◄هو التناصر بين أفراد المجتمع ليسدّ بعضهم حاجات بعض، ويسند الضّعفاء من قِبل الأقوياء، وكذلك التّناصر بينهم في القيام بأعباء العمل الصّالح، فيقوّي القادرون منهم على ذلك الضّعفاء فيه بمختلف معاني القوّة والضّعف، حتّى ينتهي الأمر بهذا وذاك إلى أن تكون الجماعة المؤمنة بريئة من سواقط الأفراد والفئات الذين يعيشون على هامش الحياة: حرماناً من كريم المعيشة، أو عطالة عن العمل الصّالح، وينخرط الجميع في حقوق الكرامة والكفاية، وفي واجبات العمل والتّعمير.
والإيمان بالله تعالى دافع فاعل لتحقيق المعنى من التكافل الاجتماعي؛ ذلك لأنّ استشعار وحدانيّة الله في خلق الإنسان وتدبيره وتولّي مصيره، يثمر في النّفس شعوراً بالأخوّة إزاء النّاس جميعاً، وإزاء المؤمنين خاصّة، فيكون المؤمن رائياً نفسه في الآخرين بما هم إخوة له في الإنسانية بصفة عامّة، أوإخوة له في الله بصفة خاصّة، فإذا ما يصيبهم كأنّه يصيبه، فيهيبّ إذن لنصرتهم مما قد يقعون فيه من مهانة وعجز وحرمان، وهو يشعر في نصرتهم كأنما ينصر نفسه لما هو مستقر فيه من معاني الأخوة في الإنسانية وفي الله، وذلك هو معنى قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة/ 32)، فهذا الامتداد الشّعوري بإرادة الخير واستقباح الشرّ للناس جميعاً من خلال الإرادة والاستقباح في حقّ إنسان واحد إنما هو متأتّ من الإيمان بالله المقتضي لتكريم الإنسان، وذلك المعنى هو أيضاً ما جاء في قوله (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يجب لأخيه ما يحب لنفسه"، فهو الإيمان بالله الذي يجعل المؤمن يرى نفسه في الآخرين، ويرى الآخرين في نفسه، فيدفع ذلك لا محالة إلى التكافل والتّناصر.
ولو تدبّرنا القرآن الكريم لو جدنا أنّ تلك الصّور المكّية الأولى نزولاً، التي جاءت تبشّر أساساً بوحدانيّة الله تعالى، وتدعو إلى الإيمان به الإيمان الحقّ، جاءت تقرن هذه الدعوة إلى الإيمان بالله بالدعوة إلى التكافل الاجتماعي: نصرة للضّعفاء والمحرومين من اليتامى والمساكين والعبيد والعجزة، وحفظاً لكرامتهم، وعوناً لهم على القيام بالعمل المثمر. وقد ورد ذلك الاقتران مورد البيان لما يقتضيه الإيمان بالله من ذلك التكافل، وما يثمره من الدّفع للقيام به، فكأنّما هو بُعد مباشر من أبعاده، أو كأنما هو وجه عمليّ له. ولهذه الثّمرة من ثمار الإيمان مظاهر متعدّدة كما جاء في السّياق القرآني.
فالإيمان بالله يقتضي التّكافل النّفسي المتمثل في النّصرة المعنويّة لمن هم في انكسار نفسي بسبب أو بآخر من الأسباب، وقد جاء في القرآن الكريم تأكيد مكرر لهذا المعنى فيما أولى من عناية باليتيم كرمز لمنكسري النّفوس، إذ قد استجمع جميع معاني الانكسار النّفسي، وذلك حينما جعل إكرام اليتيم ثمرة من ثمار الإيمان ببيان أنّ الشّرك من آثاره الاستهانه باليتامى، والتّنكّب عن نصرتهم والبرّ بهم، وهو المفهوم من قوله تعالى في محاجّة المشركين وتقريعهم: ( كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (الفجر/ 17)، ومن قوله في وصف المشركين المكذّبين بالدّين: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (الماعون/ 1-2)، فهذه الآيات تفيد أنّ مَن يؤمن بالله حقّ الإيمان يكون مكرماً لليتيم، بارّاً به وناصراً له، وذلك مفهوم بطريق الخلف، وهو عنوان للتناصر المعنوي النّفسي بين المؤمنين بالله، ويندرج فيه كافّة أنواع التّناصر المعنوي، مثل تفريج الكرب عن المكروبين، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وتحرير المستعبدين.
كما يقتضى الإيمان بالله التكافل الاقتصادي، وذلك بنصرة المحتاجين لمرافق الحياة، وتوفير حاجاتهم منها، وقد جاء القرآن الكريم يؤكد على هذه النّصرة، مبيناً أنّها من ثمار الإيمان، وأنّ الإخلال بها من ثمار الشّرك، وذلك كما في قوله تعالى: (كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الفجر/ 17-18)، وفي قوله تعالى: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد/ 11- 16)، ففي هذه الآيات تقرير بطريق الخلف لكون الإيمان بالله تعالى من شأنه أن يدفع المؤمن إلى كفالة إخوانه من المحرومين كفالة اقتصادية بالإضافة إلى الكفالة المعنوية بالتّفريج النفسي، وذلك ببيان أنّ من صفات المشركين الاستهتار بالضّعفاء والمحرومين، وقد أجمل هذا المعنى قوله (ص): "ليس المؤمنُ الذي يشبع وجاره جائع"، فمعناه أنّ الإيمان الحقّ بالله يثمر التكافل الاقتصادي بين المؤمنين تكافلاً يمتد إلى جميع ضرورات الحياة.
ويقتضي الإيمان بالله أيضاً التكافل الإنتاجي بين المؤمنين، وذلك بأن يمدّ المؤمن إلى أخيه المؤمن بكلّ ما هو في حاجة إليه ليباشر به عملاً إنتاجياً، فيكون له بذلك عوناً على العمل الصّالح. وقد جاء في القرآن المكّي ما يقرن الإيمان بالله بهذا المعنى التكافلي، وذلك في مثل قوله تعالى تشهيراً بالذي يكذّب بالدّين: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون/ 4-7)، فلو كان هؤلاء مؤمنين بالله حقّ الإيمان لكانوا يتداولون الماعون الذي يُستعان به على الأعمال المنزليّة، وذلك رمز للآلات التي يُستعان بها على ما هو أو سع من ذلك في مجال الإنتاج والتّعمير.
إنّ طرح هذه القضايا التّكافلية المتنوّعة بين الجماعة المؤمنة في القرآن المكّي، وهو الذي جاء يركّز أساساً على الدعوة إلى توحيد الله تعالى لذو دلالة بالغة الأهمية في الارتباط بين حقيقة الإيمان بالله وبين التّكافل الاجتماعي الذي تثمرة تلك الحقيقة، وهو ارتباط يجعل الإيمان بالله حقّ الإيمان يفضي بالجماعة المؤمنة إلى التّكافل فيما بينها تكافلاً معنويّاً نفسيّاً، وتكافلاً اقتصاديّاً، وتكافلاً إنتاجيّاً تعميريّاً، وذلك ما تحقّق على وجهه الأكمل في الجماعة الأولى التي آمنت بالله تعالى كما يبدو في التّكافل بين الأنصار والمهاجرين في المجتمع الإسلاميّ الأوّل.►
المصدر: كتاب الإيمان بالله وأثره في الحياة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق