◄لا يمكن الفصل في حياة الإنسان بين منهج التفكير وبين نمط الحياة التي يحياها، وطريقة التعامل التي يتعامل بها مع الأشياء.. فالإنسان كائن عاقل مدرك، يفكر في نفسه، ويتطلع إلى فهم ما يحيط به، ويحاول أن يعرف بداية كلّ شيء ونهايته. ليضع تفسيراً للعالم، والموجودات من حوله، فيعرف كيف بدأ العالم..؟ وإلى أين يسير؟ ويريد أن يفهم لماذا كان هو في هذه الحياة..؟
وما الغاية من وجوده...؟
وإلى أين سينتهي...؟
وماذا تعني الحياة ذاتها...؟
وكيف يجب أن يعيش فيها...؟
فالإنسان يسعى دوماً للحصول على إجابة مقنعة على هذه التساؤلات... لأن الإجابة على مثل هذه التساؤلات هي الطريق إلى تقرير سعادة الإنسان وخيره... أو شقائه وتعاسته، والإجابة هذه وإن كانت قصيرة في صياغتها، موجزة في عبارتها، لكنها عظيمة في معناها.. خطيرة الأهمية في حقيقتها.. بعيدة الغور في تأثيرها.
وذلك لأن الإجابة هذه هي التي تحدد كيف يعيش الإنسان؟
وكيف يسلك في الحياة؟
وكيف يفهم هذه الحياة ويقيم وجودها فيها؟
وعن طريق الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة تنحل أزمة فكرية خطيرة ما زال الإنسان يعاني منها ويقاسي من القلق والضياع المدمر بسببها، ويتخبط في مهاوي الضلال والتيه نتيجة العجز عن وضع الجواب الصحيح عليها.
فالإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة إذن هي المادة التي تشكل المبادئ الأساسية لفلسفة الحياة، ولإعطاء تقييم سليم لها، ولوجود الإنسان فيها.. وقد كانت الإجابة دوماً على تلك الأسئلة تنحصر في جوابين متناقضين ومتعارضين... – سواء في حقيقتيهما أم فيما يترتب عليهما من أبنية حياتية فوقية – فهما جوابان، جواب للدين يرسم به طريق الهدى والإيمان أمام العقل، وجواب للضلال والجحود يحاول أن يثير به الضباب ويطمس معالم الرؤية السليمة، فيغلف وعي الإنسان، ويحجز ضميره عن الاتجاه إلى الله سبحانه – مبدأ هذا الوجود وغايته -.. فجواب الدين يطرح بدعوته ورسالته تفسيراً للكون والحياة، وتوضيحاً لوجود الإنسان فيهما وعلاقته بهما، كما يطرح الطرف الآخر تفسيره وإجابته رداً على معتقد الإيمان وجحوداً بمنطقه وتفسيره، والدين ينطلق في تفسيره ونظرته من الاعتقاد والإيمان بأن لهذا الكون والحياة والإنسان خالقاً ورباً معبوداً.. وأن وجود الإنسان في هذه الحياة ليس وجوداً عابثاً ضائعاً، ولا شيئاً تافهاً، خالياً من المعنى والهدف.. بل إن للحياة والإنسان هدفاً، وقيمة خارج حدود الزمن الذي يعيشه الإنسان على سطح هذه الأرض، وغاية سامية يسعى نحوها، ويصنع صورتها – بمواقفه – وأعماله، ومجمل نشاطه، في عالم يتعدى حدود المنظور، والزمن المعاش في دنيا الإنسان، وهو عالم الآخرة والخلود، والامتداد الأبدي المطلق: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون) (الروم/ 44). (ولكل درجات مما عملوا...) (الأنعام/ 132). وبهذه الإجابة وضع الدين أمام الإنسان تفسيراً صحيحاً للبقاء والحياة، وكون له رؤية امتدادية خالدة تقطع في نفسه جذور الشك، والقلق الفكري، والشعور بالخوف من الفناء، والضياع والعبث في هذه الحياة. وبهذا التفسير فتح الدين أمام الإنسان أبواباً واسعة للدخول إلى رحاب الحياة، ونظم حياته على أساس فكري موحد ومتقن، ينتهي به إلى نتائج وغايات حياتية، خالية من الاضطراب والتناقض، والخيبة، ضمن ما يعرض عليه من تفسير فكري وعقائدي، ومنهج تفكيري، متقن النظام والحركة، يقوده إلى فهم حياتي، والتزام سلوكي واضح ومحدد. فالمؤمن يعتقد بوجود، خالق، عادل، عالم، قادر، حكيم.. وهو بعد ذلك يؤمن بوجود حساب، ومسؤولية تترتب على كلّ عمل يقوم به، كما يؤمن بجزاء ينتظر كلّ أفعاله وتصرفاته في هذه الحياة... لذا فهو يتصرف على أساس من هذا الفهم الإيماني، فيصوغ كلّ جزئيات حياته.. من أفكار، ومواقف، ومشاعر، وعلاقات، ضمن هذا الإطار العقائدي الموحد. وما أجمل تعبير القرآن الحكيم وهو يتحدث عن هذه الحقيقة، ويصف الصفوة المؤمنة التي أدركت قيمة الحياة، وعرفت معنى الوجود، فينطق بلسانها قائلاً: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ) ( آل عمران/ 19). أما الجواب الثاني فهو الجواب الذي طرحه الملحدون دوماً، وهو النظر إلى هذا العالم، وإلى هذه الحياة من داخلها فقط، وقطع أية صلة أو علاقة لها بعالم الغيب وخالق الوجود، بعد أن بنوا اعتقادهم على تفسير إلحادي ينكر وجود الخالق، والإله المبدع، فحكموا على هذا الإنسان بالفناء الأبدي والاستحالة إلى تراب يندك في متاهات الأرض وعناصرها الضائعة بلا عودة، أو نشور... وهكذا أدخل شعور الإنسان الحي مقبرة الموت واليأس والفناء الأبدي.. وهكذا أنهى هذا التفسير كلّ قيمة ومعنى للحياة في نفس الإنسان، فكان كارثة أصابت مشاعر الأمل، وأحاسيس التفاؤل، فصار الإنسان نهباً لليأس والضياع، واستسلم للتحلل والانهيار، فأحال الحياة إلى ساحة صراع وفترة ممارسة للمتع والشهوات والملذات الحسية العابرة، مع موت كامل للإحساس بالسعادة والشعور بمعنى الحياة.. لأن الحياة في نظر هذا الإنسان فترة شقاء عابثة، لا نتيجة لها، ولا أمل وراءها.. فلا آخرة، ولا عدل إلهي ولا عقاب، ولا ثواب، ولا مسؤولية ولا جزاء ولا خلود.. شأنه في ذلك شأن نبات الأر، وديدان الكهوف. ولا شك أن البشرية لم تصب بكارثة في حياتها أخطر من إصابتها بطوفان هذه الكارثة المدمرة التي قضت على الإنسان بالحياة والموت داخل سجن الأرض، والعودة إلى تراب الفناء الرهيب.. فإذا كان الأمر كذلك فأي معنى للحياة ...؟
وأي قيمة لها إذا ً؟
ولماذا لا يمارس الإنسان كلّ ما يريد..؟ حتى ولو كان في هذه الممارسة شقاء الآخرين، وإنهاء حياتهم بأقسى صور العذاب والشقاء، ما زال الوجود بالنسبة للإنسان هو كلّ هذه الفترة الزمنية المحددة الضائعة في عمر الكون اللانهائي، الذي ابتلع ملايين الأجيال... واستهلك كلّ امتداد البشرية الغابر، وكم كان رائعاً تصوير القرآن الكريم لهذه المأساة الفكرية التي توهمها التفكير الجاهلي الجحود، وهو يصوغ مقولته، ويعبر عن عقيدته: (هيهات هيهاتَ لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين) (المؤمنون/ 36 -37). وكم كان دقيقاً تعبير القرآن الكريم عن الصورة المأساوية التي ينتهي إليها هذا الإنسان الشقي الضائع حين قال: (... الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) (الأنعام/ 12). (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً*أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً) (الكهف/ 103-104). فهذا القطيع من الضلال، كما صوره القرآن الكريم، هو الذي خسر نفسه وضيع حياته ، فأحال الحياة جحيماً وشقاءً، بدلاً من أن يجعلها نعيماً وسعادة، وبسبب ما يخدع به نفسه من فهم وتصور، منحرف للحياة والوجود.. وبسبب ما كان يظن من أنه يحسن صنعاً وهو يبتعد عن منهج الله ورسالته، معتقداً أنه وحده هو الذي استطاع أن يكتشف الطريق، ويضع قدمه على درب المسير، فكان هو المغرور الذي وصفه القرآن بقوله: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا ...) (البقرة/ 212). فأي كارثة إذاً يتعرض لها الإنسان أفدح من تلك الكارثة.. وهي خسارة النفس وضياع الإنسانية... تلك الخسارة التي مني بها الإنسان بسبب هذا الضياع الفكري، والشذوذ العقائدي والانحراف المنهجي. وإذاً لا يشك عاقل في ضرورة إلغاء هذا المنهج الفكري، وإبدال تلك الطريقة المادية في فهم الوجود والحياة، والأخذ بمنهج فكري واقعي متطابق مع الحقيقة الكونية للطبيعة والفكر والمجتمع. وليس بمقدور الإنسان أن يجد هذا المنهج الفكري إلا في منهج العقل... بأصالته الفطرية، وبنشاطه النظري الدقيق... فهو الحقيقة المدركة والقوة الواعية التي تتحرك وفق منطق الوجود الكوني العام وتتطابق معه لأنها جزء منه ونموذج أعلى لحركته وانتظامه. لذلك توجه القرآن بالخطاب إليه، والحوار معه، لأنه هو وحده القوة المتجانسة مع منطق القرآن، والقادرة على فهم واستيعاب منهجه ودعوته، فقال: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) (الروم/ 42) (... إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (الزمر/ 42).
وعندما يمنح العقل حرية التفكير والتأمل، بعيداً عن مؤثرات الانحراف، وعوامل التزييف، يستطيع أن يكتشف أن المناخ الفكري الوحيد الذي يساعده على النمو والفهم السليم للوجود والحياة هو منهج القرآن... وطريق الدين، فعلى ضوئه فقط يستطيع أن يفسر الحياة، ويقيمها كما ينبغي أن تفهم وتقيم... وبذا يكتشف عجزه ويكتشف حاجته إلى منهج الدين وهدايته.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق