قدّم الإسلام لحياة البشر أفضل البرامج التربويّة والاجتماعية وأكملها على الإطلاق، كما أنّه رسم للإنسان من الأنظمة والتعاليم ما من شأنه أن يقود علاقاته المتنوّعة إلى كمالها المنشود..
والإنسان كائن متعدّد العلاقات؛ إذ تتشعّب علاقاته بما حوله وتتّسع صِلاته وارتباطاته بسائر الموجودات وتتنوّع لتتوزّع على اتّجاهات أربعة:
1- علاقته بالله تعالى.
2- علاقته بنفسه.
3- علاقته بالناس.
4- علاقته بالطبيعة وسائر الأشياء ومخلوقات الكون.
وقد كان للإسلام أطروحته العمليّة والنظريّة المناسبة التي تراعي حاجات الإنسان الواقعيّة وطبيعته الفطريّة في كلّ واحدٍ من هذه الاتّجاهات الأربعة، فالهدف المنشود إسلامياً ما هو إلّا تأطير كلّ واحدةٍ من هذه العلاقات المشار إليها بهالةٍ من النظم والاستقرار والواقعيّة تضمن للإنسان تكوين علاقاتٍ ناجحة على كلّ صعيد، بما يعود عليه بالسعادة الحقيقيّة، والتي يمكن اختصارها بكلمتين اثنتين: نيل رضوان الله، وأداء حقّ العبوديّة.
غير أنّ الحقيقة الثابتة التي لا نرتاب فيها، هي أنّ منظومة المعارف والقيم والتعاليم الإسلامية إنما أقامت صرحها على عنصر الارتباط والصلة بالله تعالى، أي: على الأوّل من الاتجاهات الأربعة المذكورة، ولكن لا بوصفه اتّجاهاً واحداً في عرض الاتّجاهات الثلاثة الأُخرى، بحيث تنحسر دائرته وتضيق عن شمول تلك الاتّجاهات، بل بوصفه اتّجاهاً ذا صبغة عامّة تجعل الاتّجاهات الأُخرى تنضوي تحته، وتسير في فلكه، وتتحوّل إلى مظاهر وتجلّيات له..
فمن هذه الزاوية: تغدو علاقة الإنسان مع بني جنسه إحدى المحطّات في مسيرة العلاقة التي يريد الإسلام من الإنسان أن ينشئها مع خالقه ومكوّنه..
وكذلك علاقته مع سائر المخلوقات من موجودات هذا الكون، فهي علاقة يجب على الإنسان أن يطبّق فيها الوصفة الإسلاميّة لأنّه إن لم يفعل ذلك، ساءت علاقته بربّه، وانفصمت عروة الصلة التي تجمعه به، فعلى الإنسان أن يتعامل مع موجودات هذا الكون جميعاً على أساس أنّها – جميعاً – مخلوقات الله، التي تشاركه في المخلوقيّة والعبوديّة، وفي الانتساب – بنفس الدرجة – إلى خالق واحد، وفي كونها محكومةً ومقهورةً لنفس النظام الكونيّ الذي سنّه هذا الخالق الواحد جلّ شأنه.
وبنفس المكيال أيضاً تقاس علاقة الإنسان بنفسه، وكيفيّة نظرته إليها، فعلى الإنسان أن يضع نفسه الموضع الذي تستحقّه بحسب المعايير والموازين الإلهيّة، وعلى الإنسان أن يغوص بعيداً جدّاً في أعماق نفسه وأغوارها في سبيل اكتشاف المزيد من أبعاد ذينك الفقر والضعف الذاتيّين اللّذين يشكّلان حقيقة هويّته ومن يكون...
وبقدر ما تسعه القدرة أن يطّلع عليه من هذه الأبعاد بقدر ما يدرك من تجلّيات عظمة خالقه ومكوّنه، فهو لا يقترب من معرفة حقيقة العبوديّة في نفسه أنملةً إلّا وهو يقترب مثلها أو ما يضاهيها من معرفة حقيقة الربوبيّة في خالقه..
ولعلّ هذا المعنى الذي أشرنا إليه هو أحد الكنوز النادرة والرموز البعيدة التي تضمّنها قول خير خلق الله (ص) – فيما رُوي عنه –: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه"، أو ما ورد عن لسان حفيده الإمام جعفر الصادق (ع) أنّه قال: "العبودية جوهرة كنهها الربوبيّة".
فالله سبحانه هو الهدف المنشود في جميع هذه العلاقات، والعودة إلى الله والتظلّل بفيء الله والتقرّب إليه عزّ وجلّ هو المبتغى والمنتهى في كافّة الاتّجاهات بلا استثناء، والعلاقات التي يقيمها الإنسان مع الآخرين، إنّما يقيمها في الحقيقة مع الله، والمعاملة لا يجريها مع الغير في واقع الأمر، وإنّما يجريها مع الله سبحانه؛ لأنّ الموجودات قاطبةً هم عيال الله ومخلوقاته.. وكلّنا لله وكلّنا إليه راجعون..
ومن هنا، تتجلّى عظمة الدعاء وأهمّيته ومدى الحاجة إليه في حياة الإنسان، وفي مسارات علاقاته المتنوّعة؛ فإنّ الدعاء هو ذلك الحبل الذي مدّه الله تعالى للإنسان لكي يتشبّث به ويُمسك بطرفه، لكي تنتشله العناية السماويّة فتُكتب له النجاة في مواجهة مزالق هذه الدنيا وشراكها وأوحالها وهمومها ومشاكلها وعقباتها وصعوباتها وتحدّياتها..
والدعاء هو وسيلة الإنسان، الفقير ذاتاً، والضعيف خلقةً، والمحتاج فطرةً، للاتّصال بالغيب، والاستمداد من مصدر القوّة والغنى..
فما أعظمه من فرصة، كالفقير مادّياً في هذه الدنيا الذي يأتيه عرض من غنيّ، بأن يضمّ ثروته وما يملك، على حقارتها ووضاعتها، إلى ثروة ذلك الغنيّ وممتلكاته الكثيرة، أفلا تكون هذه بالنسبة إلى ذلك الفقير فرصة العمر التي لا تُعوَّض؟! فكذلك الدعاء، عرض إلهيّ على الإنسان، مفاده: أنّ الله تعالى قَبِل من الإنسان أن يضمّ (ثروته!!) إلى ثروة الله تعالى التي لا نهاية ولا نفاد لها، وقَبِل أن يحوّل خزائن رحمته إلى بحرٍ يغرف منه الإنسان بغير حساب، متى شاء، وأنّى شاء..
ليصير الإنسان بذلك – والقياس مع الفارق – كساقيةٍ صغيرة ضحلة الماء، ولكنّها حين اتّصلت بالبحر ازداد ماؤها وكثرت بركتها وعجّت فيها الحياة..
أو كصفرٍ لا قيمة له في موازين الحساب، ولكنّه عندما جاوره الواحد وانضمّ إليه صار عدداً يُحسب له ألف حساب!!
فهي إذاً فرصة العمر لكلّ واحدٍ منّا، لكي يحوّل ضعفه إلى قوّة، وفقره إلى غنىً، وحاجته إلى استغناء، عن طريق الدعاء الذي يُتاح لنا فيه أن ننادي ربّنا بما نشاء، كيف نشاء، متى نشاء، وأنّى نشاء..
فالدعاء ليس من العبادات ذوات الأجزاء والأركان والشروط المرسومة والمحدّدة مسبقاً من قبل الشرع الأقدس، وإنما هو عبادة لا تحكمها إلّا الأطر العامّة للعبادات، وفيما سوى ذلك، فقد تُرك فيها المجال مفتوحاً للعبد ليرسمها على وفق ما يرغبه ويشتهيه، فله أن يناجي ربّه بكلّ ما يخطر بباله، وله أن يبوح لخالقه بما يعتمل في نفسه، وله أن يبثّ شكوى نفسه حين تضغطه هموم الدنيا ومشاغلها ولا يجد في زحمتها الخانقة من يسمع صوته، ويهتمّ لشأنه، ويصغي إلى طلباته، ويحقّق له رغباته..
وكم هي عظيمة حاجة كلٍّ منّا إلى أن يجد متّسعاً يريح فيه نفسه من أثقال أسرارها الخانقة، وينفض فيه عن نفسه بعض غبار همومها القاتلة.. فكيف إذا كان الذي يسمع النجوى، ويصغى إلى الشكوى، هو من يقول فيه إمامنا زين العابدين (ع) – كما ورد في الصحيفة السجاديّة –: "يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، لكلّ مسألةٍ منك سمع حاضر وجواب عتيد"..
هذا على صعيد الآثار والفوائد النفسية للدعاء..
وعلى الصعيد المضمونيّ أيضاً، فقد ترك النبيّ (ص) وعترته الطاهرة (عليهم السلام) للمسلمين إرثاً كبيراً من الأدعية العابقة بعطور الإسلام وقيمه وتعاليمه، وإلى جانب ما تزخر به من المعارف والعقائد والعلوم، فهي أدعية تمتدّ بأنواعها وأساليبها المختلفة لتناسب جميع شؤون الإنسان وأبعاده، فهي تستنزل دموع الحياء منّا في لحظات الإنابة إلى الله الغفور الرحيم، وتجسّد تضرّعنا إليه، وترفع أيدينا الملتمسة إلى مالك الوجود كلّه، وتعفّر جباهنا بالتراب استكانةً له، وتبصّرنا بما نحن عليه من العجز والضعف والفقر والذلّة تجاهه جلّت عظمته، وتكشف لنا جوانب من قدرته المطلقة وحكمته البالغة ورحمته الواسعة، وهي تتناول الشكر، وإظهار الحبّ والمودّة لله تعالى، والاعتراف له بالذلّ والعبوديّة، وإجلال الله وتعظيمه، وذكر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وطلب المغفرة، والتوفيق في العمل، وقضاء حوائج الدنيا والآخرة، والسعة في الرزق الحلال، والعون في الشدائد، وتفريج الهموم، وإزاحة الكروب، وقضاء الدين، وردّ الغريب، وفكّ الأسير، وشفاء المريض، وإغناء الفقير، وإصلاح الفساد، وقبول الأعمال، وزيادة العلم، وستر العيب، و...
ومع كلّ ما عرفناه ونعرفه من الأهميّة الاستثنائيّة للدعاء على المستويين: الشخصي والاجتماعيّ، نبقى اليوم بحاجة إلى من يكشف لنا المزيد المزيد من أبعاده وجوانبه القيّمة..►
المصدر: رسالة الثقلين/ العدد السبعون لسنة 2011م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق