• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التمسك بالحق

أسرة البلاغ

التمسك بالحق

حاجة الدعوة إلى الوعي والمعرفة ودعم الدعاة

هناك نموذجٌ من الناس قد لا يكون مؤهّلاً بحسب ثقافته وموقعه للقيام بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنّ الدعوة إلى الله لا سيّما في المجتمع الذي يحمل كثيراً من التحديات، تحتاج إلى المزيد من الثقافة والمعرفة، وهذا النموذج من إيمانه وصدقه قد لا يملك الإمكانات الذاتية العلمية للقيام بهذه المهمة، ولكنه يشعر بمسؤوليته في دعم الدعاة إلى الله وتقوية مواقعهم، وفي تشجيع الناس للالتفات حولهم، ومواجهة كلّ الدعوات ضدّهم.

وهذا ما نحتاجه في كلّ مجال من مجالات الدعوة إلى الله، وفي كلِّ موقع من مواقع الإصلاح. فهناك مصلحون يدعون إلى الله، ولابدّ أن يكون هناك أناسٌ يؤيدونهم ويدعمونهم ويدفعون الضغوط التي يمكن أن توجَّه إليهم. فالإنسان الداعية إلى الله قد لا يملك القوة في ذاته بالمستوى الذي يستطيع أن يواجه فيه خصوم الدين وأعداء الله، لذا، علينا أن نلتفّ حوله، وهكذا إذا وجدنا جماعة من الناس تدعو إلى الله وتجاهد في سبيله، فالواجب يفرض علينا أن نقوّيها وندعمها، وأن نقف ضدّ الأساليب التي تحاول أن تضعفها.. فإذا لم نستطع الجهاد فندعم المجاهدين، وإذا لم نقدر على الإصلاح، فلنقف مع المصلحين.

ويقول الله سبحانه وتعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (يس/ 20-21)، جاء هذا الرجل لينصح الناس باتباع جماعة تهدي إلى الخير، يُقال عن أفرادها بأنّهم من تلامذة عيسى (ع)، حيث حدّثنا الله عنهم قبل هذه الآيات (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) (يس/ 13)، لم يكونوا أنبياء، ولكنهم كانوا من تلاميذ عيسى (ع) كما يُقال، حيث حملوا رسالته إلى الناس (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) (يس/ 14)، جاءهم اثنان في البداية ولحق بهم ثالث، ولكن الموقف من دعوتهم كان سلبياً، حيث أنّ بعض الجماعات كانوا لايتصورون الجمع بين الرسالة وبين بشرية الرسول، لأنّهم يرون أنّ الرسول يجب أن يكون من الملائكة أو من الجنّ، والرسالة تعني العلاقة بالله، والبشر لا علاقة ولا تواصل لهم مع الله سبحانه، لذلك (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ) (يس/ 15)، وكان الردُّ عليهم: ليس لدينا ما نقدّمه على صدقنا من الشواهد المادّية، ولكننا صادقون مقتنعون واثقون بدعوتنا (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (يس/ 16)، يمكنكم أن تسألونا وتناقشونا وتحاورونا، أما أن ترفضونا بمجرد أنّه لم يعجبكم هذا الطرح الذي نقدّمه إليكم، فهذا ليس منطقاً (وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (يس/ 17)، هذا البلاغ من الله بين أيديكم.. ولكنّ هذا المجتمع ليس مستعدّاً أن يحاور ويدخل في نقاش، باعتبار أنّ طبيعة أوضاعه التي انطلق فيها من دون قاعدة وأساس، تجعله يواجه كلّ وضع جديد وطرح جديد، بأسلوب القوّة وبروحية التهديد، وما إلى ذلك (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يس/ 18)، لقد تشاءمنا بوجودكم بيننا، فإذا لم تكفّوا عن طرح هذه المقولات الجديدة سنرجمكم وننزل بكم أقسى القصاص (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (يس/ 19)، هذا التشاؤم ينطلق من طبيعة واقعكم، وطبيعة السلوك السيء الذي تسلكونه.. فليس الرُسل هم الذين يجلبون التشاؤم للأُمّة، ولكنّ الأوضاع السيئة التي تعيشها هي التي تجلب هذا الشعور. تشاؤمكم ينبع من داخلكم، من نقاط ضعفكم، من أخلاقكم السيئة، من تجاوزكم للحدود الطبيعية في تصرفاتكم ومواقفكم وتمسككم بكلّ ما يعود عليكم بالشرّ والنتائج السلبيّة..

 

النصح والإشفاق:

في خضمّ هذا الحوار جاء شخصٌ كان يكتم إيمانه عن قومه أطلق نصيحته (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (يس/ 20-21)، هؤلاء الدعاة لم يأتوا إليكم ليطلبوا مالاً وجاهاً أو ليحصلوا على امتيازات، وإنما جاؤوكم ليذكّروكم بالله وليدلّوكم إلى طريقه، وليعرّفوكم كيف تحرّكون حياتكم في خطِّ المسؤولية والتوازن (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا) وهو بحديثه هذا يدعم هؤلاء المرسلين موظِّفاً موقعه ووجاهته في قومه من أجل إيقاف الحملة الظالمة عليهم، وليجدوا أنّ هناك صوتاً آخر يختلف عن الأصوات الحاقدة والمهدّدة والمتوعّدة التي تنطلق من أفواه هؤلاء المتمردين.. تكلّم هذا الرجل بكلامه، وكأنه عاد إلى نفسه متأملاً في محاولة منهم لدفعهم إلى التأمل أيضاً (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس/ 22)، كأنّه يريد أن يقول لهم: ما لكم لا تعبدون الله، فهؤلاء المرسلون يدعونكم إلى عبادة الله الذي فطركم وخلقكم وأعطاكم كلّ شيء، إنّهم لا يدعونكم إلى عبادة مَن لا يملك لنفسه نفعاً أو ضرّاً، وإنما يدعونكم إلى مَن هو سرُّ وجودكم.. وهو بهذا يعبّر عن هذه المسألة وكأنّه يناجي نفسه ليدفع الآخرين إلى الاستغراب، فينتقل من حال الخطاب إلى حال التحدّث مع نفسه ليجذبهم نحو التأمل بالمسألة أكثر (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي)، هو الذي خلقني (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أرجع وترجعون إليه سبحانه ليحاسبنا جميعاً على أعمالنا (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ) (يس/ 23)، هل يمكن أن أتخذ آلهة من دون الله؟ لابدّ للآلهة من امتلاك القوة ليستطيعوا دفعَ الضُّر عن الناس الذين يتبعونهم أن يجلبوا النفع لهم. أما هذه الآلهة التي تعبدونها، فلو فرضنا أنّ الله أرادني بضرّ، فإنّها لا تستطيع أن تكشف الضر عني، وأيّة آلهة، هذه الآلهة التي لا تملك الدفاع عن أتباعها في مقابل ربٍّ قادر يريد أن يضرّها؟ (إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (يس/ 24)، وهنا يحاول أن يثير الشك في أنفسهم ليزلزل عقائدهم المنحرفة، ويدفعهم للتفكير فيما يحدّث به نفسه وفيما يقوله.

 

إعلان الموقف الرسالي:

وبعد أن أثار فيهم الحيرة والشك يعلن موقفه، يتوجّه إلى الرسل وإليهم (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (يس/ 25)، أعلنت انتمائي لهؤلاء الرسل، وليرضَ مَن يرضى، وليغضب مَن يغضب، لأنّ هذه هي قناعتي، ولذلك أُعلن التحدي (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) فإنّني أعلن موقفي من دون خوفٍ من أحد.. وهذا الموقف قد يحتاج أن يتخذه كلُّ واحد منا عندما يعيش في مجتمع ينتشر فيه الضلال والفسق والفجور، ويُقبل فيه الناس على خذلان المؤمنين والوقوف ضدّ الدّعاة إلى الله، بحيث أنّ الصوت الوحيد، هو صوت الفجور والانحراف، هنا على كلّ واحدٍ أن يرفع للحقّ صوتاً، بالأسلوب الواعي الذي يحسب حسابات الأشياء بدقّة، لأنّ المجتمع إذا رفض الهدى وتبنّى الضلال، ولم يرتفع صوتٌ يخترق هذا الواقع، فإنّ معنى ذلك أنّ الضلال سوف ينتشر، وأنّ الحقّ سوف يضعف ويزول، لأنّ الحقّ إنما يقوى بالناس وبالمواقف التي تنطلق من قاعدة الحقّ، فإذا لم يكن للحقّ أنصار يدافعون عنه ومواقع تتركّز في قلب المجتمع، فإنّ الساحة سوف تكون للباطل، والله تعالى لا يريد ذلك، بل لابدّ أن يقاوم هذا الظلام نقطةُ نور، ويخترق هذا الواقع كلمةُ حقّ.

