• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الشباب.. مزايا ومسؤوليات

الشيخ حسين الخشن

الشباب.. مزايا ومسؤوليات

◄تمتاز مرحلة الشباب بأنّها مرحلة الحيوية والنشاط، فالشباب طاقة، والطاقة لابدّ من أن تُستثمر. وكما أنّ الشباب طاقة فهو أيضاً نِعمة، والنِّعمة تواجه بالشُّكر لا بالكفر، وشُكرُها يعني أن نؤدِّي حقَّها، فلا يكون ذلك بالقول فقط، بل بالفعل أيضاً، بأن نستثمرها فيما خُلقت له، فنِعمة المال يكون شُكرها بأداء حقّه إلى الفقراء والمساكين، ونِعمة الصحّة وكذا الشباب، تُشكران بأن تُبذل كلّ منهما في خير الإنسانية.

الطاقة والحيوية

ولأنّ الشباب طاقة، فسوف يُسأل المرء عنه يوم القيامة، ففي الحديث الشريف: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع... وعن شبابه فيما أبلاه». ولأنّه نِعمة فسوف يُسأل عنه ـ أيضاً ـ يوم القيامة كما يُسأل عن كلِّ النِّعَم، قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر/ 8).

ومن خصائص نِعمة الشباب، أنّها إذا فُقدت لا تُعوّض، فالمال إذا تلف أو سرق فبالإمكان تعويضه، والجاه أيضاً يمكن تعويضه، ولكنّ الشباب لا يمكن تعويضه، ولا يمكن أن يعود، كما قال الشاعر:

 ألا ليت الشبابَ يعودُ يوماً               فأخبرُه بما فعلَ المشيبُ

وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع): «شيئان لا يعرف فضلهما إلّا مَن فقدهما: الشباب والعافية».

فطرة سليمة

وعندما يُولد الإنسان، فإنّه يُولد نقي الفطرة، بعيداً من كلّ أشكال الانحراف، وتستمر حالة الصفاء والنقاء هذه إلى حين بلوغه، ولذا نرى الشباب متحفّزاً لكلّ خير، ومتطلّعاً للتغيير، بدافع فطرته البعيدة عن الملوّثات، وهكذا نراه أقرب إلى الصلاح، وأكثر اندفاعاً إليه، فالشاب يُرجى إصلاحه أكثر من الكهل، لأنّ الكبير قد يقسو قلبه بفعل المؤثّرات السلبية، ويصبح من الصعب تغييره، بينما الشاب، حيث إنّه أقرب إلى الفطرة، فإنّه أبعد عن العادات السيِّئة. يقول مولانا الإمام الصادق (ع) لأحد أصحابه المعروف بالأحول: «أتيت البصرة؟ قال: نعم، قال (ع): كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه؟ فقال: والله إنّهم لقليل، ولقد فعلوا، وإنّ ذلك لقليل، فقال (ع): عليكم بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ خير». فالشباب ـ إذاً ـ أسرع إلى كلّ خير، لأنّ فطرتهم سليمة لم تتلوّث، وتنبض بالخير والحبّ.

مرحلة تحديد المسارات

هذه الميزة تتفرّع على سابقتها، فالشباب مفترق طُرق، وهو الأرضية الصالحة لتلقّي الأفكار البنّاءة أو الهدامة، يقول الإمام عليّ (ع): «إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك».

ويمكننا القول إنّ الشباب كالصفحة البيضاء تتلقّى كلّ ما يكتب فيها، أو قل إنّها من هذه الجهة كالإسفنجة الخالية التي تمتص كلّ ما أُلقي فيها. كما يمتاز الشباب بقوّة الإحساسات العاطفية، فالإحساس بالجمال والكمال حاضر لدى الشباب أكثر من غيره.

مسؤوليات الشباب: عِلم... وعمل

ويمكننا أن نلخّص هذه المسؤوليات بكلمتين: العِلم والعمل،  فالمسؤولية الأساس التي تقع على عاتق الشباب بما أنّهم أمل الأُمّة ومستقبلها، أن يتعلّموا ويأخذوا بأسباب العِلم، فالمستقبل لا يُبنى إلّا بالعِلم، وهل تتخلف الأُمم إلّا عندما يبتعد أبناؤها عن الأخذ بأسباب العِلم؟ يقول الإمام الصادق (ع) فيما رُوِي عنه: «لست أحبّ أن أرى الشاب منكم إلّا غادياً في حالتين: إمّا عَالماً أو مُتعلِّماً، فإن لم يفعل فرّط، فإن فرّط ضيّع، وإن ضيّع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمّداً بالحقِّ».

من هنا، فإنّ على الشاب أن يعيش هم العِلم وقلق المعرفة، ليفكّر على الدوام ليس فقط في نفسه وهمومه الشخصية، بل عليه أن يفكّر كيف يخرج الأُمّة من حالة الجهل، وكيف يُساهم في تقدّم أُمّته لترقى إلى مستواها اللائق بها كأُمّة شاهدة على الأُمم.

وإنّ ذلك لن يحصل بالتأكيد إلّا إذا اعتبرنا الجهل هو أعدى أعدائنا، كما هو بالفعل، وإنّ ضريبة الجهل هي التخلُّف، ونتيجته هي العنف والإفراط، يقول الإمام عليّ (ع): «لا ترى الجاهلَ إلّا مُفرِطاً أو مُفَرِّطاً». وكذلك، فإنّ ثمرة الجهل هي انتشار العداوة والبغضاء بين الناس، لأنّ «الناس أعداء ما جهلوا»، وإذا اقترن الجهل بالتدين فتلك المصيبة الكبرى، لأنّه يزيده تشدداً وتزمتاً، ولذا قال عليّ (ع): «ما قصم ظهري إلّا رجلان: عَالم مُتهتك وجاهل مُتنسك»، وقد نظّم بعضهم هذا المعنى، فقال:

فسادٌ كبير: عَالم مُتهتك           وأكبر منه جاهل مُتنسك

هما فتنة للعالمين عظيمة            لمن يَهن في دينه بتمسّك

إذاً، يرى الإسلام أنّ المدخل إلى الإيمان يكون من باب العِلم، لأنّ الإنسان كلّما ازداد عِلماً ازداد إيماناً، وكلّما ازداد جهلاً ازداد تزمتاً وبُعداً عن الله سبحانه وتعالى، ومن هنا نعرف السرّ في اعتماد القرآن الكريم على الشواهد الآفاقية، كأهم دليل على وجود الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت/ 53).

العقل آلة العِلم

وعندما نتحدّث عن العِلم فلا يمكننا أن نغفل آلة العِلم ووسيلة المعرفة الأساسية وهي العقل، فالعقل هو وسيلة الإبداع، وهو دليل الإنسان ومُرشده إلى ربّه وخالقه، كما هو وسيلة اكتشاف الكون، والمفروض بالإنسان أن يُبقي عقله على الدوام يقظاً وفي حالة حركة، لأنّ سكون العقل يعني سكون الحياة. عن الإمام الرضا (ع): «صديق كلّ امرء عقله وعدوه جهله»، وما يريده الإسلام للشاب أن يعمل دائماً على تنمية عقله وتغذيته بكلّ جديد نافع، ولا سيّما أنّ عقل الشاب هو بطبيعته عقل متحفّز للمعرفة، ومتطلّع إلى الحقيقة، فعلى الشاب أن لا يكون ممّن يؤجِّرون عقولهم وتتحكّم بهم عواطفهم وانفعالاتهم، فيميلون مع كلّ ريح، ويُساقون مع كلّ موضة جديدة، إنّ عقولنا أمانة الله عندنا، ولا يجوز لنا أن نبدّد هذه النِّعمة، ففي الحديث عن الإمام الكاظم (ع): «قل خيراً وأبلغ خيراً ولا تكن أمعة، قال: وما الأمعة؟ قال تقول: أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إنّ رسول الله (ص) قال: يا أيّها الناس إنّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحب إليكم من نجد الخير».

وعلينا أن نعلم أنّ سبباً أساسياً لدخول جهنم هو عدم إعمال العقول، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك/ 10).

إنّ قوّة الشاب ليس فقط في عضلاته، بل في عقله أيضاً، وقد كان أمير المؤمنين (ع) يقول: «رأي الشيخ أحبّ إليّ من جلد الغلام»، أي إنّ المعركة لا تُقاد بالعضلات فحسب، بل بالتخطيط والرأي الصائب.

العمل سرّ النجاح

المهمّة الثانية المُلقاة على عاتق الشباب هي مهمّة العمل، لكنّ ما الذي نقصده بالعمل؟ إنّ ما نقصده هو العمل على خطّين؛ العمل في سبيل المعاش، والعمل في سبيل المعاد، «اعمل لدُنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً».

أمّا العمل في سبيل المعاش فهو أمر ضروري، والأُمّة التي لا تعمل هي أُمّة فاشلة ومحكومة بالتخلُّف وبالسقوط في مجال التنافس الحضاري، وستبقى عالة على الآخرين، والحقيقة أنّ العمل ليس خياراً من خيارات الأُمّة، بل هو ضرورة لا مفر لها من الأخذ بها وواجب من واجباتها.

الإسلام ومحاربة الكسل

وإدراكاً منه لأهمّية العمل في تقدّم الأُمم، فقد حثّ الإسلام عليه، وشنّ حملة على الكسل والتكاسل والبطالة والدعة، ففي الحديث: «كان رسول الله (ص) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال: هل له حرفة؟ فإن قالوا لا، قال: سقط من عيني، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله (ص)؟ قال: لأنّ المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه»، أي أنّه يحوّل دينه إلى دكان للإتجار به.

إنّ السعادة لا تنال بالأماني، بل بالكد والعمل، عن عليّ (ع): «هيهات من نيل السعادة السكون إلى الهوينا والبطالة»، وعنه (ع): «إنّ الأشياء لما ازدوجت ازدوج الكسل والعجز فنتجا بينهما الفقر»، وعن الباقر (ع): «الكسل يضر بالدِّين والدُّنيا»، ومن الطريف أنّ الإمام الصادق (ع) كان يشكو من الكسل المستشري في زمانه، يقول: «لا تكسلوا في طلب معايشكم فإنّ أباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها»، ولست أدري ماذا يقول مولانا الإمام الصادق (ع) في أهل زماننا هذا الذين زحف إليهم الكسل، وتراخوا واستراحوا للترف واللهو والدعة؟!

الخصومة المفتعلة بين الدِّين والدُّنيا

والأمر الأخطر من مجرد استشراء الكسل هو في اختلال النظرة إلى مفهوم العمل، وتشوّه المفهوم الديني إزاءه لدى قطاعات من أبناء الأُمّة، وتمثّل هذا التشوّه في إيجاد خصومة مفتعلة بين الزُّهد والعمل، أو بين الدُّنيا والآخرة، حيث يتخيّل البعض أنّ الانغماس في العمل يُنافي الزُّهد، وهذه النظرة هي نظرة خاطئة بالتأكيد، فإنّ الإسلام نظر نظرةً متوازنة إلى الدُّنيا والآخرة، «اعمل لدُنياك... واعمل لآخرتك»، بل إنّه اعتبر أنّ العمل في سبيل المعاش ورفع مستوى الأُمّة والتخلُّص من مشكلة الفقر هو من أوجب الواجبات، ومن أهم العبادات، ولذا ترى أنّ الإمام الصادق (ع) سأل عن رجل أصابته الحاجة قال: «فماذا يصنع؟ قالوا في البيت يعبدُ ربّه، قال: فمن أين قوته؟ قالوا: من عند بعض إخوانه، قال: والله، للذي يقوته أشدُّ عبادة منه».

الشباب والتسوّل

وثمة مفهوم إسلامي آخر طاله التشوّه، وهو مفهوم التوكّل، حيث غدا مساوياً للتواكل، فإنّك عندما تطالب البعض وتقول له: لِمَ لا تعمل؟ يجيبك: «أنا متوكل على الله»، أو «الرزق على الله»، وهو في الحقيقة يبرّر كسله وتخاذله بهذه الكلمات التي هي كلمات حقّ يُراد بها باطل. فشعار «الرزق على الله» ليس للكُسالى، وإنّما يرفعه الإنسان وهو داخل ساحة العمل يخوض غماره. والتوكّل على الله أيضاً لا يعني الجلوس في البيوت وانتظار الرزق أو مدّ اليد للآخرين. ألا ترون اليوم أنّ ثمة حالة غريبة في مجتمعاتنا، وهي أنّ بعض الشباب أصبح يمدّ يده للتسوّل، إنّنا نفهم أن يمدّ عجوزاً أو أرملة أو يتيماً يده، أمّا أن ترى شاباً يمدّ يده فتلك مصيبة وحالة مرضية لابدّ من معالجتها.

إنّ الإسلام يرفض إعطاء الزكاة لمن يمتلك القوّة البدنية، ولا سيّما أنّ إعطاءه مرّة تلو الأُخرى يجعله يمتهن التسوّل ويبذل ماء الوجه للآخرين ويعرِّض نفسه لمهانة والمذلة، ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع): «إياكم وسؤال الناس، فإنّه ذل في الدُّنيا وفقر تعجلونه وحساب طويل يوم القيامة».

بالعمل نواجه سياسة الإفقار

إنّ ما نواجهه اليوم من سياسة تعمل على إفقار شعوبنا، هي سياسة لم يسبق لها مثيل، وتهدف إلى تفريغ أُمّتنا من الطاقات ليتمّ استدراج العقول فيها إلى بلاد الغرب، بالرغم من وُفرة الثروات والطاقات التي تملكها هذه الأُمّة بما يجعلها من أغنى الأُمم، ولكنّ السياسة الاستكبارية اعتمدت خطّة تهدف إلى إفقار الشعوب الإسلامية وإشغالها بلقمة العيش، حتى لا تترك لها مجالاً للتفكير في كيفية نهوض هذه الأُمّة.

وأعتقد أنّ الخطوة الأولى التي يجب اتّخاذها في وجه هذه السياسة الإفقارية، هي في أن ننصرف إلى العمل، وأن نخلق فرص العمل، فبذلك نواجه سياسة الإفقار التي تريد إشغالنا بلقمة العيش كما قلت، وتريد أن تنشر في أوساطنا الجريمة والفاحشة، لأنّ أقرب وسيلة لنشر الجرائم وتفكيك المجتمعات خُلقياً واجتماعياً، هي في إفقار هذه المجتمعات.►

ارسال التعليق

Top