يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله - حتى لو كان في الزنزانة ولا يستطيع أن يتحرك من مكانه ، ولكن كانت إرادته حرّة ، بحيث يملك أن يقول «لا» عندما يقتنع بالـ«لا»، ويملك أن يقول «نعم» عندما يقتنع بها ـ إن نابته نائبة صبر لها ـ لا يسقط ولا يهتز أو يتراجع ـ وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسر وقُهر واستبدل باليسر عسراً ـ ويضرب الإمام (عليه السلام) مثلاً للأحرار الذين يصبرون والذي يؤدِّي بهم صبرهم إلى النتائج الطيِّبة، يقول (عليه السلام): ـ كما كان يوسف الصدّيق، لم يضرر حرّيته أن استُعبد وقُهر وأُسر، ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن منّ الله عليه، فجعل الجبار العاتي له عبداً، بعد أن كان له مالكاً، فأرسله الله رسولاً ورحم به أُمّة، وكذلك الصبر يعقب خيراً، فاصبروا ـ اصبروا على كلّ التحديات والظروف، اصبروا على كلّ قناعاتكم وإيمانكم والتزاماتكم مهما ضغط الضاغطون، ومهما قهر القاهرون ـ ووطّنوا أنفُسكم على الصبر تؤجروا».
فمن بين الكلمات التي وردت عن الإمام الصادق (عليه السلام)، نلاحظ هذا الربط عنده بين الصبر والحرّية، فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يعتبر أنّ مسألة أن تكون حرّاً ليست أن يعطيك أحد حرّيتك، بل إنّ الحرّية تنبع من حرّية عقلك وصلابة إرادتك، فأنت تكون حرّاً إذا ملكت عقلك وإرادتك وقرارك، بحيث لا يضغط عليك أحد لتتبنّى موقفاً لا تؤمن بشرعيته، وعليك إذا كنت الحرّ أن تتحمّل ضريبة هذه الحرّية، فلا تسقط أمام الضغوط ولا تنهار، ومن خلال هذا الحديث نقول إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) كان إمام الحرّية الذي يؤكّد أنّ الحرّية لا تأتي من الخارج، ولكنّها تنبع من الداخل، وهذا المبدأ هو المبدأ الذي أخذ به هذا العصر الذي انطلق به فلاسفته بعد مئات السنين، ليكتشفوا ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) مستوحياً ذلك من كتاب الله وسنّة نبيّه.
قد يتصوّر بعض الناس أنّه كما أنّ الله أباح له أن يأكل كما يشاء، ويشرب كما يشاء ممّا أحلَّه الله، فله أن يقف في مواقف العزّ، وله أن يفرض على نفسه مواقف الذلّ، بحجّة أنّها حرّيته في نفسه. ولكن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يستوحي من الآية الكريمة: (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8) معنى آخر، يقول (عليه السلام): «إنّ الله عزّوجلّ فوّض إلى المؤمن أُموره كلّها، ولم يفوِّض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع قول الله عزّوجلّ يقول: (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)»، فأنت لست حرّاً في أن تذلّ نفسك وأنت مؤمن، فقصّة عزّتك تنعكس على قصّة إيمانك، وبذلك يكون الذلّ حركةً سلبيةً في معنى الإيمان. كما أنّك جزء من مجتمع المؤمنين، وعندما تذلُّ نفسك، فإنّك بذلك تذلّ مجتمعك المؤمن، لذلك، لا حرّية لك في ذلك، فقد تملك الحرّية في صفتك الذاتية، ولكنّك لا تملك الحرّية في صفتك الإيمانية، فرداً كنت أو مجتمعاً، بل قد نقول: إنّ الإنسان لا يملك إذلال إنسانيته في معناها الوجودي الحركي.. إذاً لابدّ للإنسان المؤمن، في أيّ موقف كان، من أن يستنفر حركة العزِّ في موقفه، كلمةً وحركةً وموقفاً وموقعاً... هذه هي القاعدة الإيمانية.
الصبر والحرّية مطلوبان، لأنّ الذين يسقطون أمام استعباد الآخرين لهم، هم الّذين لا يصبرون على الحرمان الّذي يفرضه الآخرون عليهم، وهم الّذين لا يصبرون على الآلام التي يسلّطها المستكبرون عليهم، وهم الذين لا يصبرون على مواقف التحدّي التي تفرضها الحرّية عليهم.. إنّك قد تكون عبداً حتى لو كنت تملك حرّية الحركة في الساحات كلّها، وذلك عندما لا تملك إرادتك، وقد تكون حرّاً وأنت لا تستطيع أن تحرّك رجليك في الزنزانة، لأنّك تملك إرادتك، فأن تكون حرّاً، يعني أن تكون إرادتك حرّةً، وأن تكون الإنسان الذي يصبر على الأذى ويصبر على الحرمان في سبيل القضايا الكبرى.
علينا أن نعرف أنّ أهل البيت (عليهم السلام) أعطونا مفهوم العزّة بشكلٍ أصيلٍ كما لم يعطنا إيّاه أحد، وأعطونا مفهوم الحرّية بأروع معانيه، ذلك أنّ أهل البيت (عليهم السلام) هم الأحرار، ويريدون لمن يتبعونهم أن يكونوا أحراراً. وأهل البيت (عليهم السلام) هم الأعزّاء، ويريدون لمن يلتزم خطّهم أن يكونوا الأعزّاء، فلا مكان للأذلاء في خطِّ أهل البيت(عليهم السلام)، ولا للعبيد الذين يستعبدون أنفُسهم فيستعبدهم الآخرون، وتلك هي ذكرى الإمام الصادق (عليه السلام) في حركة العزّة والحرّية.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق