• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرسول (ص) في القرآن الكريم

السيد عبدالأمير على خان

الرسول (ص) في القرآن الكريم
◄القرآن الكريم يحمل شهادته معه بإعجازه. فهو حجة على جميع الناس في كل العصور. وهو دليل ملزم على كل ما يبينه للرسول (ص) من المنزلة والخصائص والامتيازات والحقوق وأنواع الولاية الواسعة... ومن يقرأ القرآن بتدبر يرى كيف يجعل رسل الله – عليهم السلام – محوراً لدين الله وقطباً لمدار الحركة والمسيرة الربانية في الأرض. وقد أشرنا إلى دلالة هذا السياق القرآني الحكيم على وجود ملاك قوي لولاية واسعة قد جعلها الله للرسل – عليهم السلام –. وبيّنا أن ما جعله الله تعالى لرسوله الأكرم من ولاية لابدّ وأن يكون على القاعدة والسنة العامة التي جعلها عزّ وجلّ لهذا المجال. فالوجدان يؤكد بأن ولاية الرسول (ص) لكونه خاتم الرسل والأنبياء وكون رسالته هي الخاتمة وأنها هي الرسالة الفعلية إلى يوم القيامة لابدّ أن تكون أوسع وأعلى ولاية جعلها الله للرسول. ولابدّ أن يكون موقعه من الدين أهم وأخطر من موقع الرسل فهو الغاية للمسيرة الربانية – البشرية. ورسالته لا تحتاج إلى تبديل وتنقيح مهما تطاول الزمن إلى يوم القيامة. ودوره الذي أنجزه وفعله وتأثيره في حياة البشرية وفي تكوين القوة المحركة الهائلة في الحياة على مدى التاريخ وما تركه من حركة ومن خلافة فاعلة، كل ذلك ليغني عن الحاجة لإستئناف رسالة جديدة. وأن نبوته الخاتمة الوحيدة التي لا تشاركها نبوة تغني عن كل نبوة إلى يوم القيامة. بل إنّه المثل الأعلى الذي يغني عن الحاجة لمثّل أعلى حتى في يوم القيامة وفي الحياة الأخرى. وهذه ميزة خص بها خاتم الأنبياء وسيد الرسل لم يشاركه فيها أحد منهم، فقد كانت تجتمع عدة نبوات في منطقة واحدة بل في بيت واحد في زمن واحد وكان يشترك عدة رسل برسالة واحدة... ومع ذلك لم يقف القرآن الكريم عند هذا الحد ويمضي إلى أبعد منه بكثير فيتعمد الصراحة وتكثيف التأكيدات الشديدة القوية على هذا الحقيقة... إنّ القرآن الكريم مصمم تصميماً خاصاً يظهر بوضوح امتياز منزلة النبيّ محمد (ص) عند الله على كل الرسل وأنّه بالنسبة لهم بمنزلة الرسول، وأن نسبتهم إليه بمنزلة الاتباع، بل هم ملزمون باتباعه والتسليم إليه ونصرته لو أدركوا زمانه ومبعثه. (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران/ 81)، إلى قوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران/ 85). وكان رسول الله (ص) هو المُنتَظَر الموعود عند الرسل والأُمم. وكانوا يدعون الله سبحانه لتعجيل ظهوره ومبعثه وكانت معالم رسالته معروفة عندهم وبأنها رحمة للعالمين وأنها السهلة السمحاء التي يمن الله فيها بالتخفيف على البشرية وإلغاء الكثير من القيود والاحكام الاستثنائية والإجراءات الردعية والعقوبتية والشدة في الاحتياطات وبابتعادها عن معنى الحظر والحرمان... (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الصف/ 6). (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة/ 127-130). (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف/ 155-157). (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح/ 29). (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج/ 78). فلو اقتصر القرآن الكريم على بيان ملاكات ومناطات ولاية الرسل – عليهم السلام – لكان ذلك كافياً للدلالة على ثبوت ولاية واسعة وعالية للرسول (ص). ووجود مثل الآيات المتقدمة التي تبين امتياز الرسول على كافة الأنبياء تثبت أن ولايته تمتاز بالشمول