الدعاء باعتباره عبادة تسمو بالنفس وتشرق بالروح وتوصل الإنسان بربّه بارئ الكون، يجب أن لا ينحصر في وقت الشدة والاضطرار بل يجب أن يكون في جميع الأحوال والأوقات، نابعاً من التسامي النفسي والانفتاح الروحي والكمال الإنساني. وخاصّة في الموسم الرمضاني الذي يختلف عن كلّ الأوقات فهو شهر عبادي روحاني كلّ مسلم يتوجه للدعاء به لقضاء حوائج الدنيا والآخرة.
فإنّ علاقة الإنسان بربّه علاقة ذاتية متأصلة في نفس الإنسان، ولكلّ امرئ طريق من قلبه إلى خالقه، وثمة باب في القلوب يفتح إلى مَن بيده مجريات الأحداث وهو بكلّ شيء محيط، فحتى أشقى الأشقياء نجده عند الابتلاء بالمصائب والمحن، وعندما توصد في وجهه الأبواب، وتنقطع به العلل والأسباب، يفزع إلى خالقه وينقطع إليه ضارعاً منكسراً، وهذا أمر ذاتي يتساوى فيه الناس مهما كانت اتجاهاتهم وميولهم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (يونس/ 12). وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ (الروم/ 33).
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلّها تدل على أنّ التوجه إلى الله تعالى في حال الشدة والاضطرار أصيل في فطرة الإنسان وطبيعي في وجوده. قال رجل للإمام الصادق (ع): يا بن رسول الله، دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيروني، فقال له (ع): "يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط ؟" قال: نعم. قال (ع): "فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟" قال: نعم، قال (ع): "فهل تعلق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟" قال: نعم. قال الإمام الصادق (ع): "فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا مُنجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث. لقد جعل الإمام الصادق (ع) الرجل يعرف الله تعالى عن طريق قلبه، لقد دلّه الإمام على ذلك الطريق الذي يوصل بين القلب والخالق القادر، إنّ هذا الاتجاه الفطري الذي يتجلى عند تقطّع الأسباب ويتوجه إلى القدرة القاهرة الغالبة على الأسباب والعلل الظاهرة، هو الدليل على وجود تلك القدرة، ولولا وجودها لما وجدت تلك الفطرة في قلب الإنسان. إنّ التوجه إلى الله تعالى في حال الشدة والاضطرار والتضرع إليه بالدعاء، أمر غير مرئي بالحواس، ويمكننا أن نشبهه بتوجه غريزي مرئي ومعروف، ذلك هو ميل الطفل إلى ثدي أُمّه، هو غريزة تنشأ معه منذ ولادته، فإذا جاع تحركت فيه هذه الغريزة وهدته إلى البحث عن ثدي أُمّه الذي لم يره ولم يعرفه ولم يتعوّد عليه، فلولا وجود ثدي ولبن يناسبان معدة الطفل لما أرشدته الغريزة إليهما، وكذلك حال الغرائز الأخرى في الإنسان، فلولا وجود تلك القدرة القاهرة لما وجدت تلك الفطرة وذلك التوجه الغريزي في ذات الإنسان. إنّ هذا الأمر الأصيل في وجود الإنسان، قد تغطيه حجب الإثم والشقاء بعد ما يظهر للعيان بنداء الفطرة، فيتراءى للإنسان أنّه قد استغنى، فيطغى ويعرض عن خالقه متعلقاً بالأسباب التي هي دونه، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ (العلق/ 6). وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (يونس/ 12). وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ (الإسراء/ 67).
فإذا اقتصر الإنسان على الدعاء في حال الاضطرار والشدة، فإنّ ذلك لا يمثل كمالاً إنسانياً ولا إخلاصاً عبادياً، بل هو جفاء وقسوة وابتعاد عن رحاب الرحمة والمغفرة .عندما يكون الإنسان في حال رخاء واطمئنان، يجب أن يعلم بأنّ ما هو فيه من نعمة مزجاة هي من الله، وأنّه هو القادر على أن يسلبه إياها كما هو القادر على أن يزيده منها، وذلك لأنّه خالق الكون والإنسان والحياة، وأنّه اللطيف بعباده الرؤوف بهم. ولهذا نجد أنّ الأنبياء والأوصياء والصالحين يتوجهون إلى ربّهم بنفس متسامية مشرقة حتى عندما يكونون في رخاء وبحبوحة عيش، يدعون ربّهم ويتوسلون به ليديم عليهم نعمته ويزيدهم من فضله .
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق