• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الدين والحضارة وإرادة التغيير

د. السيد محمّد بحر العلوم

الدين والحضارة وإرادة التغيير
◄أ) الدين:

هو الطاعة، والانقياد، واسم لجميع ما يعبد به الله. جمعه أديان. والدين في عرف القرآن هو الشريعة السماوية التي أنزلها الله تعالى لعباده بواسطة أنبيائه ورسله، قال تعالى:

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...) (الشورى/ 13).

وقال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ...) (الروم/ 30).

وانتزع مفكر إسلامي من مضمون هاتين الآيتين الكريمتين تعريفاً للدين بقوله الدين "وضع إلهي يرشد إلى الحقّ في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات".

ومما تقدم يستفاد أنّ الدين سنة الحياة وهي الشرائع السماوية، وأقدمها -كما ذكر القرآن الكريم- شريعة نبيّ الله نوح، ومن بعده -حسب الترتيب الزمني- إبراهيم، موسى، وعيسى، ومحمّد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، وهي الشرائع الإلهية المنتسبة إلى الوحي وأنبياؤها الرسل الذين عرفوا بأولي العزم، وإنّ دينهم واحد يجب أقامته، وعدم التفريق فيه.

ولم يختلف تعريف الدين لدى مفكِّري الغرب، وقد سبق أن عرّفه أحدهم بقوله: "الدين، هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق، وواجبات الإنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه".

 

ب) الحضارة:

وعرفت بـ"جملة مظاهر الرقي العلمي، والفني، والأدبي التي تنتقل من جيل إلى جيل في مجتمع، أو مجتمعات متشابهة".

والحضارة -في مفهومها العام- هي ثمرة كلّ جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك مقصوداً أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية.

إنّ كلمة (حضارة) و(تحضر) لم تكن شائعة الاستعمال عند العرب، ولقرون عديدة أعقبت الفتوحات الإسلامية، ويستثنى من ذلك (ابن خلدون) فإنّه أوّل من عبر عن المعنى في مقدمته. بالرغم من أنّه كان يستخدم مصطلح (العمران البشري) كمرادف لمعنى الحضارة.

والظاهر إنّ مصطلح (الحضارة) لم يرد في المصدرين الإسلاميين الكتاب الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، إلّا في الآية الكريمة قوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) (الأعراف/ 163).

وهذا ما يفيد المعنى اللغوي لهذا المصطلح، والذي ينص على أنّ الحضارة، والحضر هي المدن، والقرى، والريف، سميت بذلك لأنّ أهلها حضروا الأمصار، ومساكن الديار، التي كان لهم بها قرار.

فإذا كانت الحضارة: "كلّ عمل تتمثل فيه الخصائص الإنسانية: الفكرية، والوجدانية، والسلوكية". فهي بعبارة أوضح كلّ ما ينشؤه الإنسان في كلّ ما يتصل بمختلف جوانبه ونواحيه، عقلاً، وخلقاً، مادةً وروحاً، دنيا وديناً، فهي في إطلاقها وعمومها قصة الإنسان في كلّ ما أنجزه على اختلاف العصور، وتقلب الأزمان، وما صورت به علائقه بالكون وما وراءه. وهي في تخصصها بجماعة من الجماعات، أو أُمّة من الأُمم، تراث هذه الأُمّة، أو الجماعة على وجه الخصوص الذي يميزها عن غيرها من الجماعات والأُمم.

والحضارة بهذا المعنى -المشار إليه- أعم من الثقافة التي تطلق على الجانب الروحي أو الفكري من الحضارة فقط، في حين تشمل الحضارة الجانبين: الروحي، والمادي، أو الفكري، والصناعي، وكأنّما لوحظ فيها أنّ النشاط البشري في مختلف جوانبه، ومواهبه يكون في أرقى حالاته في الحواضر والمدن.

إنّ الحضارة في المفهوم المتقدم مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ، لأنّ التاريخ هو الزمن والثمرات الحضارية تحتاج إلى زمن لكي تطلع، أي إنّها جزء من التاريخ، أو نتاج جانبي للتاريخ. فإنّ ثمار الحضارة لا تظهر إلّا بإضافة الزمن إلى جهد الإنسان.

 

جـ) الإرادة:

عرّف اللغويون (الإرادة) بـ(المشيئة) وهي منقولة من راد، يرود، إذا سعى في طلب شيء، والإرادة تكون مضمرة، وتارة ظاهرة.

ولم يرد هذا المصطلح في القرآن الكريم، وإنما وردت مادتها في صيغ أخرى، مثلاً أراد، ويريد كقوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) (الأحزاب/ 17).

كما لم أجد لفظ (الإرادة) في الأحاديث النبوية، وإنما ورد مشتقات المصطلح، منها قوله (ص): "لكلّ نبي دعوة، فأريد -إن شاء الله- أن أختبي دعوتي شفاعة لأُمّتي يوم القيامة".

وقوله (ص): "إذا أراد الله بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة".

يقال: أراد، يريد، إرادة.

ومفاد الآية والرواية يدور في إطار المعنى اللغوي، وهو معنى (المشيئة)، ولكنه تطور في بحوث الفلسفة والكلام، وأدى معناه عند الفقهاء (القصد) و(النية).

وحيث إنّ حقيقة الإرادة هي التحرك العلمي لتحقيق، وإنجاز ما انعقد العزم عليه، لذا يعرف بأنّ الإرادة: "تحرُّك عملي لتحقيق، وإنجاز ما انعقد العزم عليه من شوق مسبوق بعلم وإدراك".

 

د) الفرد:

حين يطلق مصطلح الفرد، فالمقصود به ذلك الكائن البشري، والذي عرف بالإنسان وخاطبه خالقه بقوله تعالى:

(إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (الإنسان/ 2)، والفرد من الناس: الواحد. ج: أفراد.

 

هـ) المجتمع:

عُرّف بأنّه: "مجموعة من الأفراد الإنسانيين الذين يعيشون تلقائياً، ولهم تقاليد، وعادات واحدة، وآمال، وغايات يريدون تحقيقها بوسائل مرسومة".

فالمجتمع إذاً عبارة عن جماعة من الناس يعيشون في كيان اجتماعي واحد ويتأثرون بعامل مشترك في العقائد والأهداف، ويتلاحمون ضمن حياة اجتماعية واحدة، لها أعرافها وتقاليدها، وسيلتهم في ذلك التفاعل والعلاقات المتبادلة.

وبذلك يكون المجتمع هو العلة في تحويل الإنسان الفرد من كائن بيولوجي، أو كائن عضوي حيواني إلى إنسان، ككائن مثقف.

 

د) التغيير:

ومصطلح التغيير، يعطي مفهوماً واضحاً بالانتقال من حالة إلى حالة أخرى. وبهذا المعنى العام تقرر الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرّعد/ 11). ومعناه الانتقال من حالة جبل الإنسان عليها، أو اعتادها إلى حالة أخرى. مع غض النظر عن ماهية التغيير المطلوب في الآية الكريمة.

وحيث إنّ معنى التغيير واسع، ومتعدد، وقطعاً لم يكن المقصود في حديثنا عن التغيير معناه العام، فلابدّ من تخصصه بالتغيير الاجتماعي، الذي هو محور حديثنا.

والآية الشريفة سالفة الذكر هي التي توحي بأنّ المطلوب من التغيير، هو التغيير الاجتماعي لما له من صلة وثيقة بالتحولات العديدة التي تحدث في مختلف أنماط الحياة الإنسانية، نظراً لكون الإنسان مخلوق اجتماعي. فإنّ التغيير له أبعاده الإنسانية، وكلّ تغيير في المجتمع ينعكس أثره على الإنسان بالضرورة لكونه مخلوقاً اجتماعياً، وخاصة إذا حصرنا التغيير في القيم الاجتماعية، التي تؤثر بشكل أو بآخر في مضمون الأدوار الاجتماعية، والتفاعلات الاجتماعية، مثل القيم الدينية، والأخلاقية والسياسية.►

 

المصدر: كتاب آفاق حضارية للنظرية السياسية في الإسلام

ارسال التعليق

Top