والسعة وعلو الدرجة عن ولايتهم... ولكن القرآن الكريم لم يكتف بهذا كله وتقصد لأن يجعل شخص الرسول (ص) محوراً رئيسياً لسوره وآياته بعد الإيمان بالله سبحانه... وجعل الحديث عن الرسول (ص) أوسع وأشمل من الحديث عن كل الرسل مجتمعين... والحديث عن الرسل صيغ صياغة خاصة ليكون تمهيداً وتهيئة للحديث عن الرسول (ص). والآيات التي تذكر الرسل كمجموع تتضمن ذكر الرسول (ص) معهم... والآيات التي تذكر المؤمنين والأولياء تشمل الرسول (ص). والآيات التي تخاطب الأُمّة غالباً ما تشمل الرسول (ص) أيضاً إلا إذا كانت قرينة على عدم شمولها له. والسور التي تجعل رسول الله محوراً لها أكثر بكثير من السور التي تجعل الرسول محورها الرئيسي، والسور التي تجعل ذكر الرسل محوراً رئيسياً لها يكون ذكر الرسول شريكاً في المحورية... والآيات التي تذكر رسول الله أو تشير إليه بشكل ما أكثر بكثير من الآيات التي تذكر الرسل أو تشير إليهم... ويبدو لي – وللتجربة الخاصة – إنّ خير منهجة وطريقة لالتماس هذه الحقيقة وهذه الظاهرة القرآنية الحكيمة هي أن تعيش مع القرآن كله، تعيش معه من أوّله إلى آخره نتدبر آياته كلها ونلاحظ دلالات السياق والنظم والقرائن ومناسبات النزول وأقوال العلماء مع الاستشهاد بأحاديث أهل البيت – عليهم السلام –. وقد فعلت ذلك في كتاب "الولاية والسياسة في الإسلام" حيث تناولت السور بالترتيب وحسب ما مدون في المصحف الشريف. أذكر اسم السورة وعدد آياتها لتتضح نسبة الآيات التي تذكر أو تشير إلى الرسول (ص). وأختار بعض الآيات وأسجلها للتلاوة وللتدبر فيها كأمثلة ونماذج أو لوجود ملاحظات وأبعاد جديرة بالاهتمام أو للتأكيد وزيادة الملاحظة. وأعلق على بعض الآيات أو بعض المقاطع أو على الآيات المختارة من السورة بجملة تعليقات أرى أهميتها لأمر له علاقة بالموضوع نفسه وتوضيحه أو للإشارة إلى شبهة عند البعض. وقد تتكرر بعض الملاحظات إما لفظاً أو ضمناً لمناسبة ما أو لزيادة توضيح أو لإضافة أو لاتمام فكرة... وقد رأيت أن معظم السور فيها نسبة عالية من الآيات التي تذكر أو تشير للرسول (ص) ما عدا القليل من السور القصار... وفي كل ذلك لا ينبغي الغفلة عن المقصود وهو بيان ما يوليه القرآن الحكيم من اهتمام بشخص الرسول (ص) وما يثبته له من مكانة ومنزلة عند الله يبينه من خصائص ومقومات لشخصيته العظيمة وما يكشف عنه من دور رباني جعله الله للرسول (ص) في حركة الدين في هذه الحياة وما جعله الله له من موقع من الدين ويوم القيامة وفي الآخرة. وإني أشعر أن دراسة القرآن الكريم حسب تاريخ النزول أفضل من هذه الطريقة، لانّها تجعل الباحث يعيش مع القرآن الكريم وهو يربى الأُمّة على ولاية الرسول وعظيم منزلته ولكن هذه الطريقة أيسر إن لم تكن هي المتيسرة فعلاً لصعوبة معرفة ترتيب بعض الآيات حسب تاريخ النزول لأهل هذا الزمان... ولو أمكن الجمع بين الطريقتين لكان أفضل وأتم... مع أنّه من الأفضل عدم الاقتصار على طريقة واحدة في كل السور، فمن الأحسن أن تتبع عدة طرق من العرض فمثلاً تّذكر أرقام الآيات المعينة في السورة ثمّ تّسجل منها آيات مختارة مع التعليق على كل آية بإزائها. أو تّذكر بعض الآيات أوّلاً ويّعلق عليها واحدة واحدة أو جملة، ثمّ تّذكر أرقام الآيات المعينة في تلك السورة. أو تكون في السورة الواحدة طريقة عرض مركبة، ذكر أرقام آيات ثمّ تدون بعض الآيات ويعلق عليها ثمّ تذكر أرقام آيات أخرى وتدون منها آيات ويعلق عليها... وهكذا... والسور التي تكون افتتاحياتها خطاباً للنبيّ (ص) من المفيد أن تسجل افتتاحياتها أوّلاً ويعلق عليها ثمّ تعمد طريقة في باقي السورة... وفي هذا الموضوع نقدم مثالاً عملياً من سورة البقرة. لنقرأها جميعاً ولنلاحظ الآيات: 4، 6، 22، 24، 25، 30، 76، 80، 89، 92، 94، 95، 97، 99، 101، 107، 108، 111، 119، 120، 121، 129، 125، 137، 139، 140، 142، 144، 145، 147، 149، 150، 186، 189، 204، 211، 214، 215، 219، 220، 222، 243، 246، 252، 258، 278، 279، 285. لاحظ موقع الآيات من السياق ولاحظ نسبتها إلى السورة حيث تقرب من نسبة الخمس "عدد آيات السورة 285 آية". وقبل مراجعة السورة في القرآن لنقرأ من هذه الآيات هذه الأمثلة: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة/ 4). من ملاحظة هذه الآية ووجود ضمير المخاطب فيها "بما أنزل إليك" و"ما أنزل من قبلك"، ووحدة النظم والسياق بينها وبين الآيات المتصلة بها يتضح أنّ الخطاب من البداية كان موجهاً للرسول (ص) وأن خطاب الناس والأُمّة إنما يكونان من خلاله وبالمرحلة الثانية... وهذا السياق في الخطاب يتكرر في القرآن الكريم وبكثافة عالية جدّاً لحد يجعل القرآن الكريم كله خطاباً لرسول الله (ص) أوّلاً ثمّ ثانياً ومن خلاله يكون خطاباً للناس وللمسلمين. ويكون هذا السياق ظاهرة غالبة في بعض السور فمثلاً في سورة الأنعام تتكرر مخاطبة الرسول (ص) أكثر من خمسين مرة مع أن عدد آياتها كلها لا يتجاوز المائة وخمس وستين آية. وفي بعض الآيات يفرد ذكر النبيّ (ص) ويردف إليه ذكر الأُمّة أو ذكر الناس، أو ذكر المؤمنين مع أن ذكر المؤمنين يتضمن ذكر النبيّ (ص). ويتفنن القرآن الكريم في طرق ذكر النبيّ (ص) ومخاطبته: قل، أرأيت، إنك، لعلك، أنظر، لكن إليك... إلخ. وبعض الآيات ترجع الخطاب للرسول أكثر من مرة مما يجعل ذكر الرسول (ص) في القرآن أكثر من عدد الآيات التي ذكرناها إزاء السور. إنّ مخاطبة الرسول في القرآن الكريم تتكرر أكثر من ثلاثمائة مرة. (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 23). هذه الآية تتم وتؤكد ما أشرنا إليه في التعليق على الآية السابقة. فالآية مع أنها تخاطب الناس وتحتج عليهم باعجاز القرآن الحكيم وتتحداهم تنسب الرسالة إلى الرسول وكأنّه هو المرسل إليه، وتصف التنزيل بأنّه على رسول الله بلهجة تنم عن قصد إضافي على ما هو معهود في الأذهان من أن نزول القرآن يكون أوّلاً على الرسول ثمّ على الناس أو إلى الناس. دبل إن لهجة الآية وسياقها يشعر بأن إرسال الرسول (ص) هو الأصل وأنّ القرآن حجة ومعجزة تشهد له بالصدق فيما يبلغهم به من منصب له وهو منصب الرسالة. والآيات التي تؤكد حقيقة كون إرسال الرسول هو الأصل في تبليغ الرسالة كثيرة مبثوثة في عدة سور وبعدة تعابير وأساليب منها: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة/ 6). فإنّ هذه الآية وكثيراً من الآيات غيرها تبين أن أساس حركة الدين وفعله وتبليغه، وعملية الانذار، وعملية التبشير هو الرسول (ص). (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (البقرة/ 89-90). في مثل هاتين الآيتين دلالات بينات يتضح بعضها من ملاحظة حقيقة ما كان يستفتح به أهل الكتاب على الذين كفروا إذ لم يكن الاستفتاح إلا بشخص رسول الله (ص) حيث كانت البشارة في الكتب الإلهية السابقة وفي المأثور عن الأنبياء – عليهم السلام – تدور حول شخص الرسول ومشخصاته العائلية والشخصية وخصائصه وفضائله وحركته وأمته، ومن خلال شخصه تكون الإشارة إلى بعض خصائص رسالته، بل إنّ الرسالة تنسب إليه وليس العكس وكأنّه هو الذي يشرع فهو الذي يحرم الخبائث ويحلل الطيبات، وهو الذي يخفف ويرفع بعض القيود وهو الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهو الذي يزكي ويعلِّم... فدوره أساسي بل هو الأوّل والرئيسي، ولولاه لا يكتمل اللطف الإلهي، فلو كانت الرسالة تُبلّغ بواسطة أخرى لما كان تبليغها كاملاً. فلو كان التبليغ مثلاً بواسطة الملائكة أو بواسطة احداث كتاب مفصل يوضع بين يدي الناس ليتدارسوه أو لينبري بعضهم لدراسته والدعوة إليه لما كانت الرسالة كاملة فلابد أن تكون الرسالة من خلال حياة الرسول (ص). وتتضح بعض الدلالات من ملاحظة ما كفر به الذين كانوا يستفتحون برسول الله، وهو نفس الذي كانوا يستفتحون به وهو الذي عرفوه أنّه رسول حق. وبعضها يتضح من ملاحظة تفسير القرآن الكريم لسبب كفرهم وهو الحسد الذي لا يكون إلا لشخص الرسول وأهل بيته فلا يكون للكتاب ولا للرسالة. ويضيف القرآن الكريم بعداً آخر بتشنيعه الحسد، إذ لا ينبغي حسد الرسول (ص) فهو أهل لهذا المنصب العظيم فيجب الاذعان لحقه ومنزلته، فإن حسدهم هذا أخس وأسوأ من كفرهم وله نتائج نفسية سيئة حيث يجر إلى الغضب والحقد، لأنّهم لا يجدون متنفساً له ولا يستطيعون أن يبدلوا حقيقة رسول الله (ص)، وعندها يبوء غضبهم عليهم بغضب آخر مضاعف وبغضب من الله سبحانه فيستحقون بذلك العذاب الأليم في الآخرة. (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (البقرة/ 108). وهذه الآية تنضم إلى ما قبلها وإلى الكثير من آيات القرآن الكريم ذات العلاقة بالدلالة البينة وبالتأكيد المضاعف على شخص الرسول (ص). فالذي سأله بنو إسرائيل من موسى (ع) إنما هو بحد ذاته وبنفسه كفر صريح كقولهم: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا) (الأعراف/ 138)، و(أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء/ 153). والآية تسلط الضوء على كون السؤال موجهاً للرسول وكونهم يريدون تسريب هذا الكفر عن طريق الرسول، وكأنها تريد القول أنّ هذا الكفر يتضاعف أكثر من هذه الناحية وبهذا السبب لأنّ الرسول طريق الهداية والتدين والنور والرحمة. فالضلال والكفر يتضاعفان إذا كانا بهذه الجرأة على الله وعلى طريق هدايته... (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة/ 137). لاحظ وتدبر هذه الآية ضمن الآيات التي تحيط بها، الآيات قبلها من رقم 124 والتي بعدها إلى 152. ولا تنس التدبر في دعاء إبراهيم (ع) للرسول (ص) والعلاقة بينه وبين قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ...) (البقرة/ 130)، وما له من علاقة بشخص الرسول وبالولاء له، فملّة إبراهيم في هذه الآية هي الولاء للرسول (ص). ثمّ تدبر جيداً بمخاطبة القرآن الحكيم للمسلمين: (قُولُوا آمَنَّا...) (البقرة/ 136). ولا تغفل عن الفارق بين إيمان أهل الكتاب وبين إيمان المسلمين وهو الإيمان بالرسول (ص) بالدرجة الأولى، لاحظ قوله تعالى: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) (البقرة/ 136)، ولم يقل: لا نفرق بين كتبه أو أوامره. أو آياته... ثمّ تدبر في تحول الخطاب – فجأة –من المسلمين إلى الرسول (ص) خاصة "فسيكفيكم الله...". إنّ الخطاب الأوّل الموجه للمسلمين له دلالة إضافية لا تتحقق فيما لو كان من البداية موجهاً للرسول (ص) لأنّ الآية تريد أن تتعبد المسلمين بالولاء له، والتحول في الخطاب بعد ذلك لشخص الرسول له دلالته إذ جعلته الآية هو المعني بالموقف والمسلمون يأتون بالدرجة الثانية وبالتبع له. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186). وهذه من الآيات الكثيرة التي تبالغ في الحرص – إنّ صح التعبير – على التأكيد على شخصية الرسول. بحرصها على أن يكون تبليغ الحقائق الإلهية وحتى الأجوبة على أسئلة واستفسارات وخواطر المؤمنين والعباد بصورة عامة من خلال الرسول كثيرة. وأسلوب هذه الآية ملفت للنظر فهي لم تكتف بكون الجواب فعلاً يمر عبر الرسول لأنّ الوحي لا يتجلى إلّا له، وإنما تؤكد ذلك صراحة ولفظاً وأسلوباً، "وإذا سألك..."، "فليستجيبوا لي..."، فالرسول هو المسؤول وهو الذي يجيب وهو الذي يبلغ عن الله ويأمر الناس بالدعاء والاستجابة والإيمان. ثمّ إنّ موضوع الآية كذلك ملفت للنظر وهو الدعاء والاستجابة لدعاء فكأن الآية تريد أن تؤكد بأنّ الارتباط بالله سبحانه حتى على مستوى الدعاء لابدّ أن يمر عبر ولاية الرسول (ص). (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة/ 189). أضف هذه الآية إلى الآية السابقة وإلى آيات أخر تحرص على أن يكون بيان العقيدة والمفاهيم والأحكام والمواقف من خلال مخاطبة الرسول. "وإذا سألك، ويسألونك، يستفتونك، يا أيها النبيّ، قل... إلخ". (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...) (البقرة/ 278-279). لاحظ جيِّداً نسبة الحرب لله ولرسوله معاً، ولاحظ ما تتضمن الآية من تشريع وجوب منع الربا قانوناً إضافة إلى ما جعل الله سبحانه من عقوبة في الآخرة ومن نتائج سيئة في الدنيا تصيب المرابي سواءً شعر بها أم لم يشعر، ثمّ لاحظ الفارق بين فلسفة وأبعاد المعنى الذي يوحيه هذا التعبير "فأذنوا بحرب من الله ورسوله.." عن أي معنى يعطيه أي تعبير آخر يفيد التحريم والعواقب السيئة والمنع القانوني. إنّ هذا التعبير الموجز البليغ إضافة إلى إعجازه فإنّه يدل على أن أمراً آخر تريد أن تؤكده الآية وتركزه في الأذهان وهو التلازم الأكيد بين إرادة الله وإرادة الرسول وبين إرادة الله وموقف الرسول وبين حرب الله وحرب الرسول، بل هي حرب واحدة فحرب الله حرب رسوله وحرب رسوله حربه. وأحكام الربا لا تختص بزمن الرسول (ص)، فهي تنفذ إلى يوم القيامة باسم الرسول (ص)، وهكذا تكون الأحكام الإسلامية التي تنفذ بواسطة السلطة التنفيذية، فإنّها تنفذ باسم الرسول (ص)،وفي القرآن شواهد أخرى على هذا المبدأ مثل آيات عقوبة المحارب. والأحكام السياسية تنسب للرسول سواءً كانت بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم، فالسلم والأمان والعهد والذمة تنسب للرسول بعد الله والولاية إنما تكون من خلال ولاية الرسول بعد ولاية الله سبحانه... هذه قراءة في سورة البقرة وحدها، وهي تبين جانباً مما بينه القرآن الكريم من موقع ومنزلة ودور للرسول الأعظم (ص) ويضمها إلى ما يتضح من قراءة السور الأخرى والجمع بين بعض الآيات وضم الجوانب إلى بعضها تتكون عند المسلم صورة متكاملة لمنزلة الرسول ودوره في المسيرة الربانية وحركة رسالة الدين في هذه الحياة وموقعه من الدين المطلوب من البشرية، كمجموع ومن الإنسان كفرد. إنّ ما بيّنه القرآن الكريم من موقع ومن مكانة للرسول يجب أن ينعكس على الأُمّة وعلى المسلم في عقيدته ونظرته للرسول وفي تعامله مع الرسول ومع سنته وعترته وآثاره وكل ما ينسب إليه ويجب أن يكون ذلك مقياساً ومرجعاً يرجع إليه في مقام الولاية وأحكامها وفي تقييم الأشخاص والمواقف سواءً كانت في حياة الرسول أو بعد وفاته. فعلى هذه الصورة تقيّم مثلاً المواقف التشكيكية أو الضعيفة والاعتراضات التي صدرت من قبل بعض الصحابة... وعلى هذه الصورة تقيم المذاهب في النظرة لسنة الرسول والمواقف من رغباته وترشيحاته وإشاراته وتلميحاته في الامامة والولاية وغيرها...►   المصدر: مجلة رسالة القرآن/ العدد السابع لسنة 1412هـ

ارسال التعليق

Top