• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصدقة.. ثقافة سلوكيّة ومشروع حضاري

أسرة البلاغ

الصدقة.. ثقافة سلوكيّة ومشروع حضاري

الصدقة

ثقافة سلوكيّة ومشروع حضاري

لجنة التأليف ـ مؤسسة البلاغ

 

 المقدمـــة

(لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114).

(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة/ 276).

(إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة/ 271).

الصدقةُ مأخوذة في اللغة من الصِدق.. وهي في تحليلها الواسع كلّ جهد وعطاء طوعي من المال أو من جهد الإنسان أو تعامله الأخلاقي الحسن مع الآخرين، لذا جاء في الحديث النبوي الشريف: "كلّ معروف صدقة".. وسُمِّي القرآن أموال الزكاة صدقة لتحقيق الصدق في بذلها..

والصدقة: وإن فهمت ـ حصراً ـ لدى الكثيرين بأنّها بالمال الذي يعطى تطوُّعاً للمستحق لتلك الإعانة، إلّا أنّ الرسالة الإسلامية بمصدريها: (الكتاب) و(السنّة)، تحدّثت عن الصدقة بأوسع من هذا الفهم وذلك المصداق.. ولأهميّة هذا المشروع (مشروع الصدقة) المالي والأخلاقي والسلوكي والتعبُّدي في الإسلام، كان من الضروري التعريف به والحث عليه.. ولإتساع مفهوم الصدقة في الكتاب والسنّة المطهرة، اخترتا لهذا الكتاب اسم: "الصدقة.. ثقافة سلوكية ومشروع اقتصادي".

نأمل من القُرّاء الكرام أن يستجيبوا لدعوة القرآن وبيان الرسول الكريم (ص) وأئمة أهل البيت (ع) للعمل بمفاهيم الصدقة، كما دعت إليها الرسالة الإسلامية من العطاء المالي والتطوُّع بكلِّ خير ومعروف سلوكي وأخلاقي ليحظى الإنسان بعفو الله ورحمته في الدنيا والآخرة.

نسأله سبحانه أن يتقبّل منّا هذا العمل إنّه سميع مجيب.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

   

مفهوم الصدقة في القرآن الكريم

الصدقةُ في اللغة: الصدقة في الأصل -كما يقول اللغويون- هو ما يُعطى من المال تطوُّعاً، وصار في الشريعة ما يُعطى من المال بقصد القربة إلى الله تعالى.

استعمل القرآن الكريم كلمة (صدقة) و(صدقات) كاسم للمال الذي يُعطى بقصد القربة والتقرُّب إلى الله سبحانه، وسمّى أموال الزكاة صدقة، كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 60)، كما استعمله اسماً للمال الذي يعطيه الرجل للمرأة في زواجه منها.. وهو المهر.. وجاء هذا الاستعمال في قوله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النحل/ 4).

واستعمله في معانٍ عديدة، منها:

(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) (البقرة/ 276).

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء/ 92).

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (يوسف/ 88).

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَات اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114).

لنقرأ هذه المنظومة من النصوص القرآنية، ولنحاول أن نُحلِّل محتوى النص، ونستكشف ما يمكن أن نستنير به من بيان..

إنّ هذه النصوص تُوضِّح: أنّ لفظ الصدقة في أحد معانيه هو اسم للمال الذي يُعطى للمحتاج تطوُّعاً، كما في قوله تعالى: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114).

الآية تستنكر النجوى (حديث السر) بإتجاهه التآمري والهدّام.. وتدعو إلى أن يتناجى الناس بالأمر بالصدقة وبالمعروف وبالإصلاح..

إنّها تدعو إلى الإنفاق المالي، وإلى نشر المعروف والإحسان، وإصلاح المجتمع.. وجاءت الصدقة في هذا النص، وضمن السياق، أحد عناصر البناء الاجتماعي بعطفها على المعروف والإصلاح.. وبذا يُبرز القرآن أهميّة الصدقة لعلاقة المال بالإصلاح ومحاربة الفساد الناتج عن الفقر والعوز.. وسنعرف أنّ الصدقة هي ليست هذا التطوُّع الاستعلائي بالمال من قبل المتبرِّع لتنتج متبرِّعاً مستعلياً، وفقيراً متدنياً، يمد يده لتتلقى ما يلقى فيها من عطاء.. إنّها غير ذلك..

وفي آية تحديد موارد صرف الزكاة.. سمّى القرآن الزكاة صدقة، وإن كانت واجبة وليست إخراجاً تطوُّعياً للمال.. غير أنّ هذا الإخراج ينطلق من دافع تطوُّعي ورغبة في التقرُّب إلى الله تعالى، فهو مال يُنفَق دون مقابل مالي أو معنوي أو أي منفعة أو عوض دنيوي يعود على منفق الزكاة؛ لذا استحقّ أن يُسمّى صدقة.

قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 60).

والقرآن يُسمِّي الموقف الأخلاقي.. موقفُ المعروف والإحسان صدقةٌ وعملُ الخير صدقةٌ، ذلك ما نقرأه في آية تنازل أهل القتيل عن الدية، واعتبارها صدقة منهم على مَن وجبت عليه الدية، لأنّها عفو وتسامح وتنازل طوعي عن المال.. فسمّى العفو والتسامح هنا صدقة.. وفي حديثه عن قصة يوسف (ع)، سمّى تسامحه مع إخوانه صدقة..

إنّ استقراء النصوص القرآنية والنبوية الكريمة.. واستجلاء مفاهيمها.. يوصلنا إلى أنّ الصدقة في مفهومها القرآني الذي أوضحه الرسول الكريم (ص) إنّها تعني الدعوة إلى الجهد الطوعي لبناء المجتمع.. وإنّها تعني نشر القيم الإنسانية والأخلاقية التي تسمو بالإنسان إلى مستوى التعامل البنّاء مع النفس والمجتمع، وتربية النفس الإنسانية على الاهتمام بالآخر، بل والاهتمام بالحيوان المرافق للإنسان في هذه الطبيعة.. وإنها طريق إلى توثيق الصلة التعبُّدية والإيمانية مع الله سبحانه والتقرُّب إليه.. وليست الصدقة -كما يفهمها معظم الناس- إنّها عطاء مادي استعلائي.. يتفضّل به الأغنياء على الفقراء، وكثيراً ما يكون لدى المعطي نظرة استعلائية يتعامل بها مع المُتصدَّق عليه.. وربما صاحب هذا العطاء المنّ على مُستقبِل الصدقة، أو أذى اللسان، لذا حذّر القرآن من هذا الفهم والشعور والتعامل مع الصدقة، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى) (البقرة/ 264)، (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة/ 263).

وبالعودة إلى القرآن، نجده يتحدّث عن الصدقةِ في عنوانين واسعين تحتهما تفصيلات كثيرة.. يتحدّث عن الصدقة المادية، وعن الصدقة المعنوية.. صدقة الإحسان والمعروف بجوانبه الإنسانية، كما في قصة يوسف (ع) وفي آية الإعفاء من الدية.. وعند الانتقال من الكتاب إلى السنّة المطهّرة، نجد الرسول الكريم محمداً (ص) يفيض في اتساع مفاهيم الصدقة في جوانب المعروف والإحسان الإنساني غير المادي، كما أفاض في بيان أهميّة الصدقة المادية وأثرها التعبُّدي والاجتماعي..

وإذاً، فلننتقل إلى رحاب السنّة المطهّرة.. ولنقرأ تعريفاتها الواسعة لمفهوم الصدقة ومصاديقها..

والصدقةُ في مفهوم الشريعة، سواء الواجبة أو المستحبة منها، لا تحل للفقير القادر على الكسب والعمل وتحصيل حاجته المادية، إلا إذا خرج إلى التكسُّب وطلب العمل وسعى في ذلك ولم يتوفر له العمل أو ما يكفيه من حاجته المادية، لئلا ينشأ في المجتمع أُناس عالة على الزكاة الواجبة أو الصدقات المستحبة أو يمتهنون التسول والاعتياش على عطاء الآخرين ومجهودهم وهم يعيشون في أجواء الكسل والترهل.. فالإسلام دين العمل والنشاط والعطاء، وقد ورد عن الإمام موسى بن جعفر (ع): "إنّ الله عزّ وجلّ يبغض العبد النوام الفارغ"[1].. وثمة مسألة إصلاحية هامة، وهي أنّ الشريعة الإسلامية فسحت المجال أمام المتصدِّق في أن يعطي صدقته للناس الذين يرتكبون المعاصي كالسرقة والزنا والرشوة... إلخ، بسبب الحاجة ودافع الفقر، ليتجه المال نحو سد هذه الذرائع ومنعهم من ارتكاب هذه المعاصي، فتكون الصدقة إحدى وسائل محاربة الفساد وإعادة المنحرفين إلى الاستقامة.

مفهوم الصدقة في السنّة النبويّة

-         الكلمــــةُ الطيبِّة.. صدقة:

رُوِي عن النبي (ص) قوله: "الكلمةُ الطيِّبة صدقة، وكلّ خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة"[2].

الكلمةُ هي الأداة والواسطة التي يتعامل من خلالها الناس ويتفاهمون.. فهي أداة نقل الأفكار إلى الآخرين وما يريده الإنسان منهم، لذا كانت الكلمة هي الوسيط في التفاعل الاجتماعي، وبناء الثقافة والحضارة والمعرفة، ومعظم العلاقات بين الناس.. والإنسان يُعبِّر بالكلمة عن موقفه تجاه القضايا والأشياء والناس والآخرين، لذا كانت الكلمة أداة هدم وبناء.

والإنسانُ يتعامل مع الآخر ويفهمه ويُقيِّمه من خلال ما يسمع منه من كلمة، بل ويعتبر الكلمة مُعبِّرة عن الذات وكاشفة عن محتواها.. وما أجمل قول الإمام علي (ع): "تكلموا تعرفوا"[3].

فالذي يطلق الكلمة الطيِّبة التي تشيع الخير والمعروف، وتؤلِّف القلوب، وتصلح بين الناس وتنشر العلم والمحبة والاحترام والسلام، إنما يُعبِّر عن إرادته، ومحتوى ذاته.. فكم من نفس مليئة بالحزن والخوف والألم.. وكم من نفس مليئة باليأس والإحباط، أو الشعور بالاحتقار وعدم الاهتمام والإهمال.. وكم من نفس مليئة بالحقد والغيظ والانتقام.. فتأتي الكلمة الطيِّبة دواءً وعلاجاً لهذه النفوس ونفحة حب وسلام.. تزرع فيها الشعور بالاحترام والثقة والمحبة والأمل.. وتفتح أمامها أُفقاً مضيئاً.. وتُنسي ما كان مؤلماً.. لاسيما إذا صدرت من أُناس يتمتعون بالمكانة الاجتماعية، والقدرة على التأثير، أو يحظون بالاحترام.. كالآباء والمعلمين والأزواج والمسؤولين ووجهاء المجتمع... إلخ.

إنّ الكلمة الطيِّبة تبني الدولة والأُسرة والمجتمع المتحاب والمتفاهم والمتعاون الذي يحل مشاكله بالكلمة والحوار والتفاهم.

يقابل الكلمة الطيِّبة.. الكلمة الخبيثة التي تزرع الحقد والكراهية والكفر والفساد والعدوان والنفور.. أو تنال من الآخرين: كالغيبة والكذب والبهتان والنميمة والسباب والتخاذل... وإلخ، وجاءت هذه المقابلة بين الكلمتين: الطيِّبة والخبيثة، واعتبرها القرآن مثلاً للتذكُّر والوعي والفهم.. جاء هذا المثال والتصوير في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم/ 24-25).

وإذا كانت الكلمة الطيِّبة صدقة، فإنّ السير إلى الصلاة في المساجد صدقة.. صدقة على النفس.. وصدقة على الآخرين.. فالصلاة قربان المؤمن، وعماد دينه وعلاقته بخالقه، والمنقذ له.. والصلاة بعد ذلك تنهى عن الفحشاء والمنكر، لذا فهي صدقة على النفس، كما هي أيضاً صدقة على الآخرين؛ لأنّها تأتي بالخير والمعروف والإحسان لهم وتكف الشر عنهم.. فإنّ هذا المصلي يكون قد تصدّق عليهم بمعروفه وإحسانه، وكف الأذى عنهم بصلاته وروحانيته.. كما تصدّق على نفسه بطاعته لله تعالى.

وما أجمل القول الصادر عن أحد أئمه أهل البيت (ع) عندما تحدّث عن الصلاة بما مضمونه: "إنّ الصلاة تبدأ عندما تنتهي".. أي أنّ الصلاة تتحقق بآثارها التعبُّدية والسلوكية الطيِّبة التي تحدثها في نفس المصلي (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُو) (العنكبوت/ 45).

 

-         الإصلاحُ بين الناس.. صدقة:

المجتمع البشري كالجسم البشري.. يصح ويمرض.. وتنتشر فيه مظاهر الفساد والخراب.. وتبدأ فردية، ثمّ تزداد وتنمو فتتحوّل إلى ظاهرة، ثمّ تستشري تلك الظواهر الهدّامة فتنخر جسم المجتمع وتسقطه.. الإسلام يدعونا لإصلاح المجتمع ومقاومة مظاهر الفساد فيه..

وتتحرّك آفاق الصدقة في أرجاء المجتمع فيعتبر الرسول محمد (ص) الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا صدقة.. إنّ المصلح يتصدّق على الناس بما يُقدِّمه لهم من جهد طوعي، يحل به مشاكلهم، ويصلح أوضاعهم راجياً وجه الله سبحانه؛ ليدفع عنهم الضرر والخلاف والعداوة والمنازعة، وليحل الوئام بدل الفرقة والخلاف، والإصلاح بدل الفساد.

إنّ المجتمع والأُسرة والدولة ومؤسسات الحياة تحدث فيها المشاكل والخلافات والأزمات ويتسلل إليها الخراب والفساد، ولابدّ من إصلاحها..

والقرآن يدعو إلى الإصلاح ومحاربة الفساد.. الفساد العقيدي والاجتماعي والسياسي والمالي والأخلاقي والأمني... وإلخ.

وهذا الحث النبوي على الإصلاح الاجتماعي، واعتباره صدقة؛ لأنّه جهد طوعي يتبرّع به المصلح من وقته وجهده وإمكاناته وموقعه الاجتماعي، وربما من ماله ليقدِّمه إلى الناس بقصد التقرُّب إلى الله سبحانه.

لنقرأ النص النبوي الكريم، ولنتأمل بمضامينه، فإنّه يلقي الضوء على جانب هام من أهداف الرسالة الإسلامية.. وهي تطهير المجتمع من الفساد وإقامة الإصلاح، وبناء جسور التقارب والتفاعل الاجتماعي البنّاء..

رُوِي عن الرسول الكريم (ص) قوله: "صدقة يحبها الله: إصلاح بين الناس، إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم، إذا تباعدوا"[4].

فالدعوة ليس للإصلاح فقط، بل لإحداث التقارب والتفاعل الاجتماعي بين الناس إذا حصلت بينهم القطيعة والتباعد والاعتزال، فإنّ هذه الظواهر وبال على المجتمع وخطر على حركة النمو والاستقرار والسلام فيه.. وبذلك يكتسب المجتمع الحيوية والفاعلية والحركية البنّاءة، وتعمر النفوس بالحب والتعاون بين الناس.

 

-         تعليــمُ العلم.. صدقة:

والعلم في الإسلام هو أساس الإيمان وصنوه (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر/ 28)، الذين يعرفون عظمة الله في خلقه وقدرته وتجلِّيات صفاته.. وقيمة الإنسان في المجتمع ومكانته عند الله سبحانه كما يُحدِّدها القرآن هي بالعلم والإيمان وهي دعوة لبناء مجتمع العلم والإيمان.. والقرآن يُوضِّح هذا المقياس بقوله: (‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏) (المجادلة/ 12).

وتلك الآية الكريمة تُوضِّح قيمة العلم وأهميته وتربط بينه وبين الإيمان.. فالإسلام دين العلم والمعرفة ويدعو القرآن إلى المزيد من طلب العلم وتحصيله (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114).. والمسلمون أوّل مَن فتح باب العلم والفكر والثقافة، منطلقين من دعوة القرآن إلى طلب العلم حتى جاء في البيان النبوي الكريم: "تعلموا العلم فإنّ تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة"[5].

والرسول الكريم (ص) في هذا البيان يعتبر تعليم العلم صدقة، يتصدّق بها العالم والمعلم على الجاهل وطالب العلم، فينقذه من الجهل والانحراف..

فتعلمه وتعليمه عمل تعبُّدي، يُقرِّب الإنسان من الله سبحانه، ويُحقِّق لصاحبه المكانة الاجتماعية المرموقة فيرفعه، كما توضح الآية، درجات عند الله والناس..

وفي النص النبوي الكريم الداعي لنشر العلم والمعرفة نقرأ: "تصدقوا على أخيكم بعلم يرشده، ورأي يسدده"[6]، و"ما تَصدَّق الناس بصدقة أفضل من علم ينشر"[7].. إنّ هذا النص الداعي لنشر العلم والمعرفة وتعميم التعليم ومحو الجهل والأُمّية.. يعتبر ذلك صدقة يثاب عليها العاملون ويؤجرون.

والنص بعد ذلك يوضح إنّ الإنسان، كما يحتاج إلى العلم والمعرفة، يحتاج إلى الرأي السديد، وهو مصداق للعلم والمعرفة بالأُمور ونتائجها.. يحتاجه لتحديد المواقف، واتخاذ القرار، واختيار الأُمور، وفي كلّ مجال من مجالات الحياة.