وهذا النموذج يقدّمه القرآن لنا، لأنّ الله سبحانه يريد أن تتعزّز هذه الروحية عند المؤمن، حيث يريد له أن يعيش همّ قومه ولو كانوا ضالين، فيفكّر عندما يحصل على الرحمة التي وهبه الله إيّاها، كيف أنّ قومه لم يشاركوه في هذه الرحمة ولم يهتدوا ويسيروا في الخطّ الصحيح.

 

المواقف المشرّفة في الدنيا جزاؤها الجنّة:

وتمرّ الأيام ويموت هذا الإنسان ويقف بين يديّ الله سبحانه، فيأتيه النداء: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فينال النعمة الإلهية على موقفه المشرّف في الدنيا (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) (يس/ 26)، إنّه يتمنّى لو أنّ قومه يعلمون الحقيقة التي تدفعهم إلى الإيمان (بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) يس/ 27)، ليتعرّفوا أنّ طريق الهدى يؤدّي إلى الجنّة، وطريق الضلال يؤدّي إلى النار (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ) (يس/ 28)، لا تحتاج المسألة بأن يرسل الله لهم جيشاً من الملائكة ليقضوا عليهم، فحكمة الله تعالى تقتضي أحياناً أن يمدّ للكافرين والظالمين (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) (يس/ 29)، لا يحتاج الأمر إلّا أن يقول كن فيكون، وكلُّ شيء خاضعٌ لمشيئته سبحانه، وهكذا نقرأ في الدعاء: "فهي بمشيّتك دون قولِك مُؤتمرة وبإرادتك دون نهيك منزجرة" فمشيئة الله هي التي تعطي للوجود معناه، وتعطي للعدم واقعه. ومشيئة الله هنا قضت أن يموتوا بصرخة واحدة (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) فانطفأت نار شبابهم وحيويتهم وحركتهم، هذه النار التي مثّلت وجودهم انطفأت مباشرة.

ثم يتحدّث سبحانه عن الناس بأسلوب العطف والإشفاق (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (يس/ 30)، يا حسرةً عليهم لماذا يتصرّفون بهذه الطريقة؟ لماذا يكون ردّ فعلهم على الرسول من خلال إحساسهم باستكبارهم وقوّتهم وبضعف الرسول؟ لماذا لا يواجهون الموقف بالتفكير والدراسة والحوار، بل بالتحدّي والاستهزاء؟ إنّهم ليسوا أول مَن أهلكهم الله بظلمهم (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) (يس/ 31)، ولن يكونوا آخر مَن يهلكهم، فلماذا لم يعتبروا بمن هلَكَ قبلهم؟ (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (يس/ 32)، فهم ومَن قبلهم ومَن سيجيء بعدهم، ومنذ خلق الله الأرض ومَن عليها إلى أن يرثها سيعودون إلى الله للحساب.

 

دليلٌ واقعيّ:

وهؤلاء أينكرون البعث والمعاد؟ فهم إذا أرادوا أن يفهموا المسألة على الطبيعة، فإنّهم لا يحتاجون إلى برهان وتحليل وفلسفة، بل ليفكروا في خلق الله (وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) (يس/ 33)، ألم تكن الأرض فراغاً، لا نبتة فيها ولا خضرة ولا حياة، فكيف اهتزت وربَت وأنبتت من كلّ زوج بهيج.. إذا أرادوا أن يعرفوا كيف يُحيي الله الموتى، فلينظروا كيف يحيي الله الأرض بعد موتها، فللأرض حياة بحسب طبيعتها، وللإنسان حياة بحسب طبيعته، فالله القادر على أن يعطي الحياة للأرض بعد الموت، قادرٌ أن يعطي للجسد حياته بعد الموت.

إذاً (وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)، أحييناها وأنعمنا عليكم من خلال حركة الحياة في الأرض، ما أنبتت من حبٍّ يشكّل الغذاء لكم (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ) (يس/ 34)، فكلّ هذه النعم لكم (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) (يس/ 35)، ألا يستحق تعالى الشكر منهم؟ وشكر الله، ليس كلمة تقال، ولكن شكر الله، أن يسخّر الإنسان ما أنعم به عليه في طاعة الله، وألا يعصي الله بما أنعم به عليه، وقد قال أمير المؤمنين عليّ (ع): "أقلُّ ما يلزمكم لله ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه".

ارسال التعليق

Top