• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الجدّة.. أُم مع مرتبة الشرف

الجدّة.. أُم مع مرتبة الشرف

تشعر بعاطفة أكبر وأقوى وبمسؤولية أقل

 

"مبروك لقد أصبحتِ جدة" جملة تبهج البعض من النساء، وتخيف البعض الآخر. أن تصبح الواحدة جدة، يعني أن يتقدم العمر بها إلى أعتاب الخريف، تاركة الساحة لبراعم جديدة تتفتح. هذه البراعم التي تزهر أحفاداً، تُنسي الجدة خيانة السنين لها، فتحضنهم بين ذراعيها، وترى فيهم استمراريتها، وتُجدد من خلالهم أمومتها مرة تلو المرة.

"ما أعزّ من الولد إلا ولد الولد" جملة تقنع الجدات كثيراً، فيعشنها بفرح، ولا شيء إلا الفرح. عندما تنتقل المرأة من كونها أُمّاً لتصبح جدّة، تكون أمام فرصة جديدة لأن تعيش أمومتها الحقيقية، وكأنها بالتحديد أم مع مرتبة الشرف. هذه المرتبة، ترفعها إلى الارتباط الكلي مع أولاد فلذات كبدها، بعاطفة أكبر وأقوى ومسؤولية أقل. إلى ذلك، فإنّ الجدة، تلك الأُم الكبيرة، تخبئ لأحفادها، إضافة إلى الطيبات من المأكولات والحلويات والحكايات الجميلة، الكثير الكثير من خبراتها وتجاربها الحياتية، لعلّ العزيزين على قلبها، يأخذون العظة من الأمس، ويكللون مستقبلهم بغار النجاح. باختصار، ثمّ إحساس جديد تشعر به المرأة عند انتقالها من مرحلة الأمومة الأولى إلى مرحلة الأمومة الثانية. فما هو هذا الإحساس؟ وهل يحمل إضافة جديدة للمرأة؟ وكيف تعيه؟

 

جدة قبل الأوان:

"يا إلهي سوف أصبح جدة عما قريب، لا بل خلال ساعة أو أقلّ". تنظر أم إبراهيم من شباك سيارة الأجرة التي تنقلها إلى المستشفى، حيث نقلت زوجة ابنها لتلد، فلا ترى شيئاً. كلّ الصور تمرّ أمامها بسرعة غريبة، تماماً مثل عمرها الذي كرّت سبحته ولم تتوقف بعد، تخاطب نفسها معاتبة: "سأبلغ الخمسين من عمري بعد شهرين، وسوف أكون جدّة، وبعدها الستين والسبعين. مَن يدري؟ قد لا أعيش إلى السبعين". لم تدرك كيف وصلت إلى قاعة الانتظار، يصيح ابنها إبراهيم: "ها قد وصلت الجدة"، تفيق من شرودها وكأن أحدهم هزها بقوة، تجيبه: "أيها الشقي جعلتني جدة قبل الأوان"،. وخلال لحظات، تخرج الممرضة لتبشرهما بقدوم الطفل وتخبرهما أنّه وأمه بخير، وسوف يريانهما خلال دقائق. تصرخ الجدة الجديدة بلا وعي: "إذن لقد أصبحت جدة بالفعل!". بعدها، يُفتح باب غرفة العمليات، تخرج الممرضة بسرير الوالدة شبه المخدرة، تقبلها أم إبراهيم بحنان بالغ. "أين الطفل؟" تسمع ابنها يسأل الطبيب الذي يطمئنه بنجاح العملية القيصرية التي أجراها لزوجته. لحظات وتخرج ممرضة أخرى، وهي تجرّ حاضنة الأطفال، تنظر أم إبراهيم من خلف الزجاج، تنساب دموعها، تصرخ: "ما شاء الله" إنّه إبراهيم، يا الله هذا إبراهيم طفلي..".

 

استمرارية:

في مكان آخر، ثمة سيدات لم يخفن مطلقاً من أن يصبحن جدّات. ومن هؤلاء، سعاد ملعلي (ربة منزل لديها 12 حفيداً) التي لا تخفي أنّ الشعور بأن تصبح جدة "يعني لي الكثير ويشكل إضافات كبيرة إلى حياتي، أوّلاها الشعور الجميل باستمراريتي من خلال أحفادي". هذا الشعور الذي يحمل في مضمونه القليل من الأنانية، لا تتردد سعاد في الاعتراف به، وتقول: "هو شعور يتملك الإنسان ويسعده، ولو أنّه لا يتوقف عنده كثيراً، لأنّ فرحة مجيء وليد جديد إلى العائلة، تطغى على كلِّ شعور آخر". "أحببت أن أكون جدة"، تكمل سعاد كلامها لافتة إلى أنّها استمتعت من جديد بلعب دور الأُم "وأفرحني أن أربي جيلاً جديداً من دون أي مسؤوليات تذكر". تضيف: "ما من حواجز بيني وبينهم، ذلك أننا نتواصل بصراحة وتفهُّم لبعضنا البعض. وهم أذكياء إلى درجة كبيرة، يحرصون على اغتنام فرصة وجودي معهم، لينهلوا من خبراتي كلّ ما يصب في مصلحتهم".

 

تفرّغ:

أحياناً، تكون المسافات التي تفصل بين البشر عاملاً أساسياً في التقريب بينهم. أصبحت السيدة صفاء بكري (مدرسة لغة عربية وإنجليزية) جدة منذ 8 أعوام فقط، واليوم، بات لديها 11 حفيداً، كبيرهم في السابعة من عمره وصغيرهم في شهره الثالث. إلا أنّ المسافات الجغرافية باعدت بينها وبين بعضهم، لذلك، تقول الجدة متنهدة: "آه من السفر والغربة. إنهما يحرمانني من العناق اليومي لأحفادي، ويجعلانني أتحرق شوقاً إلى رؤيتهم. لكني والحمد لله أراهم مرة في السنة، وأتواصل معهم يومياً، مستفيدة من التطور الحاصل على صعيد الاتصالات". تصريح صفاء بأن بُعد المسافات لا يحول دون ارتباطها الشديد بأحفادها البعيدين عنها، يدفعها من ناحية ثانية إلى القول إنها تعيش أمومتها من جديد مع أحفادها القريبين. وتشير إلى أنها "ما إن أمسَت جدّة حتى تذكّرت اللحظة التي أصبحت فيها أماً. ولكنها تتحدث عن فارق بين الأمرين، وهو أنها لم تتفرّغ لأولادها كما تتفرّغ اليوم لأحفادها، كما أنها ليست مسؤولة عن أحفاد مباشرة، في ظل وجود أهلهم. وفي رأي صفاء، أنّ هناك شعوراً جديداً تحمله الأمومة الثانية التي تشعر بها الجدة، حيث تشير إلى أنّ "الجدة تستمتع بشدة بطفولة أحفادها، لأنّها تلعب دور والدتهم من دون مسؤوليات تذكر تلقى على عاتقها". تضيف: "كذلك، فإنّ الانتقال إلى هذه المرحلة، لم يُشعرني بأني امرأة عجوز، فقد اكتشفت مغامرة جديدة وممتعة وغنية بالمحبة والعطاء. وأنا أعتبر نفسي أماً لأحفادي، مسؤولة عن تحقيق رغباتهم، وعن الجمع بينهم على قاعدة الاحترام والأخوّة، وهدفي الأكبر هو بَث الفرح في ما بينهم".

 

أكثر شباباً:

بعفوية متناهية، تبدأ ابتسام طحان (مدرسة علوم، أصبحت جدة في عمر 45 ولديها 9 أحفاد) حديثها بحماسة، تقول: "حفيدي الكبير أصبح في الرابعة عشرة من عمره، والصغير لا يتجاوز الثلاثة أشهر، وجميعهم في نظري أجمل أولاد العالم وأكثرهم أدباً وتهذيباً". أن تكون المرأة جدة، هو "أمر ممتع" بالنسبة إلى ابتسام التي تعترف ممازحة: "لم أفكر لحظة في أنني أصبحت جدة تقدّمت بها السن، بل على العكس تماماً، وجدت نفسي أكثر شباباً وحيوية عن ذي قبل، وكأن أحدهم يستدعيني إلى ممارسة أمومتي من جديد، وبحماسة تتجاوز حماسة الأمومة الأولى، فشعرت باكتفاء نفسي يصعب وصفه". وإذا كانت ابتسام سعيدة اليوم بأحفادها، فـ"لأنّ قلوبهم معي، ويخافون عليَّ كثيراً مثلما أخاف عليهم". تضيف: "لقد اعتدنا أن نرعى بعضنا، لذلك تجدهم منشغلين بالاهتمام بي، وأنامنشغلة بأمورهم الخاصة وبنزهاتهم في سيارتي، وبكثير من الأنشطة التي نقوم بها معاً". "صحيح أنني أدللهم كثيراً"، تستطرد مبتسمة: "ولكنهم في المقابل يقدرون هذا الدلال، ولا أظنهم سوف يستفيدون منه بطريقة سلبية. ولا أخفيكم شعوري بأني أعيش اليوم مع أحفادي الأمومة الحكيمة، وأقوم بأمور فاتني أن أقوم بها مع أولادي".

 

استعداد:

أن تصبح المرأة جدة، "هو أمر كبير ومهم" في نظر مديرة المدرسة السابقة ميسّر طهبوب، التي تعيش حالة الجدة منذ 22 عاماً، وتقول: "لقد كنت أفكر مليّاً في التغيرات التي ستحصل مع مجيء حفيدي الأوّل، فاستعددت فكرياً وعاطفياً للحدث، وسرعان ما رأيت نفسي أتحول إلى أم مجددا"ً.

ترتبط ميسّر بأحفادها بعلاقة وطيدة، فهي تقرّ بأن "مَعزّتهم مثل مَعزَّة أهلهم في قلبي". وتقول: "لقد اعتادوا بسبب انفتاحي عليهم وصراحتي معهم، على مصارحتي بكل أمورهم وشجونهم. لا بل هم يُخبرونني أسرارهم التي لا يخبرون بها أهلهم". ولتشرح علاقتها الخاصة بأحفادها بشكل أوضح، تتوقف ميسر عند قصتها مع حفيدها البكر، فتقول: "كبير أحفادي يبلغ 18 عاماً. ولقد وعدته إذا نجح في الامتحانات، بأنني سوف أسافر معه إلى بلغاريا في رحلة ممتعة، وهذا ما فعلته.. ولكُم أن تُقدّروا مدى العلاقة التي تربطني بأحفادي".

 

حالة:

"لم أخَفْ مطلقاً، لكني شعرت بأني أنتقل من حالة إلى حالة أخرى، وشعوري وقتها لا يمكن وصفه بسهولة". لا تنكر دلال ملعلي (جدة لـ18 أحفاد)، أنّ هذا ما كان عليه شعوره حين أصبحت جدة. ابن دلال هو مَن أنجب حفيدتها الأولى، تتذكر "هذا الحدث السعيد" وهي تتحدث عن علاقتها بها، فتقول: "لقد دللت تلك الطفلة بشكل كبير، لشدة تعلّقي بها. لكنني لم آخذ دور والدتها، على الرغم من أنني شعرت بأمومتي الثانية تجاهها". تضيف: "كنت جدة بالفعل، أتعامل معها بعاطفة جارفة، ممزوجة بالنضج والوعي والخبرة الطويلة". وإذ تتابع حديثها عن علاقتها الوطيدة ببقيّة أحفادها، تعود دلال إلى حفيدتها الكبيرة وتعلّق قائلة: "أتحدث عن الكبيرة لأنها صارت واعية، ولديها من الأسرار التي تخصّني بها دون سواي، ولا حتى والدتها. إنّ الأمر هذا يُفرحني كثيراً، وأتوقع أن يحذو الآخرون حذوها في المستقبل". تختم: "أتمنى لهم أياماً سعيدة ومثمرة".

 

تعدٍّ:

يبدو أنّ الحفيد البكر الذي لم يتجاوز السنتين من عمره، لم يحمل الفرح إلى القلوب فقط، بل إنّ مجيئه خَصَّ الجدة سميرة عبيد بإحساس جديد، وتختصره بالإشارة إلى أنّه "رائع رائع، رائع، رائع". لا تكفّ سميرة عن تكرار هذه الكلمة، موضحة: "ما زال شعوري جديداً ورائعاً لكوني أصبحت جدة. بعد فرحتي بابنتيّ، جاءتني الفرحة الأكبر بتحويلهما إلى جدة سعيدة".

تخالف سميرة القول القائل: "أنت جدة يعني أنك كبرت في السن"، وترد بإجابة مختصرة: "قلبي شاب، ولن يخيفني التقدم في العمر، مادمت أستمتع بكل مرحلة من مراحل حياتي".

وتتذكر سميرة أنها كانت سيدة عاملة. ولذلك، هي لم تُعطِ بناتها الثلاث وقتها بالكامل، فتقول: "كنت أضع بَناتي في الحضانة لأتفرّغ لعملي. لكن اليوم، بات في إمكاني التفرّغ كلياً لحفيدتيّ، والاستمتاع بكلِّ لحظة معها، حيث أراقب نشأتهما لحظة بلحظة". في المقابل، تؤكد سميرة بصوت جاد أنّ "هذا لا يعني أني أمارس الأمومة معهما". تضيف: "أنا ضد التعدّي على أمومة ابنتيّ، ولكنني أعيش كجدة لهما، بشكل صحيح ومفيد للجميع".

 

عبودية:

في المقابل، ما الذي يربط الأحفاد بجداتهم؟ وكيف يعيشون هذا الارتباط؟

يتوقف سعيد محمد (مدير علاقات عامة)، عند هذه الأسئلة، ليجيب بصراحة: "جدتي والدة أبي، عزيزة جدّاً على قلبي، هي بمثابة أمي الثانية، وأراها أحياناً تتقدم عليها في بعض الأمور، من ناحية التفهم والخبرة والحنكة والحكمة، ربما لفارق السن بينهما". إلا أنّ هذا ليس كلّ ما يربط سعيد بجدية، فهناك واقعة محددة يبوح بها بقليل من الخجل، ويقول "كنت مازلت في السادسة عشرة من عمري، حين كشفتني جدتي وأنا أدخن سيجارة مختبئاً في زاوية شرفة غرفتي، ولا أنسى الحرج الذي أصبت به حينذاك، لاسيّما حين جاءت بكرسي لتجلس معي على الشرفة وتتحدث إليَّ بهدوء شديد". يتذكر سعيد بتأثّر كلام جدته، ويحكي: "يومها نظرتْ إليَّ مباشرة وقالت، هل طعم هذه السيجارة لذيذ؟ لا أريد أن أحرجك يا حبيبي فأنت حرّ في ما تفعله، ولكني متأكدة من عدم اقتناعك بما تفعل، وإلا لفعلته في العلن. في كلِّ الأحوال لا تدع هذه الملعونة تجعل منك عبداً لها، أنت رجل في نظري والرجل هو مَن يملك الإرادة الصلبة".

تأخذ الذكريات سعيد من جديد، يعلق وقد عاد إلى أرض الواقع: "تركتني جدتي وحيداً، السيجارة بين أصابعي المرتجفة، بينما كان قلبي يدق بسرعة جنونية. فلم أمسك سيجارة منذ ذلك اليوم، ولم تخطر في بالي ولو للحظة، وقد مرّ على تلك الحادثة أكثر من 10 أعوام".

يتأهب سعيد للوقوف والمضي في طريقه، يبتسم لنا وهو يقول: "جدتي ليست حبيبة قلبي فقط، بل صديقتي ورفيقتي ومستشارتي في الشؤون الخاصة والعامة".

 

مثل السحر:

يرتبط البعض بعاطفة شديدة بأشخاص آخرين يحبهم ويحبونه، فتتطور العلاقة بينه وبينهم إلى درجة كبيرة، تجعله غير قادر إلا على التواصل معهم في كلِّ واردة وشاردة في حياته اليومية.

هذه باختصار، طبيعية العلاقة التي تربط طلال حمصي (مهندس كهرباء، متزوج منذ سنتين وله ولد وحيد) بجدتيه اللتين يحبهما حباً كبيراً. يقول طلال ممازحاً: "أنا مدلل عند جدتيّ الاثنتين. فأنا البكر عند أهلي والحفيد الأوّل في العائلة، ولذلك كان من الطبيعي أن أنال حصة الأسد من الرعاية والاهتمام". يضيف: "أنا بطبعي اجتماعي، لذلك لم أرَ عائقاً في التقرّب من جدتي. فما زلت أنام عندها كما كنت أفعل قبل الزواج، وإذا لم أنم، أحرص على رؤيتها يومياً، لأستشيرها في كلِّ عمل أقوم به". يتابع: "في المقابل فإنّ جدتي لا تقوم بأي مشروع من دون الأخذ بمشورتي في ذلك"، ويقول: "كما أنها تعتمد عليَّ كلياً في خروجها وعودتها إلى البيت. من الممتع الاستماع إليها ومشاركتها الحديث، فلديها الكثير لتخبرني به، فهي كبيرة العائلة في السنّ وفي الحكمة، وتملك من الخبرات ما يوازي كنوز الأرض". ولا ينكر طلال أنّ هذا الكلام ينطبق على جدتيه لوالديه معاً، كاشفاً أنّه يلجأ إلى مشورتهما عند الضرورة، يضيف: "غالباً ما تنصحانني بحلول للأمور العالقة، فأجد نفسي منتصراً على مصاعبي مثل السحر. أطال الله عمريهما، لتبقيا حارستين لي وللعائلة كلها".

 

لا محاسبة:

"هناك مَن يعرف مصلحته ويفعل ما يخدمها" استناداً إلى هذا الرأي، ترى ميسم الشيباني (طالبة سنة أخيرة تصميم غرافيكي) أنّ مصلحتها تصب في توطيد العلاقة بينها وبين جدّتيها الاثنتين، وتبوح: "أتناقش معهما في أسراري وأموري الخاصة، فهما أفضل مَن يسدي لي النصيحة". تضيف: "صحيح أنني أدرك الفرق بينهما وبين أمي الحبيبة، لكنهما عزيزتان على قلبي جدّاً جدّاً". تبتسم ميسم بمكر، وهي تكمل حديثها مصرّحة: "أجمل ما في الموضوع، أنّ جدتيّ، مع حرصهما على إظهار المسؤولية تجاهي، لا تحاسبانني على خطأ أرتكبه، ربما لفيض العاطفة التي تشعران بها نحوي. هما دائماً تقفان بجواري ضد والدتي، ويقنعانها برأيي، وهذا ما يروق لي". ويبدو أن تصرف جدتي ميسم على هذا النحو، يجعلها تعترف بحماسة بأنهما "نبيلتان معي، ورأيهما حكيم ونظرتهما إلى شتّى الأمور ثاقبة وصائبة، الأمر الذي يجعلني أتعلق بهما بشدة، ويجعل حبي لهما يتدفق بحرارة".

 

تفضيل:

أما محمّد الشيباني (الثاني الثانوي) شقيق ميسم، فله رأي آخر في جدتيه، تجلّى في اعترافه الصريح بأنّه يميل إلى جدته والدة أمه بشكل أكبر. ولا يتردد محمّد في الإدلاء باعتراف آخر، ويقول: "أجد أنّ جدتي أكثر تفهماً لي من أمي، كما أنّها طيبة إلى أبعد الحدود، وهي تدللني دائماً، وتحرص على تلبية رغباتي بفرح وطيبة خاطر". وهذه العلاقة المتينة التي تربط محمّد بجدته أم والدته، يصفها: "بالقوت اليومي الذي أتسلح به"، مؤكّداً أنّه لا يعرف ما قد يشعر به إذا أصابها مكروه، ويقول: "لقد يحترق قلبي. لذا، أغتنم كلّ فرصة سانحة لي، لأزورها وأنام في بيتها، وأستمع لقصصها الجميلة ونصائحها الثمينة، التي تفيدني في مدرستي، وفي حياتي الاجتماعية في المستقبل".

 

تأثير:

من جهته، يدرك صفوح دروبي، الذي يعمل في قطاع السيارات، أنّه، وعلى غرار العائلة بأكملها، لابدّ له من اللجوء إلى جدته، عند وقوعه في مشكلة عائلية، ويقول: "اعتدت، كما أهلي، أن أقصد جدتي لأفضفض لها عن مشكلاتي، أوّلاً لأنها مستمعة رائعة، وثانياً لأنّها تملك حلاً لكلِّ مشكلة"، يشرد صفوح بعيداً وتمتلئ عيناه بالدموع، ويكمل بتأثّر: "لقد غادرتنا جدتي منذ أسبوع إلى دنيا الحقّ، رحمها الله". ويتابع بعد أن يهدأ قليلاً: "كنت ولا أزال فخوراً بها وبثقافتها العالية، فهي كانت تتحدث 5 لغات أجنبية، وكانت قُدوة لكلِّ العائلة، نتمسك بها وبنصائحها الغالية". يبتسم صفوح فجأة وقد تذكر شيئاً، يضيفه: "لطالما أنقذتني من ورطات صبيانية كنت أقع فيها. لقد كانت المحامي الشرس عني، أحببتها كثيراً وذكراها ستظل حية في قلبي".

 

خطر أحمر:

تعليقاً على كلام الأحفاد عن جداتهم، تتدخل عائشة فضيل (مدربة مضيفات طيران متزوجة ولديها 6 أولاد) قائلة: "إنّ الجدة هي بمثابة قاموس أو موسوعة من المعلومات والعبر والحِكم، لأنها تكنز عبر السنين خبرات وتجارب لا تنتهي". تضيف: "بصراحة الجدة هي خط أحر، فأنا أرى فيها أمهاتنا مجتمعات، تصغي إلينا وتنصحنا وتمتص غضبنا وتخفف من توترنا. وكأنها الطبيب الذي يداوينا عند كلِّ ألم ووجع". وعندما نسأل عائشة عما إذا كانت تغار من تقرّب أولادها من جدتيهما، تجيب بلهجة فيها شيء من العتب: "هل يغار أحد من أمه أو من أم شريك عمره؟". تضيف: "بالتأكيد أنا أؤيد تواصلهم مع جدتيهم بشكل كبير، فالتفاهم جميل ومفيد، لا بل إنني أعتمد على الجدات في إيصال بعض الرسائل لأولادي. وحبذا لو يعمل الأهل على التقريب بين الجدات والأحفاد، ليستفيد الطرفان من هذه العلاقة، عبر دمج الخبرات الطويلة بالحيوية الشبابية المتطلعة إلى مستقبل زاهر".

 

حب خالص:

تقول الطبيبة النفسية الدكتورة نجاح الصايغ: إنّ "الأمومة هي عبارة عن علاقة بيولوجية ونفسية بين المرأة ومن تنجبهم وترعاهم من الأبناء والبنات". تضيف: "الجدة بالتأكيد هي أم مع مرتبة الشرف، لأنّ العلاقة بينها وبين أحفادها، مبنية على الحب الخالص، وهي أشبه بالعقد المؤلف من حبات متواصلة والذي لا ينفرط أو ينقطع. وفي الوقت عينه، هي رمز الحكمة، لذلك، تُعتبر بمثابة كنز للأزواج والأحفاد على حد سواء، الأمر الذي يعلي من مرتبتها ويزيد من مقدارها". وتشير الدكتورة الصايغ إلى أن "انتقال المرأة من كونها أماً إلى جدة، يحمل لها شعوراً جميلاً، إلّا أنّه يكون منقوصاً، بسبب إحساسها بتقدمها في السن، وخشيتها من نظرة المجتمع إليها ومراقبته تصرفاتها وأفعالها". وفي هذه الإطار توضح الدكتورة الصايغ أنّ "بعض المجتمعات تقوم بتزويج البنات في سن المراهقة، فتصبح الشابة جدة في عمر صغير، وهذا ما يفرض عليها التصرف مثل امرأة متقدمة في السن. ذلك لأنّ المجتمع يسلّم حكماً بأنها ناضجة وحكيمة". "ولهذا الموضوع انعكاسات سلبية على المرأة"، تكمل د. الصايغ مفسّرة، وتقول: "لكون المرأة أصبحت جدة وهي بعدُ شابة، يجعل كلّ من حولها ينظر إليها على أنّها كبيرة في السن وهو أمر يزعج معظم النساء، أو يحرجهن. لأنّه يكون عليهن احترام القوانين والقواعد العريضة للمجتمع". وتنبّه بأنّ "لعب دور الجدة، هو أمر لا يمكن للمجتمع أن يفرضه على كل النساء، فالأمر برمّته، يتوقف على مدى تحكم العوامل النفسية في المرأة الجدة نفسها".

على صعيد آخر، تلفت الدكتورة الصايغ إلى "تأثر الزوج بتحول المرأة إلى جدة". لذلك تتوجه بملاحظاتها إلى الجدات، قائلة: "لابدّ من أن تتعامل المرأة مع وضعها الجديد بحكمة وعقلانية. فعليها أوّلاً ألا تنسى نفسها أو تهمل شبابها حتى وإن تجاوزت سن الخمسين، شرط أن يبقى ذلك في حدود المعقول. كما عليها أن تتذكر دائماً، حتى ولو أصبحت جدة، أنها متزوجة، لأنّ لزوجها الحقّ في التمتع بشبابها وأناقتها". وتؤكّد الدكتورة الصايغ في نهاية مداخلتها "أهمية وجود الجدة في كلِّ بيت"، وتقول: "للجدة القدرة على إقامة التوازن في أي بيت توجد فيه. وفي رأيي الشخصي، أنّ الأولاد الذين يُربون في كنف جدة محظوظون بالتأكيد، لأنّ الجدة، وبفضل خبرتها الطويلة في الحياة، تربي أحفادها وآباءهم في الوقت نفسه. أي أنّ الأولاد يحصلون على تربية جيِّدة ومثالية".

ارسال التعليق

Top