• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرابطة القلبية للأخوة الإسلامية

زهير الأعرجي

الرابطة القلبية للأخوة الإسلامية
   ◄لا تستطيع اللغة أن تعبّر تعبيراً دقيقاً عن مفهوم الأخوّة الإسلامية، بأكثر من تعبير (الرابطة القلبية) التي تربط عصبة المؤمنين.. فالمودّة والحنان وخفض الجناح، والشعور القلبي الفيّاض، وهي حالات تعبيرية إنسانية لفكرة الأخوة التي تربط الجنس البشري القائم على عبادة الله سبحانه وتعالى...

وقد تناول القرآن الكريم، الأخوّة الإيمانية من هذا الجانب، جانب كونها الرابط القلبي الذي يربط العصبية المؤمنة المجاهدة أبداً في سبيل نشر عقيدة التوحيد.. ففي يوم بدر لما نظر النبيّ (ص) إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين، استقبل القبلة وقال: اللّهمّ انجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تُهلِك هذه العصابة (المؤمنة من المسلمين) لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف ربه مادّاً يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 9-10). ولمّا أمسى رسول الله (ص) وجنَّه الليل ألقى الله على أصحابه النعاس، وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل، وسبقهم المشركون إلى الماء، وأصبح المسلمون محدِثين (غير طاهرين) ومجنبين وأصابهم الظمأ، ووسوس إليهم الشيطان فقال: إنّ عدوكم قد سبقكم إلى الماء، وأنتم تصلُّونَ مع الجنابة والحدث، وتغطس أقدامكم في الرمل، فأنزل الله عليهم المطر رذاذاً حتى اغتسلوا به من الجنابة، وتطهّروا به من الحدث، وتماسك به أرضهم، وأوحلت أرض عدوهم، وألقى الله في قلوب المشركين الرعب.. فربط الله بين قلوب المؤمنين برباط المودة والأخوة الإيمانية، في وقت كانوا يجابهون العدو، وهم قلةٌ في العدد والعدّة، وليس لهم من ناصرٍ إلّا الله وايمانهم، الذي جمع تلك القلوب المتناثرة في الصحراء.. يقول تعالى مكملاً الآيات السابقة: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ) (الأنفال/ 11)، فالبشرى بالنصر، والثقة بالله، واطمئنان القلب، هي التي جعلت تلك الأجساد المؤمنة تغفو في ذلك الليل، وهي على ما هي عليه من حراجة الموقف، وقلة الناصر، وقوة العدو، فأفاض الله عليهما بالطمأنينة والأمان، فاستلقت غير عابئة بمخاطر ذلك الموقف الرهيب.. فثبّت الله في ذلك الموقف قلوب المؤمنين، وجعلهم كتلة إيمانية واحدة، تتكاتف حركاتهم وجهودهم وأحاسيسهم في سبيل القضية الكبرى، قضية دعوة البشرية لعقيدة التوحيد.

وأضاف القرآن الكريم عنصراً مهمّاً من عناصر الأخوة في المجتمع الإسلامي، ألا وهو احترام القيادة الشرعية وإطاعتها، إلى حد أنّ القرآن نهى المؤمنين عن التفوّق عن الرسول (ص) بدون إذن، إذا جمعهم (ص) لأمر عام، كالتهيئة لحرب دفاعية، أو التشاور لأمر ما، أو أي أمر يهمّ المسلمين بشكل عام. فالمؤمن لا يمكن أن ينصرف ويذهب بدون استئذان، وهو واقف مع جمع من المسلمين بين يدي رسول الله (ص)، فهذا ليس من الأدب والخلق الإسلامي، وليس من المودّة والرابطة القلبية، أن يكون جافاً إلى هذا الحد، فعليه أن يستأذن بكلِّ أدب ووقار.. وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 62). فالرابطة القلبية والأخوة العقيدية بين المؤمنين، لا تفسح مجالاً للإنسان أن يتحرك من موقع التهور أو الجفاء أو قلّة الأخلاق، فلا يستأذن القائد الشرعي في أمرٍ ما.. وورد أن قوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) نزلت في حنظلة بن أبي عياش، وذلك أنّه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد فاستأذن رسول الله (ص) أن يقيم عند أهله فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) فأقام عند أهله ثمّ أصبح وهو جنب فحضر القتال فاستشهد، فقال رسول الله (ص): رأيتُ الملائكة تغسّل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والأرض، فكان يسمى غسيل الملائكة..

وعلى ما في القرآن الكريم من الآيات الدالّة على مفاهيم الأخوة والتوادد بين المؤمنين، نرى أنّ التشريع الإلهي ينهى بشكل قطعي عن موالاة المؤمنين لأعداء الله، كافرين كانوا أو فاسقين أو منافقين أو مجرمين، وموادّتهم، حتى أنّ إبراهيم (ع) لمّا بدا له واضحاً كفر أبيه، بعد كلّ المحاولات التي بذلها (ع) لإقناعه بالإيمان بعقيدة التوحيد، أعلن براءته منه، لأنّ إبراهيم (ع) اعتبر أباه[1] عدواً لله، فتوقفت العلاقة الأبوية، والعلاقة القلبية، فلم يعُد هناك رابط حقيقي يربط إبراهيم (ع) بأبيه، لأنّ الرابطة الإيمانية هي أساس الروابط، فإذا كان الأب كافراً بالله، فماذا بقي من تلك العلاقة الإنسانية.. يقول تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة/ 4-6). فالعلاقة الإيمانية هي التي تؤدِّي إلى تقارب القلوب وانسجام الأحاسيس، وتصفية الضغائن وكلّ ما يعتمل في النفوس. فلا يصبح للعلاقة الإنسانية معنىً إذا انتفى الإيمان، ولذلك تبرأ إبراهيم (ع) من أبيه وقومه، لأنّه خالفهم في عملهم وممارستهم الشرك بالله سبحانه وتعالى، وأصبحت العداوة والبغضاء حاجزاً بين قلبه (ع) وقلبهم، ودعا إبراهيم (ع) إلى استمرار تلك العلاقة المتشنجة التي ينقصها الود، ما داموا على شركهم إلّا أن يؤمنوا بالله وحده.. وقد أكّد القرآن الكريم في موضع آخر على أنّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون صادقاً، إذا حَملَ المؤمن مودةً من أي نوع للكافرين، حتى لو كانت العلاقة بينه وبينهم علاقة الأبوة أو البنوة أو الأخوة من الأبوين أو سائر أنواع القرابة، فميزة الإيمان بالله سبحانه وتعالى تستدعي أن تكون العلاقة مع المشركين علاقة غير ودِّية على أقل التقادير، إلى أن يرجعوا إلى ضمائرهم ويؤمنوا بالله سبحانه وتعالى.. يقول تعالى في هذا الصدد: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة/ 22). وفي الآية الكريمة لمحات في غاية الجمال، فقوله: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) على ظاهره يفيد أنّ للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر في الحياة الدنيا روحاً أخرى تفيض عليهم حياة أخرى وتصاحبها قدرة جديدة وشعور جديد، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام/ 122)، وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل/ 97).

ويشير القرآن الكريم إلى تطبيق عملي رائع لمفهوم الأخوة الإسلامية، عاشه المجتمع الإسلامي، في زمن الهجرة من مكة إلى المدينة، وما رافقها من حالات إيثار وتضحية لا توصف، سجلها التاريخ بكلِّ اعتزاز، كحالة نادرة في التاريخ البشري.. فالأنصار في المدينة يحبون المهاجرين المؤمنين، لأنّ أصل هجرتهم في الواقع، هي هجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان والإسلام.. ومع فقر الأنصار حالتهم المادية الضعيفة، فقد آثروهم على أنفسهم، ولم يبخلوا بشيء تجاه المهاجرين، فتقاسموا المال والبيت والطعام.. ولم تتوقف حالة الإيثار، حتى بعد انتهاء الهجرة، فقد جاء الذين دخلوا للإسلام بعد الفتح، وهم يحملون نفس الروح والشعور، يتوجهون إلى الله بالدعاء للذين سبقوهم بالإيمان، وسبقوهم في الهجرة.. يقول تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[2] وَمَنْ يُوقَ[3] شُحَّ[4] نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر/ 9-10). وهنا تتجلى أجمل معاني الأخوة الإسلامية.. أخوة العقيدة والإيمان المشترك، والإيثار، والحب في الله، والطمأنينة لما قسَمَ الله فلا حسد، ولا ضغينة ولا تزاحم.. وهذه هي الأخوة الحقيقية، فالقرآن الكريم يقول، مخاطباً المؤمنين: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (النساء/ 25)، فالمؤمن من يرى نفسه جزءاً من جسم كبير، جزءاً من الأُمّة الإسلامية، أو كما يصرّح الله سبحانه به "بعضكم من بعض"، أي إنكم جميعاً قطعة واحدة، وتركيب متكامل، يكمل أحدكم الآخر.. وهذه هي الفكرة الأساسية في الأخوة الإيمانية، إنك تعيش فرداً من مجموع متجانس، تسوده الرابطة القلبية التي تجمع أفراداً من مختلف الأجناس واللغات والخلفيات، يجمعهم كلّهم ظلال الإيمان، ورسالة التوحيد..

ويصف القرآن، حالة المؤمنين المتآخين، وهم قلوبٌ واحدة رحيمة فيما بينهم، تظللها عناصر المودة والحب والانسجام، وهم كتلة شديدة واحدة أمام أعداء الله.. يصفهم القرآن كأنهم براعم الأشجار الفتية التي تتكاثر وتتقوى حول الساق لتستمد منه وسائل القوة، فالبراعم الفتية هم المؤمنون، والساق هو الإسلام، فهم ملتصقون أبداً بالإسلام، وهل يستطيع البرعم أن ينفصل عن الساق، وهل يستطيع المؤمن أن ينفصل عن الإسلام والقرآن؟.. في العرف الطبيعي هذا لا يمكن.. وكذلك في عرف الدين، فالمجموعة المؤمنة عليها أن تلتفّ حول شيء مركزي، أساسي وهو الإسلام، وعليها أن تتجمع حوله، كالبراعم التي تلتف حول الساق، ليس لها حياة دونه.. وقد أشار القرآن الكريم، إلى أتباع محمّد (ص)، وحملة الإسلام ووصفهم كالبراعم المنتشرة على ساق الشجرة تستقوي يوماً بعد يوم.. يقول تعالى: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ[5] فَآزَرَهُ[6] فَاسْتَغْلَظَ[7] فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح/ 29).

وإذا كانت الأخوة الإسلامية في الحياة الدنيا بهذا الشكل الرائع، تُرى ما هو شكل العلاقات في الحياة الآخرة؟... في الواقع، تمر العلاقة في الحياة الآخرة، كما يمكن استنتاجها من الآيات الواردة في القرآن الكريم على مرحلتين:

المرحلة الأولى: وهي مرحلة الحساب والسؤال والمحاكمة، وبها تتوقف كلّ أشكال الروابط الأسرية، فالقرابة، وهي انتهاء إنسانين أو أكثر إلى رحم واحدة، وما يستتبعها من الرحمة والمودّة والألفة، لا قيمة لها إطلاقاً يوم القيامة، كما يقول تعالى: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الممتحنة/ 3)، وكما يقول تعالى أيضاً: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) (المؤمنون/ 101). فإذا برزت الحقائق وارتفعت الحجب، وانكشف الغطاء يوم القيامة، فإنّ رابطة الأنساب سوف تتقطع، ولن ينفع الإنسان إلّا عملهُ الصالح.. يقول تعالى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (الأنعام/ 94)، ويقول أيضاً: (وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ) (البقرة/ 166).

فالعلاقات والروابط الأسرية كلّها تتقطع يوم القيامة، لجلال الموقف ورهبته، إلى حد لا يفكر الإنسان، وهو يقف أمام الله رب العالمين إلّا بأعماله، فلا يكترث لابنه أو زوجته أو غيرهما، وهكذا الأمر مع الابن والزوجة.. كما يقول تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس/ 34-37). هذه هي المرحلة الأولى، وهي مرحلة رهيبة بطبيعتها.

أمّا المرحلة الثانية، فهي مرحلة التي ينعم بها المؤمنون بما وعدهم الله سبحانه وتعالى.. فيدخل المؤمنون الجنّة، فيُنْزَع الغلّ والحقد من قلوبهم، وتنقَّى سرائرهم، فيصبح الإنسان المؤمن في أمنٍ من قبل نفسه تجاه أخيه المؤمن الآخر، لا يحسده لعلوِ منزلته في الجنّة، وبهذه الوسيلة يمارس المؤمنون أخوّتهم المطلقة، فهم إخوانٌ بالإطلاق.. يقول تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ[8] إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ[9] وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (الحجر/ 45-48). وتورد بعض التفاسير أنّ الأخوّة في الله، هي أن ينظر المؤمن إلى أخيه المؤمن، مع ملاحظة إنّ إشارة التقابل في الآية تدلُ كنايةً على عدم تتبع أحدهم عورات إخوانه وزلاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غلّ. ويذكر سبحانه وتعالى أنّ الأخوة الحقيقية هي بين المتَّقين فقط، أمّا أصدقاء السوء، فإنّهم يوم القيامة، ليسوا إلّا أعداءً متنافرين يلوم بعضهم بعضاً.. يقول تعالى: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) (الزخرف/ 67-71).

وتبقى حقيقة أخيرة في غاية الأهميّة، وهي أنّ لا شيء يؤلِّف بين قلوب الناس غير الإيمان بالله سبحانه، فلا الأموال، ولا الهدايا، ولا الملذّات، ولا الكتابات، ولا الدعايات، تؤلف القلوب، كما يؤلّفها حبّ الله وابتغاء مرضاته.. فالماديات لا تدخل إلى صميم القلب، وأعماق النفس، لتعمل عملها كما يفعل الإيمان.. فالإيمان وحده هو الذي يؤلف القلوب، ويجعلها مترابطة بحبل الله.. كما يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم) (الأنفال/ 62-63).►

المصدر: كتاب الأخلاق القُرآن


[1]- المراد بالأب هنا العم، وليس الوالد.

[2]- الخصاصة: هي الفقر، وإيثار الشيء اختياره وتقديمه على غيره.

[3]- يوقَ: فعل مضارع مجهول من الوقاية.

[4]- الشحّ: بخل مع حرص فيما كان عادةً.

[5]- شطؤ النبات: البراعم التي تتولد منه، وتنبت حوله.

[6]- الإيزار: الإعانة.

[7]- الاستغلاظ: الأخذ في الغلظة، والمعنى هم كزرع أخرج براعمه بأعانها فقويت وغلظت، فأعجب الزارعين بجودة رشده.

[8]- الغل: الحقد.

[9]- النصب: هو التعب، أو الإعياء الوارد من الخارج.

ارسال التعليق

Top