وليس كلّ الناس يتوفر لديه الرأي السديد، والقدرة على اختيار الصواب من المواقف والقرارات، لذا كان إبداء الرأي السديد والنصيحة والمشورة الناضجة المخلصة تنقذ الإنسان من الخطأ والضياع، بل ومن التخبُّط والدمار أحياناً.. فالإنسان يحتاج إلى الرأي السديد في كلِّ أعماله وقراراته، لاسيما الخطيرة منها.. فالسياسي يحتاج إلى النصح والرأي السديد من مستشاريه وشركائه في المسؤولية لاتخاذ القرارات والمواقف ورسم السياسة العامة للأُمّة والدولة.. وصاحب المال والأعمال يحتاج إلى النصح والرأي السديد في توظيف ماله ومشاريعه.. ومَن يقدم على زواج يحتاج إلى النصح والرأي السديد في اختيار شريك حياته وبناء أُسرته.. وطالب العلم يحتاج إلى مَن يوجهه ويساعده على اختيار مستقبله.. ومَن وقع في أزمة ومشكلة يحتاج إلى رأي سديد ونصيحة تعينه على الخروج من المأزق وحل المشكلة..

وهكذا، فإنّ الحاجة قائمة في كلِّ مجال إلى الرأي السديد والنصح والتسديد..

والبيان النبوي يعتبر إسداء النصح وإبداء الرأي السديد للآخرين صدقة يحبّها الله سبحانه ويثيب عليها.. وهذه المواقف ومَن يقدم النصح والرأي السديد إلى الآخرين تكشف عن إنسانية هذا الإنسان، وسمو روحيته وأخلاقه، وحبّه للخير وحرصه على إنقاذ الآخرين من الخطأ والضرر.. وذلك ما يسعى الإسلام إلى تحقيقه.. بعكس مَن يعمل على إيقاع الآخرين في الخطأ والأزمات والمشاكل؛ ليوظفها ضدّهم، وليستفيد منها؛ ليضر الآخرين، ويُحقِّق لنفسه مكسباً زائلاً، لا يلبث أن يتغلب عليه ويزول معه..

وما أجمل تشخيص الإمام عليّ (ع) بقوله: "الغالب بالشر مغلوب"[8]، مغلوب؛ لأنّه غَلب نفسه فأوقعها في الشر وأرداها، وحمَّلها تبعات فعله الشرير هذا.

 

-         امسك لسانك.. فإنّها صدقة:

وإذا كان القرآن قد جعل على المال صدقة، وعَدَّ كلّ معروف صدقة، فإنّ البيان النبوي لمضامين القرآن يتحدّث عن صدقة اللسان، ويُعرِّفها بأنّها أفضل الصدقة.

اللسان أداة صنع الكلمة، ووسيلة التعبير عما في الفكر والنفس من أفكار ومشاعر وأحاسيس ونوايا.. واللسان قد يصنع الكلمة الطيِّبة الصالحة، كما يصنع الكلمة السيِّئة التي تنشر الأذى والضرر بين الناس، فتقود إلى الفرقة والخلاف وسفك الدماء والعداوة وإسقاط الآخرين.. ونشر الرُّعب والاحباط والتخاذل والفساد السلوكي والإغراء بالباطل والانحراف وإباحة ما ينبغي ستره... إلخ.

والرسول (ص) يجعل على اللسان صدقة، كما جعل على المال صدقة.. واعتبرها أفضل الصدقات.. ويُوضِّح لماذا كانت صدقة اللسان أفضل الصدقات.. كما يُوضِّح أنّ صدقة اللسان هي صدقة لصانع الكلمة على نفسه، لأنّه إن أمسك لسانه عن كلمة السوء، وقى نفسه من المسؤولية أمام الله سبحانه وأمام الناس.. فكم من كلمة شريرة بذيئة جرّت على صاحبها الويل والمشاكل والتبعات، وأصبح ضحية لسانه.. فلو أمسك لسانه عن كلمة الشر والسُّوء والإساءة، بل ولو حفظ سرّه المشروع وقضاياه الخاصة، لما تحمّل الأذى والمشاكل والمسؤوليات وردود الأفعال، لذا كان إمساك اللسان عن إطلاق الكلام بلا حساب صدقة على النفس، قبل أن تكون صدقة على الآخرين..

إنّ الرسول (ص) يحث الإنسان على أن يتصدّق على نفسه ويمسك لسانه عن الكلام السيِّئ والبذيء والشرير، بل والامتناع عما لا يصح كشفه والإفصاح عنه.. وإذاً فلنستمع إلى كلمة الحكمة، كما صدرت عن الرسول (ص): قال (ص): "امسك لسانك، فإنّها صدقةٌ تصدق بها على نفسك"[9].

"أفضلُ الصدقة صدقةُ اللسان، تحقن بها الدماء، وتدفع بها الكريهة، وتجر المنفعة إلى أخيك المسلم"[10].

"أفضل الصدقة صدقة اللسان. قيل: يا رسول الله وما صدقة اللسان؟ قال: الشفاعة، تفك بها الأسير، وتحقن بها الدم، وتجر بها المعروف، وتدفع بها الكريهة"[11].

ما أعظم صدقتك يا رسول الله (ص) على البشرية، وأنت تطلق هذا البيان فتضيء الدرب بأنوار الحكمة والهداية..

 

-          تـركُ الشر.. صدقة:

يتحدّث الرسول (ص) عن نوع آخر من الصدقة على النفس، وهي ترك الشر، فإنّ تارك الشر يتصدّق بذلك على نفسه؛ لأنّه يحميها من الضرر والأذى والتبعات في الدنيا والآخرة.. كما يسلم الناس من شرّه وأذاه.. لذا فإنّ الذي يُفكِّر بارتكاب عمل شرير أو يتمكّن من فعله وتتاح أمامه فرصة ارتكابه، ثمّ يتراجع عن ذلك ويعود إلى رشده ويتركه حماية لنفسه وخوفاً عليها، فإنّ ذلك صدقة يتصدّق بها على نفسه، ويثاب بها.. وهكذا ينطلق من الذات وبدافع ذاتي لحماية الآخرين من شروره وأذاه، فيكف ذلك عنهم.

ذلك ما نقرؤه في هدي النبوة، ووصايا الرسول (ص) حين قال: "على كلِّ مسلم صدقة.. حتى قال (ص): يمسك عن الشر فإنّه له صدقةٌ"[12].

وفي مورد آخر، نقرأ: "كُفَّ شرّك عن الناس، فإنّها صدقةٌ منك على نفسك"[13].

وهكذا تتألق قيم الإسلام ودعوته في محاربة الشر وتطهير النفس والمجتمع من دوافع السلوك الشرير.. كالقتل وسفك الدماء، ونشر الرُّعب والخوف، والتسلُّط على الناس، واضطهاد المستضعفين، واغتصاب أموالهم وأعراضهم، والتغلُّب عليهم بالعنف والقوّة الظالمة... إلخ، وذلك ما تعاني منه البشرية في أرجاء هذا العالم الغارق بالشرور والآثام..

ويشع هذا الهدي النبوي من آفاق القرآن، فنقرأ ذلك في قوله تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* إنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف/ 200ـ 201).

 

-         المشاركةُ في النظافة وحمايةُ البيئة.. صدقة:

يتسامى ويتسع مفهوم الصدقة إلى آفاق ومجالات إنسانية وخدمية وإصلاحية، وأعمال طوعية لخدمة المجتمع، ونشر المحبة والسلام بين الناس، والتجرُّد من الأنانية عندما يتطوّع الفرد أو الجماعة المنظمات والمجموعات لحماية البيئة، وإزالة الأذى عن الطريق، لئلا يقع به الآخرون ويتضرروا.. وإنّ هذه الدعوة لا تهدف إلى المنع من إلقاء الفضلات والقاذورات والمعيقات وتلويث البيئة وإحداث الحفر في الطريق والإضرار بالمارّة فحسب، بل وتدعو إلى التطوُّع لإزالتها وحماية الناس منها.

لننصت إلى ما قاله الرسول (ص) وتوجيهه الإنساني الواسع لمفهوم الصدقة المرتكز على أساسين هما: العمل والعطاء الطوعي.. وترتيب الأجر والثواب الإلهي على ذلك..

قال (ص): "إنّ على كلّ مسلم في كلِّ يوم صدقة، قيل: مَن يطيق ذلك؟ قال (ص): إماطتك الأذى عن الطريق صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وردك السلام صدقة"[14].

 

-         النهي عن المنكر.. صدقة:

إنّها دعوة إلى استمرار العمل الطوعي وتواصله في كلِّ يوم.. هي دعوة لحشد العواطف والإرادات والمشاعر الإنسانية بصورة مستمرة في طريق الخير والإحسان.. وبناء على أوضاع المجتمعات المعاصرة المتطورة، فإنّ تنفيذ هذه الدعوة يحتاج إلى تأسيس المنظمات، ومؤسسات العمل الطوعي "جهد الصدقة" وجمعيات الجهد الخيري للقيام بالنهي عن المنكر، ومحاربة الفساد.. كإطلاق الكلمات البذيئة في الطرقات والأسواق والغش والتلاعب بالأسعار والموازين في الأسواق والغيبة والتجاوز على المصالح العامة والمال العام والكذب والتزوير وعقوق الوالدين والفساد الأخلاقي وتناول المخدرات والمسكرات، وكلّ ما يضر بالصحة والمصلحة العامة.

إنّ النهي عن كلِّ ذلك صدقة يدعو الرسول (ص) المجتمع الإسلامي إلى أن يؤدِّيه، وبآليات ووسائل تناسب الظروف والأوضاع المعاصرة، فيؤدِّيه بصورة فردية أو جماعية مؤسسية إلى جانب ما تقوم به الدولة في هذه المجالات وغيرها.

إنّ قراءة تحليلية في هذا النص تُفهمنا اهتمام الإسلام ببناء المجتمع، والحث على التجرُّد من الأنانية والنزعة المادية، التي جعلت من الإنسان المادي لا يؤدِّي فعلاً ولا خدمة إنسانية إلا إذا حصل على مقابل مادي ومنفعة أنانية.

إنّ الدعوة النبوية تُوجِّه الإنسان إلى خدمة الآخرين وإصلاحهم، وتقديم العون لهم تطوعاً.. رجاء رحمه الله ورضوانه، ومن غير مقابل مادي.. وعندما تشيع هذه الروح الأخلاقية في المجتمع، يتضاءل الاهتمام المادي والنفعية الذاتية أمام الشعور الإنساني والتطوُّع الخيري لخدمة الآخرين.. ومثل هذه النتائج سيعود خيرها على فاعل الخير ومتلقيه والمنتفع منه.

 

-         ردُّ السلام.. صدقة:

ردّكُ السلام صدقة.. إشاعة التحية، تحية السلام في المجتمع تزرع المحبة والاحترام بين الناس، وتُقرِّب بين القلوب والنفوس.. وتكسر حواجز التكبُّر والاستعلاء على الآخرين، لذا كان ردُّ السلام صدقةً.. والقرآن يدعو إلى أن يكون ردُّ التحية بأحسن منها.. أو بمثلها (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أو رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النساء/ 86).. وعندما تتعالى النفوس ويملؤها التكبُّر، وتهمل الآخرين ولا تحترمهم حين يؤدّون التحية، أو يردها بشكل مُزري، فإنّ ذلك يعتبر حالة أخلاقية سيِّئة، تُصوِّر صاحبها بصورة بشعة مقيتة..

إنّ الصدقة يجب أن تؤدّى باحترام وتكريم..

 

-         تبسُّمك في وجه أخيك.. صدقة:

ونقرأ في هدي النبورة أرقى تثقيف حضاري في التعامل الإنساني وفي صفحة المجتمع اليومية حين جعل الابتسامة صدقة.. فجاء في تثقيف السلوك الإنساني هذا المقطع من مفاهيم الصدقة، فكان أخلاقية إنسانية سامية، وروحية مليئة بالحب والمودّة لبناء العلاقات الاجتماعية.. إنّها الحث على إشاعة السرور والابتسامة، وطلاقة الوجه عند الحديث مع الآخر، وعند استقبالهم والتعامل معهم في السوق والبيت ودوائر العمل وقاعة الدرس، وفي كلِّ مجال يلتقي الناس فيه.. ليشعر الآخرين بالسرور به والرضا بلقائه، والاحترام له، والتعاطف معه.

إنّ الابتسامة تُعبِّر عن الحب، وعن الاستعداد النفسي والعاطفي لاستقبال الآخر.. إنّ ترجمة الابتسامة تعني: إنِّي أُرحب بك وأحب لقاءك.. قد يلتقي بعض الناس مع من لهم حاجة عنده أو يتوقف إنجاز عملهم أو قضياهم على مشاركته أو قراره أو إنجازه.. فيستقبل الناس بوجه كالح بائس، وبرؤية معقدة مقطبة.. تزرع الاشمئزاز، وتشعر بالعداء والكراهية.. والتربية الإسلامية تريد أن تصنع الوجه الباسم الوديع، الذي يخفف عن الناس آلامهم، ويزيل قلقهم ومخاوفهم، ويزرع في نفوسهم الشعور بالمحبة والاحترام، لذا كانت الابتسامة صدقة، لاسيما للنفوس البائسة اليائسة القلقة على قضاياها وحوائجها المشروعة، أو التي تبحث عن العلاقة الإنسانية الكريمة في التعامل مع الآخر.

ويذكر كُتّاب السير أنّ الرسول (ص) كان باسم الوجه، لا تفارق الابتسامة وجهه الكريم، بل ويذكر أيضاً أنه (ص) ولد باسماً بخلاف المواليد الآخرين.. فإنّهم يولدون باكين، يتعالى صراخهم..

ثمّ يواصل الرسول (ص) توجيهه الثقافي والتربوي الفريد في بناء الذات والمجتمع الإنساني وحشد المشاعر والعواطف النبيلة إلى جنب الجهد الطوعي لخدمة الآخرين والتعاطف معهم والدعوة الى العمل الإصلاحي للنهوض بالمجتمع، والذوق الحضاري، وحماية البيئة وجمال الحياة.

لنقرأ النص النبوي الخالد كاملاً، ولنستجلي القيم الإنسانية السامية فيه..

قال (ص): "‏تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقةٌ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقةٌ، وإرشادك الرجل في أرض ‏الضلال ‏‏لك صدقةٌ، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقةٌ،‏ ‏وإماطتك ‏الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقةٌ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقةٌ"[15].

وهكذا يتسع مفهوم الصدقة ليشمل إطلاق الابتسامة في وجوه الآخرين، والأمر بالمعروف، وهو دعوة الناس إلى عمل الخير والإحسان، والالتزام بقيم الأخلاق وطاعة الرحمن، ومنع حدوث الفساد ومقاومة الباطل والسلوك المنحرف، فإنّ كلَّ ذلك صدقة يثاب المرء عليها، إذ يعملها تطوُّعاً واحتساباً..

ومن عمل المعروف والإحسان إرشاد مَن ضَلَّ طريقه، ولا يستطيع الاتجاه نحو مقصد مسيره.. في الطرقات البعيدة، وفي الشوارع والأحياء والبراري.. فتلك الخدمة الطوعية، وهذا الإرشاد الإنساني الخيِّر اعتبره الرسول (ص) صدقة.. أمر بها وحثّ عليها، بل ويدعو الرسول (ص) إلى إزالة الأذى عن الطريق.. إزالة الحجر والأوساخ والقاذورات والعوائق، وتلك الدعوة الحضارية تُعبِّر لنا عن اهتمام الرسالة الإسلامية بالنظافة والجمال.. كما تُعبِّر عن العناية بالآخر والاهتمام بالصالح العام والتجرُّد من الأنانية.. أن يتطوّع الفرد لخدمة المجموع، وتوفير راحتهم من غير مقابل مادي، أو اعتراف معنوي.. وفي التوجيه النبوي دعوة إلى إيجاد روح المشاركة في المنافع والتخلص من الاستئثار، وإن كانت تلك الدعوة مجسدة في بيئة المرحلة، إذ كان الناس يستخرجون الماء من الآبار بالدلاء.. فملاك التوجيه النبوي لا يحدد أثره بزمان أو مكان، بل هو دعوة إلى أن يحصل الجميع على المنافع.. وإن كان البعض قد حازها.. والرسول (ص) اعتبر هذا الإشراك صدقة لأنّه معروفٌ، وتطوُّع بالعطاء من غير ثمن.. تلك هي الروح الأخلاقية والثقافة الحضارية التي تشع بها هذه التوجيهات النبوية الخالدة لبناء المجتمع المدني والإنساني المتعاون.

 

-         أفضلُ الصدقة على ذي الرحم الكاشح:

وفي هذا النص النبوي الكريم، نقرأ قيماً ومعاني إجتماعية وأخلاقية عالية تنطلق من قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34).

وهذه الروح الأخلاقية ذاتها نراها في دعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (علي بن الحسين) (ع): "وإن اعفو عمن ظلمني وأعطي مَن حرمني"[16].

التوجيه النبوي في نص الصدقة هنا يركز في ثلاث نقاط، هي: "الأفضل، والرحم، والكاشح".. ولماذا كانت الصدقة على ذي الرحم أفضل من الصدقة على غيره؟ ولماذا كانت الصدقة على ذي الرحم (الكاشح) المعرض عنك، والمقاطع لك، والمختلف معك أفضل من الصدقة على الآخرين، وإن كانوا رحماً لك، ومتواصلين معك؟

إنّ تحليل المضمون الذي انطوى عليه هذا النص يكشف لنا الغاية التربوية، والهدف التثقيفي من هذا التوجيه..

إنّ الهدف الأساس للرسالات الإلهية بصورة عامة، والرسالة الإسلامية بصورة خاصة، هو الإصلاح.. إصلاح الفرد والمجتمع، وتطهيره من العداوة والخلاف والتقاطع، وإشاعة روح المحبة والتقارب بين الناس.. وهذا ما يحققه هذا الفعل.. أن يتصدّق الإنسان بمال أو معروف على ذي رحمه فيشعره بالإحسان مقابل الإساءة، وبالتواصل مقابل القطيعة، وبالمحبة مقابل الكراهية، فيتسامى بذلك التعامل الأخلاقي، وتتقارب القلوب والنفوس وتزال الخلافات وأسباب التقاطع.. فتتحوّل الصدقة إلى أداة ووسيلة لنشر المحبة والإصلاح، وإزالة الضغائن، وتنمية الحسن الأخلاقي، وليست هي مجرد عطاء يقع في أيدي المتسولين، كما يتصوّرها البعض، لذا كانت هي الأفضل لما فيها من آثار ونتائج ومضامين إصلاحية وأخلاقية.

 

-         على كلّ مسلم صدقة:

ويتحدّث الرسول (ص) في هذا النص عن الصدقة مجسدة في سلوك وثقافة إنسانية ومصاديق اجتماعية أخرى، إذ يُوضِّح أنّ على كلّ مسلم صدقة.. فالإنسان يملك مالاً، ويملك طاقة جسدية، ويملك فكراً ومعرفة، ويملك موقفاً بنّاءً، ويملك كلمة، ويملك دوراً اجتماعياً، ومَن يملك المال يساهم مساهمة إنسانية خيِّرة بماله لإسعاف المحتاجين والمعوزين، يقدمه بشكل فردي للمعوز وذي الحاجة.. أو عن طريق المؤسسات والجمعيات الخيرية التي تجمع المال الطوعي وتنفقه في سبيل الله، وفي مجال الخير والبناء والإصلاح والإعمار وحلّ مشاكل المجتمع.. ومَن لا يملك المال والجهد المساعد يملك الكلمة الطيِّبة والابتسامة الصادقة.. ومَن لا يملك هذا وذاك فليمسك عن الشر، وليكف شره عن الناس، فإنّ ذلك صدقة، بل ويعد الرسول (ص) العمل والكسب الحلال وطلب الرزق صدقة، ذلك لأنه يسد حاجته وحاجة عياله، ويعود بالنفع عليه.. ومن ذلك المال يتصدق على مَن لا يستطيع الحصول على المال، أو يساهم بمشاريع الخير والمعروف والإصلاح.

ما أعظم هدي النبوة، وأجمل عطاءها في مجال التربية والثقافة الاجتماعية، وبناء الذات والارتقاء بالسلوك الأخلاقي.. فإنّ الرسول (ص) يدعو المسلم إلى أن يكون عطاءه الخيِّر للآخرين ولنفسه مستمراً في كلِّ يوم، وليس عطاءً منقطعاً، أو عطاء مناسبات.. لنفتح هذه الصفحة النيِّرة ونقرأ ما نطق به الرسول الهادي محمد (ص): "على كلّ مسلم صدقة.. قال: أفرأيت إن لم تجد؟ قال: يعتمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قال: أفرأيت إن لم يستطع؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف، قال: أرايت إن لم يفعل؟ قال: يأمر بالخير، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر، فإنّ له صدقة"[17].

 

-         إسماعُ الأصم.. صدقة:

وتمتد إنسانية الخلق الإسلامي وعواطف المسلم ومشاعره الإنسانية إلى كلِّ معوز وذي مشكلة في الحياة لتقديم العون له، وسد النقص عنده، وإدخال السرور على نفسه.. وفي هذه الدعوة نقرأ القيم الإنسانية السامية في هدي النبوة وروح الرسالة..

إنّ المجتمع البشري فيه المعوّق والأعمى والأصم والأخرس وذو العاهه... إلخ، والآخرون قد مَنَّ الله عليهم بكمال الصحة وتمام العافية.. وهذه النعمة المجهولة عند الكثير من الناس، كما يُنبِّه القول المأثور على ذلك، ويُذكِّر: "نعمتان مجهولتان: الصحة والأمان".. فمن مصاديق الشكر لله على تلك النعمة أن نتصدّق على فاقدها.. وفي التوجيه النبوي الكريم عناية بالأصم الذي لا يسمع.. الذي يعيش معزولاً عن سماع أصوات العالم من حوله، هذه العزلة التي تترك في نفسه الشعور بالألم، وربما بالتوجس والشك والحرمان من معرفة ما يقوله الناس من حوله.. فتأتي دعوة الرسول (ص) إنسانية سامية للعطف على هذا الإنسان وإشعاره بالاحترام والعناية به، إذ يدعونا الرسول (ص) بقوله: "إسماعُ الأصم صدقةٌ"[18].

ونقرأ في نص آخر: "إسماعُ الأصم من غير تضجر صدقةٌ هنية"[19].

ويُذكِّر هذا النص بقوله تعالى: (لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى) (البقرة/ 264).

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة/ 263).

فالصدقة بكلِّ مصاديقها يجب أن تُقدَّم باحترام وشعور روحي وأخلاقي صادق، وبذا ُتعبِّر عن روحية المتصدِّق وشعوره الإيماني، وحسّه الأخلاقي النبيل.

 

-         اللقاءُ الجنسي بين الزوجين.. صدقة:

ويتحدّث الرسول (ص) عن الصدقة، ونراه كلما تحدّث في هذا الموضوع يؤكِّد (ص) على أنّ كلَّ معروف صدقة، وأنّ الأمر به صدقة، وأنّ النهي عن المنكر صدقة.. إنه يكشف في بيانه وتوجيهه هذا عن اهتمام الرسالة الإسلامية بإصلاح المجتمع، ومقاومة الفساد الاجتماعي، والانحلال الأخلاقي وحشد الجهد الطوعي في هذا المجال.. وبما أنّ مشكلة الجنس من المشاكل الاجتماعية المهمة في حياة الإنسان.. فالرغبة الجنسية وغريزة الجنس تعد من أهم الرغبات والغرائز، ولها تأثير كبير في سلوك الأفراد.

تفيد الإحصاءات الطبية والجنائية ودراسات علم النفس أنّ قضية الجنس قضية خطيرة في حياة الأفراد وآثارها الصحية والاجتماعية والأسرية والجنائية تشغل مساحات واسعة من مشاكل المجتمع، لذا نرى التشريع الإسلامي والثقافة الإسلامية بتعاملها الواقعي مع الإنسان في جانبه الغريزي، قد أعطى غريزة الجنس الاهتمام الكبير، وضبطها ونظمها وفتح أبواب الممارسة الجنسية المحللة أمامها وقاية للإنسان من الكبت والحرمان والانحراف والشذوذ.

وفيما سنقرأه من حديث وتوجيه نبوي، نراه يجعل قضية الجنس والعلاقة الجنسية في سياق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ويعد كلاً من ممارسة الجنس المحلل والإصلاح الاجتماعي صدقة؛ لأنّه سدٌّ للحاجة الطبيعية للإنسان، وإصلاح للأسرة والمجتمع.

جاء هذا البيان العلمي والتوجيه الواقعي في الحديث النبوي الآتي: "وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بُضِع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك لو وضعها في الحلال كان له أجر"[20].

وقراءة تحليلية عقيدية لهذا النص تكشف لنا عن بُعد آخر فيه.. وهو العدل الإلهي القاضي بأنّ مَن يمارس الفعل المحرم يعاقب، ومَن يُعرِض عن الحرام ويمارس الفعل ذاته بالطريقة المحللة يثاب، وهذا التوازن في التشريع داعية للإنسان ومحفز له على ممارسة الفعل بالطريقة المحللة.. فترك الحرام استجابه للأمر الإلهي طاعة وعبادة، وفعل المحلل من المنطلق ذاته طاعة وعبادة، لذا كان اللقاء الجنسي بين الزوجين صدقة.

 

-          الوقف.. مشروع اقتصادي وصدقة جارية:

ومن التوجيهات والتشريعات الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية الهامة هو مشروع (الوقف في الإسلام).. ويعتبر الوقف من المشاريع والتشريعات الاقتصادية الهامة التي تساهم مساهمة كبيرة في اقتصاد الأُمّة، وحلّ المشاكل الاجتماعية والعلمية والخدمية والاقتصادية المعضلة.. والوقف ظاهرة خيرية ومشروع اقتصادي طوعي تعبدي منذ عهد النبوّة.. والوقف من مشاريع الاقتصاد الإستراتيجية التي تقوم على أساس نظرية التطوع المادي لتحقيق النفع العام، وتحرير الملكية الخاصة، وتحويلها إلى منفعة عامة.. وعلى مرّ الزمن تراكمت هذه الأموال وتحوّلت إلى ثروة ضخمة واسعة.. وهي مستمرة في النمو والتوسُّع.. يدر على مشاريع الخير ويُموِّلها.. لتكون مصدراً اقتصادياً..

وحجم الوقف في العالم الإسلامي يُقدَّر بالعديد من الترليونات من الدولارات، وهو ثروة ذات نفع عام مساهم مساهمة فعّالة في خدمة العلم وبناء المدارس والجامعات، وتوفير الخدمات، وإغاثة المعوزين وحمايتهم من التشرُّد والضياع بتوفير المال لهم والإنفاق عليهم.. ومن المفيد أن نُعرِّف بإختصار بصدقة الوقف.. مما ورد عن الرسول (ص) في الحث على الوقف واعتباره صدقة جارية قوله (ص): "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا من ثلاثة: من صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له"[21].

والوقفُ في اللغة مأخوذ من الفعل (وقف) ومعناه: الحبس والمنع. وهو في اصطلاح الفقهاء: "نوع من العطية، يقضي بتحبيس الأصل وإطلاق المنفعة"[22].

ويقصد بالأصل: المصدر الأساس للمنفعة.. كالأرض والبستان والدكان والبيت والمصنع والمستوصف والمستشفى وغير ذلك..

ومعنى تحبيس الأصل: إخراجه من ملكية المالك ووقفه على الجهة التي يريد المالك إطلاق المنفعة وإيصالها لها بشكل مؤبد وغير محدود بزمن.. كطلاب العلم والأيتام والمرضى والفقراء وذرِّيّة صاحب الوقف والمسجد... إلخ، وبذا تكون المنفعة مطلقة للجهة التي أرادها الواقف للأصل.

أمّا الأصل، فيبقى وقفاً لا يصح أن تجري عليه أي معاملة من معاملات التملك أو نقل الملكية.. كالبيع[23] والهبة والوصية والهدية والميراث... إلخ.

والوقفُ صدقةٌ جاريةٌ يجري وفق إرادة الواقف، ويصح أن ينتفع به غير المسلمين، أيضاً وإن كان الواقف مسلماً.. ويقسم الفقهاء الوقف إلى قسمين حسب الموقوف عليهم، وهما:

1.   الوقف الخاص: وهو الوقف الذي يوقفه المالك على جهة محددة.. فتكون هي الجهة المستفيدة فقط ولا يحقّ لغيرها الاستفادة من ذلك الوقف، مثل أن يوقف البستان على مدرسة علمية معيّنة، أو على ذرية الواقف أو على مسجد معين... إلخ.

2.   الوقف العام: وهو الوقف الذي يطلق فيه المنفعة للجميع من غير تحديد.

 

-         الحبسُ.. والفرق بينه وبين الوقف:

ويُفرِّق الفقهاء بين الوقف والحبس.. فالوقف هو تحبيس الأصل بشكل مؤبد وغير محدد بزمن.. أمّا إذا حدد الوقف بزمن، فهو التحبيس.

والأوقاف ثروة هاثلة في العالم الإسلامي منذ عهد النبي (ص).. فقد كان لرسول الله صدقة موقوفة.. وكان لأهل بيته صدقة موقوفة، وكان لأصحابه المتمكنين صدقات موقوفة.. وتراكمت على مرّ الأجيال والقرون الأوقاف كصدقات جارية ساهمت مساهمة فعّالة في تنمية العلم والثقافة، وإنشاء المستشفيات وإيواء الأيتام والمرضى ومساعدة الجيوش الإسلامية، وتوفير الخدمات كالمياه والقناطر والجسور.. وغيرها.

وهذه الثروة، ثروة الأوقاف (الصدقات الجارية) بحاجة إلى استثمار علمي وإداري وخبروي كفوء ومتطور.. لتساهم في التنمية العلمية والثقافية والاقتصادية، وتوفير الخدمات وإسعاف المعوزين والمحتاجين، وتشغيل الأيادي العاملة وتوفير فرص العمل لها.. فهي بحاجة إلى إخراجها من البعثرة والعفوية والإهمال والجمود، وإدخالها في مجال الاستثمار والتوظيف الاقتصادي المنتج..

وجدير ذكره أنّ العالم الغربي الذي تعلم من المسلمين قوانين الأوقاف قد استثمر أوقافه استثماراً اقتصادياً منتجاً.

 

-         قولُ الحقّ.. صدقة:

بُني الإسلام على الحقِّ والعدل.. وبالحقِّ نزل الكتاب، قال سبحانه: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء/ 105).

الصراع بين الحقِّ والباطلِ قائم منذ فجر الحياة، وتشكيل مجتمع الإنسان.. والإسلام جاء كما هي الرسالات الإلهية الأخرى، ليحقّ الحقَّ ويبطل الباطل.. وحين ينتشر الباطل ويسود.. وهو من أشد المنكرات التي يجب إنقاذ المجتمع الإنساني منها..

وحين يتوارى الحقُّ وتضيع الحقوقُ على مستوى الفرد والمجتمع والدولة والعلاقات الدولية، فتتدنى قيم الإنسان الأخلاقية والسياسية والاجتماعية..

يدعو الإسلام، بل ويلزم ويأمر، بإحقاق الحقّ.. وأن تقال كلمة الحقِّ في كلِّ مجال.. في مجال القضاء والسياسة والفكر والفتوى والمجتمع... إلخ.

عندما يسيطر الظلم والإرهاب والاستبداد والطغيان السياسي والفكري والاجتماعي، يسيطر الخوف على الناس، ويكثر النفاق في ضعاف النفوس، وتنشط الانتهازية والممالئة للباطل والتزلف للمبطلين.. فلا أحد ينطق بكلمةِ الحقِّ مع وضوحها، ولا أحد يردع الباطل والمبطلين إلا قليل من المصلحين..

والرسالة الإسلامية بعقيدتها وفكرها وتشريعها وقيمها توجب قول الحقّ، والوقوف إلى جانبه، مهما كلف الإنسان هذا الموقف العقيدي الشجاع، والأخلاقي النبيل، وقليل ما هُم.. يُذكِّرنا في هذا المجال قول الرسول (ص): "سيِّد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره فنهاه فقتله"[24].

إنّها دعوة إلى النطق بكلمةِ الحقِّ في مجال الفكر والسياسة والقضاء والمجتمع، وإن كلف الإنسان حياته.. فشهيد كلمة الحقّ، هو سيِّد الشهداء، وهو الطليعة الأخلاقية والقيادية في الأُمّة.. والرسول (ص) اعتبر قول الحقّ أفضل الصدقات وأعظمها لعظم أثرها في الحياة.

رُوِي عنه (ص) قوله: "ما مِن صدقة أفضل من قولِ الحقِّ"[25].

وفي حديث آخر، يعتبر الرسول (ص) نفقة اللسان أحب إليه من نفقة المال، إذ ينفق كلمةَ الخير، التي تصلح المجتمع، وتحلّ مشاكله، وتهدي الضال، وتدل على فعل الخير وتحول دون الفساد والانحراف.. وذلك ما تعجز صدقة المال عن تحقيقه، لذا تراه (ص) يُقسم على ذلك، ويؤكد بقوله الكريم (ص): "والذي نفسي بيده ما أنفق الناس من نفقة أحبُّ إليَّ من قولِ الخير"[26].

فقول الحقِّ وقول الخير هو القول الذي يجب أن ينطق به المسلم.. وتلك خلق الكلمة المسلمة البنّاءة نتلقى عطاءها من نفحات النبوة.

 

-         عونُ الضعيف.. صدقة:

وتلك حكمة الله في الخلق.. التفاوت في الطاقات والقابليات والإمكانات.. ففي هذا المجتمع الإنساني يوجد القويّ، وفيه الضعيف.. القويّ بجسده، وماله ومكانته الاجتماعية.. والضعيف بجسده وبدنه، وربما بعقله وبوضعه الاجتماعي.. ففي هذا المجتمع نجد الطفل الذي لا ملجأ، له والشيخ الطاعن في السن، والمريض الذي لا يقوى على السير أو الجلوس، بل ونجد القويّ في بدنه الضعيف المستضعف في مجتمعه الذي لا يستطيع إنقاذ حقّه أو الدفاع عن نفسه.

والقرآن يدعو إلى نصرةِ الضعيف والمستضعف.. والرسول (ص) جعل عون الضعيف صدقة.. إنّ المجتمع المتعاون الذي يعين فيه القويّ الضعيف وينتصر له.. لا يشعر أحد فيه بالضياع والانسحاق، بل يشعر بالتعاطف معه والاهتمام به، ويشعر إنّه قويّ بتعاطف الآخرين معه، فلا يتجاوز عليه أحد، ولا يضيع له حقّ.. إنّ المجتمع الذي يأكل فيه القويّ الضعيف، هو مجتمع الغاب الذي لا يعرف الرحمة، ولا الأخلاق، بل يفترس الذئب فيه الغزال، والصقر الحمام، والنسر العصافير..

ويتحدّث الإمام الكاظم (ع) -حفيد الرسول (ص)- عن إعانة الضعيف ومساعدته، فيقول: "عونك للضعيف من أفضل الصدقة"[27]، وهو بهذا البيان يترجم هدي القرآن وإرشاد النبوة.

إنّ عونَ الضعيف، ليس صدقة فحسب، بل هو من أفضل الصدقات وأعظمها أثراً في المجتمع، وأجراً عند الله سبحانه.. وبهذه الأخلاقية يتحقق التوازن والاستقرار والسلام الاجتماعي.. وتسود الرحمة والمحبة، وتصان الحقوق.

 

-         إطعامُ الحيوان وسقيه.. صدقة:

وأخلاقية الإسلام وروحيه الرحمة وعنايته شاملة لكلِّ مخلوق على هذه الأرض.. الإنسان والحيوان، بل وحتى الزرع والشجر والطبيعة وعالم البيئة.. ففي الهدي النبوي نجد القيم المدنية، والثقافة الحضارية، والسمو الإنساني الفريد.. فالعناية بالحيوان والطير، وتوفير الماء والطعام له صدقة، ما هي في عالم الإنسان..

هذا ما نجده في الخلق النبوي السامي والذي نراه مجسداً في موقف نبوي كريم حدّثنا عنه الإمام علي (ع)، قال: "بينا رسول الله (ص) يتوضأ، إذ لأذن به هر البيت، وعرف رسول الله إنه عطشان، فأصغى إليه الإناء حتى شرب منه الهر، وتوضأ بفضله"[28].

وفي التثقيف النبوي الداعي إلى احترام الحياة على هذه الأرض بكلِّ أشكالها، ورعايتها ليس في عالم الإنسان فحسب، بل وفي عالم الحيوان.. فالرحمة للجميع، والرسول محمد (ص) بُعث رحمة للعالمين.. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).

ذلك ما نقرأه في الحديثين النبويين الآتيين.. روى عنه (ص) قوله الكريم: "بينما رجل يمشي بطريق، إذ اشتدّ عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها، فشرب وخرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ منِّي، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، فقالوا: يا رسول الله و إن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كلّ ذات كبد رطبة أجر"[29].

إنّ في هذه القصة التي نقرؤها تجسيداً لمعاني وقيم إنسانية يدعو لها الإسلام بلسان النبوة.. ففي هذا الحديث صوّر لنا إنسانية هذا الإنسان، وعواطفه النبيلة تجاه الحيوان.. وإنه قال في نفسه: "لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغني".. إنّ الحديث يخاطب ضمير الإنسان بهذا الضمير الحي الذي شعر بآلام الكلب ومعاناته من العطش، ليتعظ المتلقي لهذه القصة، كلما واجه جائعاً أو عطشاناً، إنساناً كان أو حيواناً، فيتعاطف معه بإحساسه الوجداني، وليعرف إنّ الأحياء جميعها -الإنسان والحيوان- يتألمون، كما يتألم هو، ويحتاجون إلى العون، كما يحتاج هو.. بل وفي القصة ضرب من العناية والكلفة لإنقاذ الكلب من العطش.. فالرجل نزل البئر وملأ الخف وامسكه بفمه..

وفي القصة مفاهيم ومضامين حري بنا أن نقف أمامها، ففيها: "فشكر الله عزّوجل له"، "فغفر له".. إنّ القصة تتحدّث عن شكر الكلب لله تعالى على هداية هذا الرجل له؛ ليسقيه الماء في شدّة العطش.. إنّ الكلب يشكر المعروف من خالقه.. والله يعلم لغة خلقه جميعاً.. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/ 44).

فيستحق صانع المعروف لهذا الحيوان الشكر والمغفرة.. والمغفرةُ جزاء لا يكون إلّا لعمل الخير.. إنّ الحادثة تجعل من هذا العمل وسيلة لمغفرة الذنوب واستحقاق الأجر من الله سبحانه؛ لأنّها عملٌ معروفٌ لخلق الله.. وتوظيف طوعي لطاقة الإنسان لتقديم العون لهذا المخلوق الضعيف العاجز عن تحصيل الماء.. فاستحق هذا الإنسان العفو الإلهي مقابل شعوره بالرحمة والعطف على هذا الحيوان، وتلك صدقة.. وفي بيان ذلك صدقة أخرى من هدي الرسالة.. نلتقي بعناية الرحمة النبوية بالحيوان، وبمصاديق آخر للصدقة.. فكلّ معروف هو صدقة.. في مشهد حواري يفيض بالروح الإنساني، وبأخلاقية الرحمة نقرأ: "إنّ رجلاً جاء إلى رسول الله (ص)، فقال: إني أنزع في حوضي حتى إذا ملأته لأهلي، وردَّ عليَّ البعير لغيري، فسقيته، فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال رسول لله (ص): في كلِّ ذات كبد حرّاً أجر"[30].

والأجر لا يكون إلا على فعل الخير والمعروف، وهو صدقة.. وهذا الإنسان المتطوِّع بجهده وماله ليسقي البعير من عطش، يستحق الأجر والجزاء الحسن فالأجر في كلِّ ذي كبد حرّاً.. في كلِّ إنسان وحيوان نقدم له العون والمساعدة ونخفف من آلامه ونقوم بسدّ حاجته..

وتتسع روحية الدعوة الإسلامية وأخلاقيتها وشريعتها في خطابها للفلاح المغارس، الذي يغرس غرساً فيأكل منه الطير والإنسان والحيوان.. وربما تأذّى الفلاح والمغارس حينما يرى الطير والحيوان يأكل من غرسة أو زرعة، أو يشاهد بعض المارة يقتطف منها شيئاً بالمعروف.. والثقافة الإسلامية ترتقي بالوعي والعلاقة مع المخلوقات والتعامل معها.. وتوسع دائرة الإحسان والمعروف لتشمل الطير والحيوان، بل وصّى الإنسان الذي قد يستفيد من نتاج بعض المغروسات.

سجل الرسول محمّد (ص) لنا هذه الأخلاقية العظيمة.. أخلاقية الكرم والتعايش مع المجتمع الإنساني ومع الحيوان والنبات.. فيثقف الإنسان ويدعوه إلى قبول ما يحصل عليه الآخرون من إنسان وكذا الطير والبهائم من منافع تنتج من جهده ليشملها بعطائه المادي، ويعتبرها صدقة له، لأنّها استفادت من جهده دون مقابل، فليرضَ بذلك، ولا يسخط ولا يغضب..

جاء هذا البيان النبوي الكريم في قوله (ص): "ما من مسلم يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً، فيأكلا منه طير أو إنسان أو بهيمة إلّا كان له به صدقة"[31].

وفي توجيه نبوي آخر نقرأ: "ما تأكله العافية فصدقة"[32].

 

-         كلّ معروف يحمي الكرامة.. صدقة:

وللإنسان عرض وكرامة، وسمعة بين الناس، وفي أوساط المجتمع.. والله سبحانه كرّم الإنسان وحفظ له كرامته.. جاء هذا التكريم في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).

ويأتي التثقيف النبوي داعياً الإنسان إلى أن يقي عرضه[33] وكرامته واعتباره بين الناس.. فالإسلام دين الخلق والقيم، وحريص على حماية العرض والكرامة للإنسان.. والإسلام كما يدعوه إلى كف الشر والأذى عن الآخرين، فلا يعتدي على أحد.. فيكف الناس عنه أذاهم.. فإنه يدعوه إلى فعل المعروف إلى الآخرين ليحمي كرامته وسمعته وعرضه، فلا ينظر له الناس بأنّه لئيم، أو جشع، أو أناني، أو بخيل، أو جبان عندما يمتنع عن مساعدتهم، أو تقديم العون لهم، أو مشاركتهم بفعل الخير... إلخ، فإن فَعَل المعروف ووقى عرضه، وربما صنع المعروف إلى البعض ليكف اعتداءهم عليه، فإنّ ذلك له صدقة تَصدَّق بها على نفسه..

جاءت هذه العناية بكرامة الإنسان وعرضه، وكلمته في قول الرسول محمد (ص): "كلُّ معروف صدقةٌ، وما وقي به المرء عِرضه كتب له به صدقة"[34].

 

-         الصدقـةٌ في عطاء الرب:

(أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة/ 104).

تحدّث القرآن الكريم عن الصدقة وعن المتصدِّقين وأعظم لهم الثناء والأجر الجميل.. والقرآن في هذه الآية الكريمة يُوضِّح أنّ الله سبحانه هو الذي يأخذ الصدقة ويتقبّلها، لذا جاء في الأحاديث النبوية أنّها تقع بيد الرب.. وهذا التعبير القرآني هو تكريم للصدقة وللمتصدقين، إذ يتسلمها الله من أيديهم ليضعها في يده.. ذلك لأنّها التعبير الإنساني عن حب الخير والتجرُّد من الأنانية، والتطوُّع بالجهد، استجابة لأمر الله تعالى..

جاء في تفسير هذه الآية أنّ الصدقة تقع بيد الله سبحانه، وأنه يُرْبي الصدقات وينمِّيها.. والقرآن تحدّث في تنمية الصدقة، وفي محق الربا الذي يبتز الناس ويستغل حاجتهم، فيمتص دماءهم ويُدمِّر اقتصادهم.. ذلك ما نقرأه في قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة/ 276).

وقد شاهدنا في الأعوام الأخيرة تدهور الاقتصاد العالمي المعتمد على النظام الرأسمالي والبنك الربوي وإفلاس الكثير من الشركات والمصارف العملاقة وارتفاع مديونية العديد من دول العالم بسبب النظام الربوي وتراكم الفوائد الربوية.. فبدأ العالم يبحث عن نظام اقتصادي بديل، فلم يجد أفضل من نظام الاقتصاد الإسلامي ونظام البنك الإسلامي المعتمد على الاستثمار بدلاً من الربا الذي ينتهي إلى المحق والسقوط، كما يُوضِّح القرآن..

والصدقة تحتاج إلى النية الخالصة لله تعالى؛ لتكون عملاً عبادياً يستحق صاحبه الأجر والثواب، وأن يقابل هذا العمل بالعفو والرحمة الألهية..

ويتحدّث الرسول الكريم (ص) عن أثر الصدقة في الدنيا والآخرة.. فهي كما جاء في حديث الرسول (ص): "إنّ الصدقة لتطفئ غضب الرب"[35].

ووصفها الرسول (ص) بقوله: "الصدقة جُنةٌ من النار"[36].

وللصدقة آثار وضعية عظيمة في عالم الإنسان.. فالإنسان مُعرّض في حياته إلى أنواع البلاء والمصائب والمشاكل.. والصدقة بفضل الله تعالى تدفع البلاء والقضاء.. فالبلاء الذي يحيط بالإنسان، والذي ثبت في عالم القضاء، لابدّ وأنّه واقع عليه.. هذا البلاء وتلك المصائب لا يدفعها إلا الدعاء والصدقة..

جاء في الحديث الشريف: "الصدقةُ تدفع البلاء، وهي أنجع الدواء وتدفع القضاء، وقد أبرم إبراماً، ولا يذهبُ بالداءِ إلّا الدعاءُ والصدقةُ"[37].

ومن آثار الصدقة في حياة الإنسان إنّها تدفع عنه ميتة السوء، كالغرق والاحتراق والاختناق وافتراس الحيوانات وحوادث السوء... إلخ.

ويتحدّث الرسول الكريم محمد (ص) عن الآثار العظيمة للصدقةِ في حياة الإنسان، فيقول: "تصدّقوا وداووا مرضاكم بالصدقة، فإنّ الصدقة تدفع عن الأعراض والأمراض، وهي زيادة في أعماركم وحسناتكم"[38].

وورد في الحديث الشريف أيضاً: "داووا مرضاكم بالصدقـة"[39].

إنّ المتصدِّق يدفع بصدقته عن نفسه، وعمّن يتعلق به من أسرته أنواع البلاء، ويطلب لها الوقاية من الشرّ والأذى.. والصدقة كما في الحديث النبوي الكريم تطيل العمر، لأنّ المتصدِّق يهب العون لحياة الآخرين السويّة، فيهبه الله مَدَد خير في عمره، إذ جعل عمره في عطاء الخير والإحسان.

ويتحدّث الرسول (ص) عن الصدقة أنها تزيد في الرزق والعطاء الإلهي، وذلك مصداق قوله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مَائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 261).

والمؤمن بالله الذي يعتقد إنّ الأُمور جميعها بيد الله سبحانه، ويعرف فضل الصدقة وقدرها عند الله سبحانه وآثارها في حياته وآخرته؛ لَيكثر من الصدقة، وهو مطمئن إلى وعد الله، وأنّ الله يضاعف له العطاء.. وهذا الإيمان الصادق هو الذي دفع المسلمين إلى بذل الأموال، والإكثار من الأوقاف، وجعل الصدقة جُزءاً من مشروع الإنسان الحياتي.. فالكثير من الناس قد خصص مبلغاً محدداً يومياً أو شهرياً أو سنوياً، أو حصة محددة من موارده وممتلكاته لتكون صدقة ينفقها في مجالات الخير والمعروف والإحسان؛ وبعضهم أوقف بعض ممتلكاته؛ لتنفق في سبيل الله في حياته أو أوصى بها بعد وفاته.. وربما أوقفها البعض إن لم يكن له وارث[40].

ذلك ما يُوضِّحه الرسول الكريم محمد (ص) بقوله: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا من ثلاث: إلّا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له"[41].

ويتحدّث الإمام عليّ (ع) عن الإيمان وصدقة السر والعلن وأثرها في الدنيا والآخرة، فيقول: "إنّ أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله، وصدقة السر فإنّها تكفّر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء"[42].

وذلك مصداق الآية الكريمة: (إِنْ تُبْدُوا[43] الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة/ 271).

وفي سيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، نرى تطبيقاً عملياً لهذه الأخلاق والأحكام الإسلامية.. فقد كان الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).. أنّه كان يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره حتى يأتي باباً باباً، فيقرعه، ثمّ يناول مَن كان يخرج إليه، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه"[44].


[1]- الكافي، ج5، ص84، ح2.

[2]- المجلسي، البحار، ج83، ص369.

[3] - نهج البلاغة، حكم392.

[4]- الكليني، الكافي، ج2، 209.

[5]- القرطبي، جامع بيان العلم وفضائله، ص66.

[6]- المجلسي، البحار، ح96، ص182.

[7]- المتقي الهندي، كنز العمال، الحديث 28809.

[8]- نهج البلاغة، الإمام علي (ع)، جمع صبحي الصالح، قصار الحكم، رقم 327.

[9]- الكليني، الكافي، ج2، ص114.

[10]- السيد نعمة الله الجزائري، قصص الأنبياء، ص188.

[11]- المجلسي، البحار، ج76، ص44.

[12]- المتقي الهندي، كنزالعمال، ج7، ص163.

[13]- نفس المصدر السابق.

[14]- المجلسي، البحار، ج96، ص134.

[15]- المتقي الهندي، كنز العمال، الحديث 16305.

[16]- دعاء مكارم الأخلاق.

[17]- المتقي الهندي، كنز العمال، الحديث 16307.

[18]- المتقي الهندي، كنزل العمال، الحديث 16303.

[19]- المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص388.

[20] - صحيح مسلم، المجلد الرابع، باب كلّ نوع من المعروف صدقة، ص 93.

[21]- صحيح مسلم، ج3، ص125.

[22] - العلامة المرحوم محمد جواد مغنية، فقه الإمام جعفر الصادق (ع)، ج5، باب الوقف.

[23] - يصح بيع الوقف في حالات خاصة عدا المساجد والأراضي الخراجية، فلا يصح بيعها مطلقاً وقد بين الفقهاء حالات جواز بيع الوقف فلتراجع في كتب الفقه المختصة.

[24]- مستدرك الحاكم، ج3، ص195. كنز العمال، ج11، ص675.

[25]- المحاسن، ج1، ص78.

[26]- بحار الأنوار، ج71، ص311، ح8.

[27]- الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص414.

[28]- يراجع الشيخ عباس القمي ـ كحل البصر في سيرة سيد البشر، ص 99، مؤسسة الوفاء ـ بيروت.

[29]- مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص517، دار صادر- بيروت.

[30] - المصدر السابق.

[31]- مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص147، دار صادر-بيروت.

[32]- الراغب الإصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، كلمة عفا.

[33] العرض: البدن والنفس، وما يمدح ويذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو سلفه، أو من يلزمه أمره، المعجم الوسيط.

[34]- المجلسي، البحار، ج96، ص183.

[35]- كنز العمال، ح 161143.

[36] - الوسائل6، 258/17. البصائر، 31/4.

[37] - بحار الأنوار، 96/132.

[38]- الصحيح الجامع.

[39] - نفس المصدر السابق.

[40]- لا يحق للشخص أن يوصي بأكثر من ثلث ماله لينفق في الخير بعد وفاته، وإن فعل ذلك فلا ينفذ الزائد عن الثلث إلّا بموافقة الورثة.

[41]- صحيح مسلم، ج3، ص125.

[42]- نهج البلاغة، الخطبة 110.

[43]- ورد عن الإمام الباقر (ع) تفسير هذه الآية: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ... يعني الزكاة المفروضة).. وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ... قال: يعني النافله – أي الصدقة المستحبة، فانّه يستحب كتمانها -، الكليني، الكافي، ج4، ص60.

[44]- المجلسي، بحار الأنوار، ج46، ص88.

ارسال التعليق

Top