (التقني والعلمي) الذي تتحكم فيه قوانين السوق والمال، والنسق البيروقراطي في الإدارة، والنسق السياسي المبني على احتكار السلطة. يمكن القول بأنّ العلم والتقنية تحوَّلا إلى إيديولوجية المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة، بعد انهيار شرعية الأساطير وشرعية الإيديولوجيات الكبرى، وهما بذلك يؤسِّسان لشرعية جديدة. إنهما من الآن فصاعداً يلعبان دوراً إيديولوجياً. ومجمل المعضلات التي تواجه المجتمعات المعاصرة تُقَدَّم لها حلول علمية – تقنية. وفيما يلي بعض الأمثلة: نشهد اليوم استقالة الدولة من كثير من وظائفها التقليدية كالرعاية الاجتماعية، والتربية على المواطنة، والتعليم العمومي، فانحسرت أدوارها في المهام التقنية والإدارية والبيروقراطية مثل الحفاظ على التوازنات الاقتصادية، وإرساء سياسات وقائية من دون المبالاة بالعدالة الاجتماعية وبالفضاء السياسي. والأدهى من هذا كله اختزال المشكلات العملية والسياسية في إجراءات تقنية مثل العدالة والإنصاف، والديمقراطية والمشاركة السياسية؟ فهذا النوع من الأسئلة لم يعد يحظى من جانب الدولة المعاصرة باهتمام يُذكَر، واستُعِيضَ عنها بطرح حلول تقنية. لا يهم إن تحققت العدالة الاجتماعية أم لم تتحقق، المهم هو الحفاظ على توازنات المجتمع. لا تهم المشاركة السياسية – التي تُعتَبر حجر الزاوية في الديمقراطية – بل كلّ ما يهمُّ هو إرساء آليات تقنية لحفظ توازنات آلية. ولم يعد ملحّاً تشكيل رأي عام سياسي بقدر ما صار المهمّ صناعة الرأي عبر وسائل الإعلام.
ما يكشف عنه هابرماس في كتابه العلم والتقنية كإيديولوجيا هو أنّ العلم والتقنية صارا يمثِّلان إيديولوجيا جديدة، وأصبحا يشكِّلان جهازاً مستقلاً يتطوَّر من تلقاء نفسه وبكيفية آلية، ومنه تستمَّدُّ مشروعية جديدة. لقد ساعد هذا الجهاز التقني العلمي الدولةَ المعاصرة على إفراغ السياسي من السياسة، وعلى تحويل الديمقراطية إلى تقنوقراطية، وعلى إرساء سياسة لا سياسية، وبعبارة أخرى حلّت التقنية محل الإيديولوجيات التقليدية.
كلّ ما هو سياسي وله طابع عَمَلي استُعيض عنه في ظل الدولة المعاصرة وفي الرأسمالية المتطوِّرة بالآليات التقنية، واختُزِل في مجرَّد مشكلات بيروقرطية وإدارية وفي إجراءات تقنية. لقد اعتُقِد بأن باستطاعة العلم والتقنية أن يقدِّما حلولاً لكلّ ما استشكل في الوجود المعاصر: استحالات الثقافة في المجتمعات الرأسمالية إلى صناعة للأوهام، واختُزلت في مجرد تنظيم لأوقات الفراغ، لقد تحوَّلت الثقافة إلى ترفيه وتسلية، والحال أنّ الثقافة سمو ورقي وتربية ذوق.
يقوم العلم والتقنية بطمس الصراع الطبقي وبإخفاء التفاوت الاجتماعي وبتحويل المعضلات الاجتماعية إلى مجرد مشكلات مالية واقتصادية وبيروقراطية. وبدل طرح مشكلة العدالة الاجتماعية يتم إرجاعها إلى مشكلة تنافس وإلى مسألة ربح وخسارة وإلى قضية حظ. ومن هذه الزاوية تُعتَبَر الفئات الفقيرة ضحية سوء حظها، ولا يُعَبَرُ فقرها سوى نتيجة خلل اقتصادي لا حصيلة ظلم اجتماعي يلحقُها.
يمكن – حسب هابرماس – رصد بعض مظاهر تحكُّم إيديولوجيا العلم والتقنية في المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة، التي يمكن تقسيمها إلى قسم يهم تقنية المراقبة والاتصال، وتقنية التحكُّم في الحياة والوراثة، وهي كالآتي:
أ- ما فَتِئَت المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة تستخدم تقنيات جديدة في التحكُّم والمراقبة وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات، وفي استخدام وسائل وتقنيات مضادة للشغب. ألم تعد هذه المجتمعات مجتمعات تلصُّص وتجسُّس على مواطنيها بواسطة زرع كاميرات المراقبة في كلّ ركن وفي كلّ زاوية؟ إنها مجتمعات تُطَوِّر أنظمة المعلومات في سبيل ضبط أفرادها ومراقبتهم.
ب- ما انكفت هذه المجتمعات تُطوِّرُ وسائل تقنية طبية للتحكم في النظام الجيني وتوجيهه، وفي تعديله بما يتلاءم مع السياسات الليبرالية ومع مبدأ الفعالية..
كلّ هذه الوسائل والإجراءات التقنية تدلُّ على اتجاه عام في المجتمعات المعاصرة نحو اعتبار الإنسان مُصَمَّم على شكل آلة أو على شكل حاسوب، وبالتالي إمكان توجيهه بالكيفية التي يُراد توجيهه بها.
وفي هذا الإطار يمكن الكلام على حدوث تحوُّل كبير لم يُفطَن إليه: اندرج الاستلاب في إطار الإيديولوجية الماركسية في مستوى لا واعي وتلقائي. بمعنى آخر كان الاستلاب فيما مضى يحصُلُ بكيفية تلقائية وليس عن سبق إصرار، أما اليوم فصار الاستلاب يُصمَّمُ قبلياً ويُخطَّط له سلفاً بوسائل علمية وتقنية، إنّه استلاب مُبَرمَج ومنظَّم مسبقاً.
وبهذا المعنى شاع في العصر الراهن الحديث عن نهاية الإيديولوجيات وبداية عصر التقنية، بحجة تبشير المجتمعات المعاصرة بالمعرفة للجميع – وهذا ما يُصطَلَح عليه بمجتمع المعرفة والعلم – لكن المُلاحظ هو انسياق العالم وراء تيار جارف يُسمّى العولَمَة، حيث أصبح الادِّعاء بأنّه قرية صغيرة أو قرية كونية مجرَّد دعوى إيديولوجية تُخفي من ورائها البَونَ الشاسعَ بين الفقراء والأغنياء، ليس بين الجنوب والشمال، بل حتى داخل المُجتمعات المسماة مجتمعات الوفرة.
إن ما لم يفطن إليه المبشِّرون بنهاية الإيديولوجيات هو أنّ العلم والتقنية يشكِّلان في العمق إيديولوجيات جديدة، رغم ما يظهران به من مظاهر الحياد والموضوعية. لقد حلَّ في المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة نزوع نحو الضبط والمراقبة بسبب هيمنة الوعي التقنوقراطي الذي يُشيع الوهم الإيديولوجي بأن بمُكنَة العلم والتقنية إيجاد حلول لكل مشكلات الإنسان المعاصر. يمكن اعتبار إيديولوجية العلم والتقنية هي إيديولوجية بديلة للإيديولوجيات البورجوازية والليبرالية الكبرى، وتقم مقامها، لأنّ هذه الأخيرة استنفدت طاقاتها التعبوية؛ فهي اليوم مصدر إضفاء المشروعية على الممارسات انطلاقاً من تكريس مبدأ الإنجاز والفعالية، ومن خلال تقديم وعود جديدة بضمان رغد العيش وتأمين الشغل واستقرار الدخل.
لقد أسفرت هيمنة إيديولوجية العلم والتقنية في المجتمعات المعاصرة – حب هابرماس – عن نتائج أهمها المساهمة في ضمور وانكماش الفضاء السياسي والمجال العمومي، والتواطؤ في صرف أنظار الناس عن السياسة. يكفي النظر إلى ما تقوم به وسائل الإعلام من تشويه للنقاش السياسي ومن تحويل المناظرة السياسية إلى شبه فرجة لمعرفة إلى أيّ مدى ساهمت تكنولوجيات الاتصال في تحويل الحملات السياسية إلى ما يشبه حملات دعائية وإشهارية. ويكفي النظر إلى تكنولوجية وصناعة الترفيه لمعرفة إلى أيِّ مدى ساهمت في استغلال أوقات الفراغ في المجتمعات المعاصرة بشكل لم يعد للإنسان متَّسع من الوقت للاهتمام بالعدالة الاجتماعية وبحُسن توزيع الثروات، وبالعمل السياسي الذي يهدف إلى التغيير. صار كلّ همّه أن يهرب من الأسئلة الكبرى ومن المشكلات التي يطرحها الوجود المعاصر. كما أشاعت وسائل الاتصال الحديثة ثقافة الترفيه التي امتد أثرها إلى الطبقات المحرومة في المجتمع.
نشرت إيديولوجية العلم والتقنية ما يمكن أن نسميه بالتصحُّر السياسي وجعلت من السياسة مجالاً مقفِراً لا يهتم به الإنسان سوى من باب الفضول، وطمست الدور الحيوي للسياسة في إرساء الديمقراطية وفي تقرير الإنسان لمصيره.
فضلاً عن ذلك ساهمت تكنولوجيات الاتصال في تنامي النزعة الفردية، وفي انحسار الناس في دائرتهم الخاصة، وفي لا مبالاتهم بغيرهم، وانخفضت درجة حرارة الشعور الإنساني بالآخرين لديهم فصار همُّهم تحسين دخلهم وتطوير مسارهم المهني.
