◄في يوم من الأيّام، استمعت لحكمة قالها أحد الناس حيث قال لي: إنّ الشخص الذكي هو الذي يُنشئ مشروعاً يدرّ عليه الربح، من دون أن يُوجَد فيه بشكل دائم ومستمر.
وهَاكُم مثلاً لهذه الفكرة: هناك طبيبان، أحدهما ليس له إلا عيادته الخاصة يُمارس فيها مهنته، والآخر له أيضاً عيادته، ولكنه مُسهم في مستشفى طبّي ناجح. إنّ وضع الأوّل يُحتّم عليه الحضور الدائم والمستمر إلى عيادته، لأنها مصدر رزقه الوحيد. واليوم الذي سيُقعده فيه مرض عن عيادته سيُفكر فيه وفي تداعياته عليه وعلى عياله، أكثر من الطبيب الثاني الذي أسهم في مشروع يربح منه، وهو ليس بالضرورة موجوداً ومستهلكاً فيه.
كذلك العمل الصالح.. هناك بعض الأعمال التي لابدّ أن يقوم بها الشخص بنفسه وبكليته، أقصد بنفسيته وعقليّته وجسده جميعاً، حتى يحصل على ثوابها، كالصلاة مثلاً.
وهناك بعض الأعمال التي من الممكن ألا تستدعي كلّ هذا الحصور المكثف للنفس، وتكون كالمستشفى الاستثماري الناجح الذي يدر على المسهم فيه ربحاً وهو في بيته، كالصَّدَقة والإنفاق في سبيل الله.
إنّ الصدقة والإنفاق في سبيل الله من الأعمال مُتعدّية الخير. فالمتصدِّق يحصل على الثواب من الله، والمتصدَّق عليه تُفرَّج كربته. فالفائدة هنا متعدية، وهذا مختلف عن فريضة الحج مثلاً، إذ إنّ خيرها مقصور على مَن أدّاها ونال ثوابها.
نُريد أن نكون أذكياء، وأن نُركّز على مثل هذه الأعمال متعدية الخير، التي تُدرّ الثواب بصفة مستمرة على أحدنا، من دون جهده الجسدي الدائم. نريد أن نركز على التصدُّق والإنفاق في سبيل الله. والإنفاق في سبيل الله يحتاج إلى يقين وثقة بالله لأنّه أصعب على النفس. فالنفس الإنسانية مجبولة على البُخل. قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن/ 16). واليقين والثقة بالله يهديان بالتعرف إلى وعده ووعيده من القرآن الكريم، في قوله تعالى: (.. وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصّلت/ 41-42)..
قال تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ/ 39). لابدّ أن يكون عندنا يقين في أنّ الله تعالى يُخلف على أحدنا ما أنفقه ويردّه له قبل أن يثنيه عليه في الآخرة. إنّ الحديث الشَّريف يُظهر هذه الحقيقة. قال رسول الله (ص): "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مَال وما زَادَ الله عَبْداً بعَفْو إلا عِزّاً وما تواضَعَ أحدٌ لله إلّا رَفَعَهُ الله عَزَّ وجَلَّ". وفي الحديث المتَّفق عليه: "ما مِن يوم يُصْبِحُ العبادُ فيه إلا مَلَكَان يَنزِلان فيقول أحَدُهُما اللّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقاً خَلَقاً خَلَفاً ويقول الآخرُ اللّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفَاً".
إنّ الذي يمسك ماله ولا ينفقه في سبيل الله ولا يُؤدّي فيه حق الله، من منظور الإيمان، لا يكثر ماله إنما يبعثره ويُضيّعه. إنّ أحدنا، بتصدّقه وإخلاص نيّته لله فيه، يُوسّع على نفسه في الدنيا وبما يُذهله يوم القيامة، خصوصاً إذا كانت صدقته هذه صدقة جارية خيرها مُتجدّدة مستمر. ما رأيكم في مَن يتصدّق بمال يشتري به مثلاً جهاز غسيل للكلى، يُعالج به مرضى الفشل الكلوي؟ إنّ كل مريض ينتفع منه إلى قيام الساعة له أجره وثوابه ودُعاؤه.
ولا يظنّ ظانّ أنّ باب التصدُّق مقصور على الأغنياء فقط. أبداً. من الممكن للمعدم أن يتصدَّق أيضاً ويحظى بثواب لا يعلم قدره إلا الله، كيف؟ يتصدّق بدمه. إنّ الفقير الصحيح الذي يتصدق بدمه لإخوانه المحتاجين إلى دمه يتصدّق بأغلَى ما يمتلك، والله لا يُجازي الإحسان إلا بإحسان يليق بكرمه وجُوده. قال الله سبحانه وتعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) (الرحمن/ 60).
إنّ الله تعالى لا يغيب عنه شيء، صَغُر أم كَبُر. قال تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (سبأ/ 3-4). إنّ الله لا يُكلّف أحداً فوق طاقته، لا في إنفاق ولا في غيره، فهو الذي قال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185).
إنما يفتح الباب لِمَن أراد أن يتقرب إليه، ويجعل لنفسه مكاناً عنده سبحانه. ثمّ الناس بعد ذلك على قدر رغبتهم في ما عند الله وقدرتهم عليه. وفي ذلك فليتنافَس المتنافسون. ورُب صدقة صغيرة أدّاها صاحبها من كَسْب طيّب وبإخلاص، تَزن عند الله ما لا تزنهُ الجبال. قال (ص): "مَن تصدَّقَ بِعَدْل تَمرَة مِنْ كسبٍ طيِّب، ولا يقبَلُ الله إلّا الطيِّبَ، فإنّ الله يقبَلُها بيَمينه، ثُمّ يُرَبِّيها لصاحبها كما يُربِّي أحَدُكُم فَلُوِّهُ، حتى يكونَ مثلَ الجبل". ألْهَمَنا الله وإيّاكم فعل الخيرات وبارك لنا فيها وفي ثوابها، إنّه نِعْمَ المولى ونعم النصير.
والجبال، كما نرى ونعلم، مختلفة الأحجام قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 261).
المهم أن يكون هذا الإنفاق خالصاً لوجه الله، كما قال تعالى عن الأبرار الذين يقصدونه: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 8-9).
وألّا يكون بَعْدَهُ أو فيه مَنٌ ولا أذىً. قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 262).
إنّ الإنفاق في سبيل الله مثال واضح للخير المتعدّي، الذي يُسعف صاحبه في كلّ وقت وحين، وفي حياته الدنيا وفي آخرته. ففي الحياة الدنيا بالتوسعة عليه وعلى عياله، وفي آخرته برفعه درجاته، لأنّ الذي يسبل شيئاً لله "يجعله في سبيله"، لا يزال ثواب تسبيله يأتيه حتى وهو في قبره، فيُطفئ عليه حرّ القبور، ويُخفّف عليه من فتنته. قال رسول الله (ص): "إذا مات ابنُ آدَمَ انقَطَعَ عَمَلُهُ إلا من ثلاث: مِن صدقة جارية، أو عِلْمٍ يُنتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ". نحن نحتاج إلى أن نركّز في مثل هذه الأعمال والإنفاق ويا حبَّذا لو كان هذا الإنفاق ممّا نُحب.
قال تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران/ 92). إنّ الموضوع يستحق التدريب عليه، حتى تنال به وعد الله تعالى.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق