براد ليملي/ ترجمة: حازم محمود فرج
إذا كنت تعتقد أنّ الإغراء الجسدي إنما هو مجرد مسألة ذوق شخصي وتحيز ثقافي.. فكّر من جديد، فمن تراه جذاباً إنما تفرضه، وبدرجة كبيرة، حاجات ودوافع تطورية متجذرة في أعماق دماغك، كما يقول أخصائيو علم النفس البيولوجي.
إنّها رائعة ولا شك: ملامحها متناسقة، وبشرتها لا تشوبها شائبة – يمكن تقدير عمرها بنحو 22 عاماً. إن أية امرأة سعيدة الحظ تتمتع بوجه كهذا ستدير رؤوساً كثيرة وترغمها على الشروع بالتصغير إذا دخلت معرضاً للجمال البشري. لكن عندما يشير فيكتور جونستون إلى شاشة حاسوبه وينقر بالفأرة على الصورة، يتحول هذا الوجه إلى ما يمكن أن يدعوه فيزيائي مشدوه "بحالة متقطعة من الجمال الساخن المتبلور"، ويقول جونستون، وهو أستاذ علم النفس البيولوجي في جامعة ولاية نيومكسيكو: "كما ترى، إنها رائعة جدّاً.." ويبدو كما لو أنّه قد وقع في حب ابتكاره هذا. ولعل العنصر الأكثر روعة في الموضوع هو عملية تحويل الرسم من وجه امرأة جميلة إلى وجه فتاة يسلب اللب، وذلك لأن التعديلات التي نفذها جونستون بوساطة برامجيات Software، إنما تنم عن براعة فائقة – إن شئنا الموضوعية في القول. لقد قام بتشكيل الوجه الأصلي بعملية دمج رقمية لملامح وجوه 61 امرأة وفتاة من الجنس القوقازي تم اختيارهنّ عشوائية وباستخدام برنامج تشكيلي خاص قام بتضخيم الفروقات بين ملامح الوجه الأنثوي وملامح الوجه الذكري، ليخلص في آخر الأمر إلى إنجاز ما يمكن أن يسمى بلغة علم الجمال البشري "الأنثى الفائقة الجمال Hyperfemale وفي نموذجه هذا نرى عينين أوسع قليلاً، وأنفاً أدق وشفاهاً ريانة، وفكاً أصغر ومع أن هذه التعديلات بحجم ملليمترات فقط، إلا أنّ التجارب التي أجريت في الولايات المتحدة في سكوتلندا قد أظهرت أن كل الجنسين يرى صور الوجوه المعدّلة "أنثوياً" أكثر جمالاً من الوجوه العادية. لقد كشف جونستون عن صوره القليلة هذه كجزء من أبحاثه الحالية التي تهدف لمعرفة سبب اعتبار بعض الأفراد جذابين، والبعض الآخر عاديين، ومع أنّه قد يكون مازال بعيداً عن تقديم إجابات مؤكدة، فهو ليس وحيداً في بحثه العلمي وراء موضوع غامض كهذا: فالعلماء والباحثون حول العالم يخطون إلى منطقة كانت حكراً على الشعراء والرسامين ومصممي الأزياء والمخرجين السينمائيين الذين ينتقون ممثليهم، وهم يسعون في بحوثهم هذه للكشف عن جذور جاذبية الجمال البشري. لقد أتت الأبحاث التي أجريت حتى الآن بنتائج مدهشة ومحبطة في آن واحد. إذ تشير دراسات عديدة، وببساطة، إلى أن عنصر الجمال البشري قد لا يكمن في عين المشاهد، أو في تحف تاريخية عريقة، بل قد يتخذ شكل دافع سلوكي فعال وشامل وعتيق متغلغل في نفوسنا ورغباتنا، وهو يعادل عامل الجوع أو الألم.. تمت صياغته عبر أحقاب التطور الطويلة التي كافأت الفائزين القادرين على الإنجاب، ومحقت الخاسرين. وإذا لم يكن الجمال حقيقة، فقد يكون صحة وخصوبة (Fertility): إنّ بشرة نجمة السينما هيل بيري (Halle Berry) قد تشد عشاق الأفلام السينمائية لأنها توحي لنا، على مستوى عميق إلى حد ما، بأن صاحبتها خالية من الطفيليات، وأنها تصلح بذلك لتكون مادة تزاوج جيدة. إن عوامل التفضيل الفردية المكتسبة تلعب دوراً هنا، لكن الأبحاث تشير بصورة متزايدة إلى أن تأثيرها أصغر بكثير مما يهتم الكثير منا بمعرفته. وفي الوقت الذي كان فيه الكتّاب الرومانسيون يثرثرون حول سمو الجمال (Transcendence)، أشار شاعر العصر الإليزابثي إدموند سبنسر (Spencer) قبل أكثر من 400 سنة إلى النظرية العلمية الصاعدة: "إنّ الجمال هو الطُعم الذي يغري ويدفع الإنسان عن طريق اللذة إلى زيادة نوعه". إنّ الأبحاث الجارية حول الجمال البشري هي ذات مضامين وأبعاد تتراوح بين الجوانب العملية – مثل تزويد جراحي التجميل بقوالب (Templates) وجهية حسنة المظهر – وبين الجوانب السياسية والفلسفية. وقد أظهرت دراسات بارزة أنّ الذكور والإناث الفاتنين لا يكسبون مجرد اهتمام أكثر من طرف الجنس الآخر بهم، بل إنهم يحظون بعاطفة أكثر من طرف أمهاتهم، ودخلٍ أكثر من عملهم، وأصواتٍ أكثر من قبل الناخبين، وتساهل أكثر من طرف القضاة، وينظر إليهم عموماً على أنهم أكثر لطفاً وكفاءة وثقة بالنفس وصحة، وحتى أكثر ذكاء من نظرائهم كبيري الأنوف وصغيري الذقون. إنّ أبحاث جاذبية الجمال البشري تمثل مجالاً حديث العهد نسبياً ومثيراً للجدل بالتأكيد. وعلى سبيل المثال، فإنّ إغراء الأنثى الفائقة الجمال، ما زال محلاً لجدل عظيم. لكن من يقودون البحث في الصفوف الأمامية يوافقون على نقطة واحدة: لن ندرك معاني الجمال الجسدي حتى نعرف ونكشف مصادره. وكما تفترض عالمة النفس نانسي إتكوف (Etocoff)، مؤلفة كتاب "البقاء للأجمل" وهو منشور العام 1999: "إنّ الفكرة القائلة إنّ الجمال هو شيء لا أهمية له أو أنّه مجرد بنيان ثقافي لهي خرافة الجمال الحقيقية. علينا أن نفهم معنى الجمال وإلا ظللنا مستعبدين له دوماً". لقد حصلت الأبحاث المتعلقة بالجمال في العصر الحديث على دفعة قوية منذ 20 عاماً، وذلك بسؤال قليل الأهمية في قاعة دراسية ساكنة صغيرة في جامعة ولاية لويزيانا في مدينة باتون روج: كانت طالبة الدراسات العليا جوديث لانجلويس (Langlois) في قيم علم النفس تدافع عن أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه. وكانت أطروحتها عبارة عن دراسة تبحث في كيفية تكوين الأطفال في عمر ما قبل المدرسة لعلاقات الصداقة فيما بينهم والمحافظة عليها، عندما سألها أحد الأساتذة عما إذا كانت قد أدخلت عنصر جمال وجه الطفل كعامل في استنتاجاتها، وتذكر لانجلويس ذلك بقولها: "أعتقدت أنّ السؤال كان غير ذي صلة بموضوع البحث، فمثل هذه النقطة قد تكون ذات أهمية بالنسبة لطلبة الجامعة، ولكن بالنسبة للأطفال الصغار". وبعد تمتمتها بجواب دون معنى واضح – واجتيازها الامتحان – عزمت على التعمق أكثر في البحث، وهدف إلى تحديد السن التي يستطيع عندها الإنسان إدراك الجمال والجاذبية الجسدية في بني جنسه. وقد أعدت لانجلويس، التي كانت قد التحقت بهيئة التدريس في جامعة تكساس في أوستن، سلسلة من التجارب. وفي إحداها، طلبت من مجموعة أفراد بالغين القيام بترتيب مجموعة من الصور الوجهية، وفق استحسانهم، على سلم تقديري يبدأ بالوجه الجذاب وانتهاء بغير الجذاب. ثمّ عرضت أزواجاً من الصور التي قيّمت في أعلى السلم وأدناه (الوجوه الجميلة وغير الجميلة) على أطفال صغار بعمر ستة أشهر. وتقول لانجلويس عن هذه التجربة: "كانت النتيجة واضحة ولا لبس فيها: لقد نظر هؤلاء الأطفال الرضع وقتا أطول إلى الوجوه الجذابة بغض النظر عن جنس وعرق وعمر صاحب الصورة". كما أعطت دراسات مماثلة أجريت على أطفال بعمر شهرين فقط نتائج مشابهة. وتعلق لانجلويس على ذلك بفتور: "إنّ هؤلاء الأطفال لم يقرؤوا مجلة فوج بعد". وقد قادها بحثها عن مصدر إدراك الأطفال الصغار المبكر للجمال إلى العودة إلى بحث علمي أجراه في القرن التاسع عشر السير فرانسيس جولتن (Galton) العالم الإنجليزي المحب للفنون وابن عم تشارلز داروين (Darwin). ففي أواخر عقد السبعينيات من القرن التاسع عشر، قام جولتن بإعداد تراكيب لصور وجهية قديمة ضبابية الملامح ينتمي أصحابها إلى مجموعات عرقية مختلفة، وذلك بدمج صورهم الفوتوغرافية الشبيهة بصور المشبوهين المطلوبين للعدالة (Mug-Shots) لإثبات وجود ملامح مشتركة فيما بينهم. كان يهدف من تجربته هذه إلى إثبات أن لكل مجموعة منهم نموذجاً وجهيا أصلياً مشتركاً. ومع إخفاق التجربة حيث بدا المجرمون العاديون أكثر شبهاً بالأشخاص النباتيين (Vegetarians)– وقد صدم جولتن – لاكتشافه أن حصيلة دمج الملامح المشتركة لهذه الوجوه كانت تبدو أكثر قبولاً واستحساناً من معظم الصور التي ركبت منها. وكررت لانجلويس تجربة جولتن باستخدام برامجيات حاسوبية خاصة في عملية تشكيل رقمية لملامح مشتركة بين وجوه جديدة عرضت لاحقاً أمام 300 شخص، أجمعوا أنها أكثر جاذبية من معظم صور الوجوه التي استخدمت في تشكيلها. وتفترض لانجلويس أننا ربما نولد "وفينا ميل معرفي (Cognitive) للتوفيق بين ملامح الوجوه المختلفة". فنحن نرى أنّه حتى الأطفال الصغار قد شاهدوا آلاف الوجوه، وأنهم ربما تمكنوا من تركيب صورة قياسية في أذهانهم ليستخدموها عند المقارنة. ويقول بعض العلماء أن التفضيلات العرقية (Racial Preferences) تدعم هذه الفكرة. فقد أظهر لنا التاريخ بشكل عام تقريباً، أنّه عندما يقابل عرق بشري عرقاً آخر لأوّل مرة، فإن كلاً منهما ينظر إلى الآخر على أنّه أقل جمالاً وجاذبية – إن لم ينظر إليه كجنس عجيب. وتذكر إتكوف في هذا السياق أن وفداً من مقاتلي الساموراي اليابانيين قد لاحظ في زيارته للولايات المتحدة العام 1860 أنّ النساء الغربيات لهنّ "أعين الكلاب"، وهو أمر اعتبروه "موهناً للمعنويات"، بينما اعتقد الزوار الغربيون الأوائل لليابان أنّ الزوائد الجلدية في أجفان العين عند السكان الأصليين قد جعلت عيونهم تبدو صغيرة وناعسة، وفي كل حالة، فإنّ العرق الغريب (الوافد) لابدّ أن يكون مختلفاً عن الصفات الأساسية لنموذج العرق الأصلي (المقيم)، كما تخمن إتكوف. إنّ العرق والجمال هما خليط متقلب، وبينما توازي جميع الثقافات البشرية بين الجمال وبين الصحة والخصوبة، نرى أنّ العرق المسيطر هو من يضع المقاييس الجمالية مثل اللون وعرض الأنف وشكل العين وملامح أخرى في مظهرنا الجسدي. ولكن لماذا كان على تلك النظرة المعرفية لمقياس الجمال أن تتطور؟ يفترض علم البيولوجيا التطورية (Evolutionary Biology) أنّه في أي تجمع بشري تنحو الصفات والسمات الشاذة والغريبة إلى الزوال، وهو أمر يصب في صالح الصفات العامة أو المشتركة. هكذا نرى أنّ الطيور ذات الأجنحة الطويلة أو القصيرة بشكل شاذ كثيراً ما تموت خلال العواصف. وكذلك نرى أنّ الأطفال الذين يولدون بحجم أكبر أو أصغر من متوسط الحجم العادي هم أقل احتمالاً للبقاء على قيد الحياة، لكن مقدرة صياغة نموذج عام لشريك زواج قد أظهرت ميزة بقاء متفردة. يسمى الميل إلى ما هو طبيعي ومألوف "حب المألوف Koinophilia" وهي كلمة مركبة من الكلمتين اليونانيتين Kinos، وتعني "مألوف، طبيعي"، وكلمة Philos، وتعني "حب". وبالنسبة لـ"لانجلويس"، فمن الواضح لها أنّ البشر هم محبون لما هو مألوف (Koinophiles). ويبقى السؤال: هل الصورة الجميلة التي نرسمها لشريك حياتنا هي مكتسبة أم فطرية؟ وللمساعدة في حل اللغز، قامت ليزا كالاكانيس (Kalakanis)، التي تعد أطروحتها لنيل درجة الدكتوراة تحت إشراف لانجلويس، بوضع صور لوجوه جميلة وجذابة وصور أخرى لوجوه عادية المظهر أمام أطفال حديثي الولادة عمرهم 15 دقيقة فقط، وتقول لانجلويس: "لقد بدأنا الآن فقط في تقييم هذه المعلومات الحديثة". هل الانحراف عن الملامح العادية للوجه يجعله أكثر جاذبية وجمالاً من الوجه المألوف؟ بالتأكيد لا، كما تصرح الباحثة جوديث لانجلويس. فهي تفترض أنّه كلما دمجت صور وجوه أكثر حصلت على صورة وجه أكثر جمالاً، وذلك لأنها تصبح أقرب إلى الخط العام، وتقول: "إنّ دمج ملامح وجهين اثنين فقط ليس كافياً للحصول على وجه جميل وجذاب، ولكنك عندما تواصل العمل إلى 32 وجها، فستحصل على وجه فصل على نحو جميل وجذاب. لكن ميزة حب الطبيعي والمألوف في موضوع الجمال ليست هي المقياس الوحيد – أو حتى الأسمى – الذي دفع به التطوير قدماً كما يفترض علماء آخرون. ويؤكد عالما الأحياء آندرس موللر (Moller) وراندي ثورنهيل (Thornhill) أنّ الحنين الفطري إلى التناظر (Symmerty) هو هبة طبيعية رئيسية، حيث إن اللاتناظر (Asymmetry) يمكن أن يشير إلى وجود سوء التغذية والمرض، أو إلى جينات معيبة. وقد وجد الاثنان أنّ الحيوانات غير المتناظرة، ابتداء من طيور السنونو في الحظيرة وانتهاء بالأسود، تحظى بنسل أقل وحياة أقصر. وكذلك سيغرس التطور تفضيلا عمرياً مماثلاً: فنحن نعرف أن خصوبة المرأة تصل إلى ذروتها في أوائل العشرينيات من عمرها، وكذلك الأمر بالنسبة لجمالها وجاذبيتها. وبشكل مماثل، وجد جونستون أن جمال وجه الأنثى اليابانية يبلغ ذروته عند سن 22.4 عاماً. ولأن خصوبة الرجل تدوم طوال معظم سني عمره بعد البلوغ، فإن معدل جاذبيته يبقى مرتفعاً نسبياً مع ازدياد عمره المقدر بالمشاهدة – رغم تراجعه مع تجاوز عمره أواخر العشرينيات. وكما يفترض جونستون: "إنّ أحاسيسنا ومشاعرنا نحو الجمال موجهة جيِّداً، وعلى نحو استثنائي، نحو السن الذي تبلغ فيه الخصوبة أوجها". وعلى الرغم من ذلك، يمكن لنوع ما أن يصيبه الركود إذا لم تطرأ عليه بعض الصفات الجديدة والطريفة. فعندما تشتد المنافسة على الشركاء الجنسيين، يمكن لبعض الصفات المثيرة أن تساعد صاحبها في لفت نظر عين تبحث عن زوج لها. ويقول جونستون: إن لسان حال ذكر الطاووس يقول لأنثاه: "انظري لي، لدي ذيل كبير، ما كان بوسعي أن أحظى به لو أنني ابتليت بالطفيليات. وحتى لو كانت الصفة ضارة لبقاء النوع فإنّ الفائدة من ذرية إضافية تنتج عن اجتذاب الإناث للتزاوج قد تعوض النقص في فترة حياة النوع". ويبدو هذا المفهوم قابلاً للتطبيق بالنسبة للبشر، وذلك لأنّه يساعد في إصلاح خلل مزعج في الدراسات المتعلقة بالملامح العامة للوجوه. ففي الكثير من هذه الدراسات، كما تقول إتكوف، "كانت توجد دائماً عدة وجوه مفردة تشذ عن البقية باعتبارها أجمل مما هو مألوف. كيف يمكن أن يكون هذا إذا كانت الوجوه المألوفة هي الأجمل كما اعتدنا أن نقول؟". في محاولة للكشف عن ذلك يقوم ديفيد بيريت (Perrett) وهو اختصاصي في علم النفس من جامعة سانت أندروز في سكوتلاند، بتجربة يهدف منها إلى تشكيل وجهين معدلين – أحدهما من مجموعة وجوه أنثوية وصفت بأنها فاتنة وجذابة، والآخر من مجموعة من وجوه ذكور صنف بتقييم مماثل للمجموعة الأولى. ثمّ قارن هذه الوجوه مع مجموعة وجوه أخرى تم تشكيلها من مجموعة عشوائية أخرى وأكبر من الأولى. وقد تم تقييم المجموعة المصنفة من الوجوه الجميلة فقط على أنها أكثر فتنة وجمالاً من تلك المركبة من المجموعة العشوائية الأكبر. وما كان أكثر إدهاشاً، هو ما نتج عن محاولة بيريت لتضخيم الفروقات التي اختلفت فيها الوجوه الأنثوية الفاتنة المركبة عن المجموعة الأخرى المركبة من الوجوه المتواضعة الجمال. فقد اعتبر الوجه الناتج أكثر جمالاً وجاذبية من سابقيه. ويقول بيريت: "لقد تبين أنّ الشكل الذي يختلف فيه وجه أنثوي فاتن عن آخر عادي يرتبط بعامل الأنثوية، فعلى سبيل المثال، نرى أن حاجب عين الأنثى أكثر تقوساً منه عند الذكر. إن تضخيم هذا الفارق في الوجه الجذاب عن مثيله في الوجه العادي يزيد في أنوثته، ويتبع ذلك تقييم جاذبيته. وفي صورة وجه فتاة لوحة الإعلان الرائعة التي تجبر حركة المرور على التوقف لرؤيتها – وهي لوحة أعدت خصيصاً لهذه التجربة – نرى أنه قد تم تعديل 200 نقطة مرجعية في الوجه في اتجاه الأنوثة الفائقة (Hyperfemininity): عينان أكبر، وأنف أصغر، وشفاه نضرة، وفك أدق، وذقن أصغر. ويعلق جونستون على ذلك قائلاً: "تخضع جميع الوجوه لعملية تحول شاملة في سن البلوغ: فنرى عند الذكور أن هرمون التستوستيرون (Testosterone) يسبب استطالة وتضخم الفك، في حين يتسبب هرمون الإستروجين عند الإناث في نمو الوركين والثديين وامتلاء الشفتين. ولذلك، فإن اجتماع الوركين والثديين والشفاه الكبيرة، كما يوضح جونستون، "تخبرك جميعاً بلسان صاحبتها: إنّه يوجد لدي مخزون وافر من الإستروجين، وعليه فأنا أنثى خصبة وناضجة"، كما في مثال ذكر الطاووس الذي يعد ذيله الكبير ميزة للتزواج، لكنه عائق فعلي، ويقول جونستون: "في الحقيقة، إن فكاً أصغر قد لا يكون فعالاً في الأكل، بعكس جماله"، لكنه يبدو رائعاً لأنّه يؤكد الفرق. ولذلك فإن أي ضرر يسببه الفك الصغير لبقاء صاحبه يفوق ما قد تعوضه فرصة إنتاج عدد أكبر من الأطفال الصغار، وهكذا تبقى هذه الميزة. وبالإضافة إلى برنامجه لتشكيل ودمج الصور (Morphing Program)، قام جونستون بالعمل على فرضية الأنثى الفائقة الجمال في مسار آخر أيضاً، فقد طلب من زوار موقعه الخاص على شبكة الإنترنت أن يقوموا بتقييم جمال وجاذبية 16 وجهاً أنثوياً من الجنس القوقازي قام الحاسوب بتوليدها وتشكيلها، وأن يمنحوا كل وجه منها علامة وفق سلم يبدأ بنقطة وينتهي بتسع نقاط، ثمّ تم توليد جيل ثان من الوجوه عن طريق انتخاب وتعديل وتنحية وجوه من الجيل الأول بما يتناسب مع معدل جمالها. وبعد أن قام 10 آلاف مشارك من جميع أنحاء العالم في هذا العمل الذي لا هوادة فيه، تمت ولادة الوجه الأجمل المشتق تجريبياً من الوجوه السابقة. وهنا تؤكد حسابات مقاسات الوجه، وبشكل حاسم، أن صاحبته (المبتكرة) هي ما يمكن أن يطلق عليه لقب الأنثى الفائقة الجمال، وبينما يمكننا القول إن صاحبة هذا الوجه فاتنة، نرى جونستون يشير بدقة إلى أنّ هذا الوجه يقدم "أقصى ملامح الخصوبة". لقد أحدثت اكتشافات جونستون ضجة بين العلماء المصطلعين بأبحاث الجمال. وفي مقال بعنوان "الوجوه الجذابة هي فقط عادية بالفعل"، نرى لانجلويس مع ثلاثة باحثين آخرين ينسفون الفكرة القائلة إنّ الانحراف عن العادي – أو ما يطلقون عليه تسمية "الملام الاستثنائية للوجه" (Facialextremes) تفسر جاذبية الوجه بأفضل مما تفعل الملامح العادية. إنّ اكتشافات بيريت، كما تقول لانجلويس، هي "نتاج منهجيتهم"، وذلك لأنهم أتبعوا سيناريو "الاختيار المفروض" الذي منع المشاركين بالتجارب من تقييم الوجوه على أنها متساوية الجاذبية. وتقول أيضاً: "لقد قمنا بالشيء ذاته أيضاً، لكننا طلبنا من المشاركين أن يقيِّموا الصور وفق سلم تقديري يتألف من خمس درجات. وعندما تفعل ذلك بهذه الطريقة، فلن يكون هناك فرق أو اختلاف جوهري، إذ إنّ المشاركين سيخبروننا بأنّ الوجهين يبدوان كتوأمين". وتفترض لانجلويس أنّه إذا كانت الصفات الاستثنائية تخلق الجمال "لكان ذوي الفك البالغ الصغر أو عيون المصابين بمرض استسقاء الرأس Hydricephalic eyes هم الأجمل، في حين أنّ العينين الكبيرتين جدّاً بالنسبة للرأس تجعل ذلك الرأس يبدو بشعاً في الحقيقة". لكن الأدلة الظرفية على إغراء وجمال الأنوثة الفائقة هي عناصر أساسية كما ترى إتكوف: "إنّ مستحضرات الزينة وتجميل المرأة ليست إلا للمبالغة في إبراز صفات الأنوثة: فزينة العين تجعل الحاجب يبدو أدق وأبعد عن العين"، وهو فارق تقليدي بين وجهي الذكر والأنثى. وباستخدام وسائل أخرى مثل تسريحات الشعر المرتفع (الذي يسحب ملامح الوجه باتجاه أنثوي بالارتفاع عن مركز الجاذبية) والكولاجين في الشفاه والسيليكون في الثديين، تبالغ النساء غريزياً في تضخيم صفاتهنّ الجنسية الأنثوية الثانوية وذلك لزيادة جمالهنّ، ويقول جونستون: "ببساطة، إن لانجلويس مخطئة". ففي أحد أبحاثه التي نشرها العام الماضي في مجلة "الفيزيولوجيا النفسية Psychophysiology"، يوضح أنّ المشاركين في التجارب من كلا الجنسين قد قيّموا صور الوجوه المعدلة "أنثوياً" على أنها أكثر جاذبية، كما أنّ المشاركين الذكور، بعد وصلهم بأجهزة مراقبة النشاط الكهربي للدماغ، قد أظهروا استجابة عظمى عند المكون P3، وهو مؤشر يدل على شدة العاطفة. ويقول جونستن: إنّ هذا يعني أنّه على الرغم من أن كلا الجنسين يعرف ما هو الوجه الجميل، إلا أنّ الذكور فقط هم من يظهر استجابة عاطفية عند رؤية الصور المؤنثة (Feminized). وماذا عن جاذبية وجمال الذكور؟ لعله من المنطقي القول إنّه إذا كان لعاب الرجل يسيل أمام بهاء الأنثى الفائقة الجمال، فلابدّ أنّ الإناث ستلاحق الذكور فائقي الجمال كذلك – أي أولئك الرجال الذين تضخم ملامحهم التي يختلف بها وجه الذكر عن وجه الأنثى. وحتى بعد تعديل التجربة لتناسب الاختلاف في كامل حجم الجسم بين الذكر والأنثى، يظل وجه الذكر العادي متميزاً بحافة أكثر وحدة للحاجبين، والعينين الأكثر غوراً، والحاجبين الأكثف والأقرب إلى العينين. كما أنّ الأنف والفم أكبر وأعرض، وكذلك الفك السفلي. ادفع بهذه الصفات أو الملامح إلى ما هو أكثر من العادي لتحصل على رجل جسيم جذاب، أليس كذلك؟ ليس ثمة شك في أن جرعة من هذه "الذكورة" الكلاسيكية تسهم في صياغة معنى ما يدعى اليوم بالوسامة. إننا نرى أنّ الممثل براد بيت (Pitt)، الذي ينظر إليه على أنّه نموذج عصري لجاذبية الذكور هو شخص عريض الفك. ومن وجهة نظر بيولوجية، قد نرى أنّه يسعى دون وعي منه لإقناع إحدى الإناث بأنّه يستطيع أن يمضغ كمية من أوراق غصن مورق أكثر مما يستطيعه أي والد محتمل عادي لأطفالها – وهي ميزة يفيد بالتأكيد نقلها إلى الذرية في عصور الصيد والزراعة القديمة. في أمور الجمال البشري، قد تكون الرغبات والأماني المتأصلة فينا صعبة المنال، ولكن يمكن تجاوزها. كانت الروائية جورج إيليوت (وهو الاسم الأدبي المستعار طاري آن إيفانز) متواضعة الجمال إلى درجة كبيرة، لكن شخصيتها الآسرة والجذابة أوحت إلى هنري جيمس بكتابة ما يلي في إحدى رسالته: إنها قبيحة على نحو رائع، وبشعة على نحو لذيذ وممتع (...): فلها جبهة منخفضة، وعينان رماديتان كئيبتان، وأنف متدل كبير، وفم ضخم يعج بأسنان لا انتظام فيها، وذقن وعظم فك لا نهاية لها. لكننا نرى خلف هذا القبح الشنيع أكثر ألوان الجمال طغياناً، إنّه جمال يأسر العقل ويسحره، ولسوف تصل معها كما وصلت أنا... إلى الوقوع في حبها". لكن خطة امرأة ما في السعي إلى شريك لها هي، إلى حد بعيد، أكثر تعقيدا من مسألة وضع أطفال أقوياء الفك. وبينما نرى أنّ الرجال والنساء يرغبون بشريك أكثر صحة وخصوبة، نرى أنّ الرجل يستطيع – وهو مدفوع بيولوجياً في ذلك إلى حد ما – أن يتزاوج وينجب من أكبر عدد ممكن له من الإناث. وبالمقابل، تشير إتكوف إلى ذلك قائلة: "تفكر المرأة فيما هو أبعد من ذلك: فمعظم تفكيرها فيما يتعلق باختيار الشريك ينصب على إيجاد شريك يساعد في تنشئة الصغار". وفي دراسات عدة ثمّ فيها تقديم صورة وجه ذكر فائق الجمال (نموذج نياندرتال Neanderthal كما تسميه إتكوف) إلى مجموعة من النساء، فقد أعطين حكماً مفاده أن صاحب الوجه شخص غير مبال، ويبدو عدوانياً، ومن غير المحمل أن يكون والداً جيِّداً. وتتباين تفضيلات الأنثى لوجوه الذكور بشكل يتبع الدورة الشهرية لديها كما تشير إليه دراسة قام بها بيريت مع باحثين يابانيين ونشرت في عدد يوليو 1999 من مجلة Nature. فعندما تكون المرأة في طور الإباضة (Ovulation) يبدو أنها تميل إلى تفضيل الرجال ذوي الملامح الأكثر ذكورة (Masculine). وفي الأوقات الأخرى التي تكون فيها أقل خصوبة في أثناء الدورة فإنها تفضل الرجال ذوي الملامح الأكثر نعومة – أو الملامح قريبة الشبه بالأنثى. ولكن ما حدث في غمرة الصخب الذي أثاره التعميم الواسع لهذه الأفكار هو التغاضي الكبير عن حقيقة بالغة الأهمية: فحتى هذا الوجه ذو الملامح "الأكثر ذكورة" الذي تفضله الأنثى في طور الإباضة كان يزيد "أنوثة" عن وجه الذكر المألوف بنسبة 8% (كان الوجه "أقل ذكورة" يزيد "أنوثة" بنسبة تتراوح بين 15 و20% عن الملامح المألوفة في وجه الذكر العادي). ووفقاً لدراسة بيريت فإننا نرى أنّه حتى ملامح الذكورة العادية في وجه الذكر هي "ذكورية" أكثر مما ترتاح إليه الأنثى. ومما يعقّد صورة جاذبية الذكر أكثر من ذلك، كما يشير إليه أحد الأبحاث، أنّه بمقدور ذكر بشع المنظر في جميع الأنواع الحية التي تتزاوج أن يعوض ذلك بوساطة الوضع الاجتماعي و/ أو الثروة، وتشير إتكوف إلى أن إناث ذباب العقرب لن تقبل حتى بإلقاء نظرة على ذكرها ما لم تكن هديته لها – فريسة لذيذة الطعم وغنية بالبروتين – والتي لا يقل حجمها عن 16 ملليمتراً مربعاً. ولا تختلف الحال هنا عنها كثيراً في عالم البشر: فقد عرض عالم الأجناس البشرية جون مارشال تاونسند (Townsend) صوراً لوجوه جميلة وأخرى متواضعة الجمال أمام رجال ونساء، ووصف أصحاب هذه الصور بأنهم يخضعون للتدريب من أجل شغل مناصب وظيفية منخفضة – أو متوسطة – أو مرتفعة الدخل، مثل نادل مطعم ومدرس وطبيب، وتقول إتكوف: "لم يدهشني أن تفضل النساء الرجل الذي يجمع المال الأكثر من المظهر الأجمل، لكن رجل الدرجة الثانية لديهنّ – طبيب عادي المظهر أو حتى دون شيء من الجمال والجاذبية – نال التقييم ذاته الذي اعطي لمدرس فائق الجمال. لكن الحال لم تكن ذاتها مع الرجال عندما طلب إليهم تقييم صور النساء: فالنساء غير الجميلات لم يفضلهنّ أحد، بغض النظر تماماً عن جميع أحوالهنّ الأخرى". تبدو الصورة كئيبة الى حد ما، فإذا ما تحدثنا الى عدد كاف من خبراء علم النفس البيولوجي، لتكون لدينا جميعاً الانطباع بأننا جرذان- نتزاوج آلياً ودون وعي منا وفقاً لدارات عصبية غامضة ولكن ثابتة. لكن الباحثين في علم الجمال يتفقون على أنه بالإضافة الى الانتقاء الطبيعي والانتقاء الجنسي، فإن السلوكيات المكتسبة هي جزء على الأقل من آلية استطلاع وكشف وتحسس الجاذبية. وبعبارة أخرى، هناك مجال للتأثير الفردي – وربما شيء من الغموض – في حقل التجاذب هذا بين البشر. ويقول جونستون: "في واقع الأمر، ينطوي الجمال البشري على ثلاثة مكونات، هي من حيث تسلسل الأهمية: الانتقاء الطبيعي الذي يوصلنا إلى الوجه العادي الجمال مع مجال محدود من العمر، ثمّ الانتقاء الجنسي الذي يقود الرجال، على الأقل، إلى الانجذاب نحو الصفات الأنثوية المبالغ فيها، مثل الفك الأسفل الصغير والشفتين الممتلئتين. وأخيراً هناك عنصر التعلم، وهو آلية ضبط رائعة تسمح لك بأن تصبح حتى أكثر تأقلما مع بيئتك ووسطك الثقافي، إنّه ذلك العنصر الذي يدفع شخصاً ما إلى القول "إنها جميلة"، وآخر ليقول "لا، إنها ليست مناسبة تماماً لي". ولعل عنصر التعلم في عملية اكتشاف الجمال هو أكثر ما يكون حاضراً في عملية التواصل والأخذ والعطاء بين الأجناس البشرية. وبينما نرى المجموعات العرقية المختلفة تنظر عادة في أول لقاء بينها إلى بعضها بعضاً على أنها خالية من الجمال، وكذلك عندما يفرض عرق ما سيطرة سياسية أو اقتصادية، ينحو أفراد الأعراق الأخرى إلى تقليد ومحاكاة صفاته وعاداته. وكمثال، تذكروا كيف كان الأمريكيون السود في بداية القرن العشرين يرسلون شعرهم بشكل مستقيم (وهي المجعدة عادة بطبيعتها). أما اليوم فنرى أنّ المكاسب التي حققها السود على صعيد العدالة والمساواة الاجتماعية تنعكس إيجاباً في التقدير والاهتمام المتزايد بالسمات الجمالية المميزة للسود مثل الأنوف العريضة نسبياً والشعر الشديد التجعيد. وتقول إتكوف: "إنّ العرق هو غطاء ثقافي للجمال، وهو عنصر يخضع للتحول". وتضيف إنّ الشكل الإنساني هو أكثر من مجرد عنصر جاذب لشريك جنسي، وتذكر: "نشرت مجلة New Yorker ذات مرة رسماً كاريكاتورياً يظهر أماً وابنتها تقفان في صف الدفع في متجر. وتقول الفتاة لمحاسب الصندوق: "آه، لا. إني أشبه أمي بالتأكيد، وقبل كل شيء لي أنفها". وبينما نحاول أن نبدو أكثر جمالاً، فإننا نفقد أشياء ثمينة مثل التشابه العائلي. وربما ندرك أنّ هذا أمر خاطئ، وذلك لأنّ التفرد (Uniqueness) في ملامح الوجه يمكن أن يكون تعبيراً أو أثراً عاطفياً رائعاً. إنّ البشر يبحثون في النهاية عن علاقات النسب والقرابة كما يبحثون عن الجمال". يستطيع بنو البشر، أن يجدوا حلاً توفيقياً بين فكرتين متناقضتين هما: أنّ الجمال هو كل شيء، والأخرى هي أنّه لا يمثل شيئاً. وتقول إتكوف: "ربما كان أفضل ما يمكننا فعله هو الاستمتاع بتلك الإثارة العابرة، وبكوننا كائنات ثديية لدقائق معدودة. ثمّ نقوم بإجراء اختبار واقعي، ونتائج مسيرتنا. قد لا يكون ذلك بوسع أدمغتنا، لكنه أمر نستطيعه نحن".مقالات ذات صلة
ارسال التعليق