3- جاك إيلول: التقنية نظام:
أ- في مفهوم التقنية:
يُتيح مفهوم التقنية تفسير الظواهر التقنية، ولكنه مفهوم مركَّب. هل التقنية طريقة عمل أم أسلوب أو مجموع من الطرائق (Ensemble de procedes)؟ ومهما يكن من أمر فالتقنية المقصودة هنا هي التقنية ذات التطبيق الصناعي، ومن ثم فهي ذات صلة بالآلة التي تعتبر مُنتَجاً حديثاً. التقنية هي كلّ الطرائق الآلية ذات التطبيق الصناعي، فيما التقانة أو التكنولوجيا هي العلم الذي يدرس التقنيات. نظراً إلى كون المجتمعات الحديثة مركَّبة ومعقَّدة، وبسبب التقسيم الاجتماعي للعمل ابتُكِرَت تقنيات منها آلات تزيد من فعالية الإنسان كتقنيات الحساب، ومنها الأدوات والأجهزة التي تعوِّضه وتحلُّ محلَّه. وما كان من تعدد التقنيات إلا أن زادت من تكاثر الآلات. وقد ارتبط تطوُّر التقنيات بالثورات الصناعية الكبرى: الأولى ارتبطت بالطاقة الفحمية، والثانية بالطاقة الكهربائية، والثالثة بالطاقة النووية، والرابعة بالحاسوب. تبدو التقنية اليوم عبارة عن عمليات مستقلة بذاتها تكوِّن النظام التقني برمّته، التي يمكن تحديدها في التنظيم والحَوسَبَةِ وكشف المعلومة وتخزينها، والتي يُستعاض بها عن النشاط الإنساني وعن الفاعلية الإنسانية. لا تُختَزَل التقنية في مجرَّد استعمال الأدوات والأجهزة والآلات، ولكن تمتد لتشمل كلّ الوسائل والطرائق الأكثر فعالية، والتي تؤثر ليس في الإنتاج الصناعي ولا في الإنتاج الاقتصادي بل وفي التنظيم الاجتماعي وفي نمط عيش الإنسان أيضاً.
ب- في التقنية كنظام:
التقنية في نظر جاك إيلول نظام أو نسق مترابط الأجزاء، ومن ثمّ فلهذا النظام منطق داخلي هو الذي ينتج في نهاية المطاف الظاهرة التقنية. ولا يتم التقدم التقني سوى من داخل النظام التقني برمّته. وحدها النظرة الجامعة يمكنها أن تجعلنا قادرين على فهم الظواهر التقنية. يعمل النظام التقني ذاتياً وبكيفية آلية وشبه مستقلة مثلما هو الحال في دراسة ماكس فيبر للنظام البيروقراطي. ما يرمي إليه إيلول هو بيان أنّ للنظام – سواء تعلَّق الأمر بالنظام التقني أو بالنظام البيروقراطي – آليات ووظائف لا يستطيع الإنسان إلى تغييرها سبيلاً، ويظل هو نفسه مشروطاً لها. من الخطأ الاعتقاد بأنّ التقنية هي مجموع الأشياء التقنية، وأنّ الإنسان يملك زمام التقنية ويقودها إلى الوجهة التي يُريدها. لا يمكن فهم التقنية سوى كنظام أو كنسق. ليست التقنية سيارات وطائرات وأقمار الناظم لكل الآلات والأجهزة والأدوات ولكل الطرائق والأنظمة. النظام التقني يجعل من كل الظواهر التقنية كلّاً مترابطاً: فلا معنى لسرعة الاتصالات في العالم التقني الذي نعيش فيه بدون ربطها بأنماط الشغل وبأشكال السكن وبنُظُمِ الحُكمِ والإدارة وبأنماط الانتاج والتوزيع والاستهلاك.
فما هي خصائص هذا النظام التقني؟
أوّل هذه الخصائص التنظيم الذاتي (Autoregulation). ولنضرب مثالاً على ذلك يتطوُّر نظرية المعلومات، فلولا ترابط أجزاء النظام التقني لما أمكن تطوير نظام المعلومات الذي يمكِّن أجزاءه من التواصل فيما بينها. وها نحن اليوم نلاحظ كيف أنّ الصورة الرقمية تُستَعمَل في الاتصال مثلما تُستعمل في الطب. يتسم الاتجاه العام للنظام التقني بتطوُّر نظرية المعلومة. لم تعد المجتمعات الحديثة مستندة إلى مبدأ الإنتاج بقدر ما صارت قائمة على الإرسال، والأهم فيها ليس السلعة وإنما المعلومة.
ثاني هذه الخصائص أنّ النظام التقني مكوَّن من أنظمة فرعية: نظام الاتصال، نظام الإنتاج والاستهلاك، النظام الحضري والعمراني... إلخ.
ثالث هذه الخصائص المرونة، لأنّ التقدم التقني يتيح بدائل كثيرة وحلولاً عديدة، ولكن شريطة الامتثال للنظام التقني برمّته، فهو يترك هوامش للحركة والفعل والتصرُّف، بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية.
رابعها، يطوِّر النظام التقني طرقه الخاصة للتكيُّف والتعويض، وتُبتَكَر حلول وبدائل يمكن بواسطتها إيجاد حلول إنسانية لعالم لا إنساني.►
المصدر: كتاب الإنترنت والإستلاب التقاني
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق