• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصوم.. ربيع العبادة

أسرة البلاغ

الصوم.. ربيع العبادة

  الصيام هو عبادة متميزة بالإخلاص؛ لأنّه كفّ النفس عن الشهوات واللذائذ المحلّلة والمحرّمة من دون تظاهر أو إبراز أمام الآخرين، فهي متمحّضة في الإخلاص. وقد جعل الله هذا الصيام الواجب في أفضل زمن وأحسن ظرف، هو شهر رمضان وهو شهر نزول القرآن فزاد إلى فضله فضلاً وقرنه بالذكر والدعاء والاعتكاف والانفاق وتلاوة القرآن ليثمر التقوى بأحسن صورها وأسمى أشكالها وأعلى مراتبها. من هنا كان رمضان – وهو شهر الصيام وشهر القيام وشهر الذكر وشهر الانفاق – ربيع العبادة، وشهر الضيافة الإلهية الخاصة للمخلصين من عباده، إنّها ضيافة روحية متميّزة، طعامها الذكر والتوجّه والحبّ والاستغراق في الله، وهي نشاطات قلبيّة تصقل بها الروح لتنطلق إلى بارئها وخالقها ومربّيها الكامل المطلق.  ومن المعروف أنّ الإنسان بحاجة ماسّة إلى التربية الشاملة والمستمرّة مدى الحياة. وأنّ هذه التربية إنّما تتحقق عبر برنامج شامل لكل مجالات الحياة ولكل مراحلها. وهذا البرنامج التربوي في الإسلام هو برنامج عبادي عام ويتضمن برنامجاً عبادياً خاصّاً. والبرنامج العبادي الخاص يتحقق عبر أنواع من العبادات والشعائر التي يعيّنها المعبود الحق الذي يعلم مَن خلق، وكيف خَلق، وكيف يوصل ما خلق إلى الأهداف المرجوّة والمنظورة من خلقه. فالإنسان الذي يتشوّق إلى الكمال ويتطلّع إلى السعادة الحقيقية يتطلّع إلى البرنامج الإلهي الذي أخبر عنه تعالى في محكم كتابه حين قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). وقد قال الله تعالى عن ما تمضمّنه القرآن من الهدى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9). ويعتبر شهر رمضان فصلاً جامعاً لأصناف العبادات الخاصّة التي تعطي للشهر المبارك طابعاً يتفرّد به هذا الشهر عن سائر الشهور. وقد عبّر الرسول الأعظم (ص) عن ما تميّز به هذا الشهر الفضيل بأنّه شهر "دُعيتم فيه إلى ضيافة الله"، فكانت ميزته أنّه شهر الضيافة الإلهية للإنسان. إنّ تسميته بـ"شهر الله" أو "شهر الله الأعظم" بالرغم من أن كلّ الشهور هي شهور الله وكلّ الأزمنة هي لله سبحانه – إذ لا يخرج شيء عن سلطان الله – إنّما هي باعتبار هذه الإضافة التي تعبّر خصائص وميّزات لهذا الشهر لا يمكن أن نجد مثيلاً لها في سائر الشهور. وبما يحمله هذا الشهر من قرب خاص للإنسان تجاه ربّه، وأعمال يقوم بها خالصة لوجهه الكريم، واستيعاب لنشاطات الإنسان المؤمن، وتوجّه مباشر للإنسان إلى عالم الآخرة، وابتهال ودعاء وإنابة متواصلة في ليالي هذا الشهر وأيّامه وساعاته، تصبح كلّ لحظات الإنسان في هذا الشهر عامرة بالذكر والتسبيح. ومن هنا أصبحت أنفاس المسلم في أيام هذا الشهر تعدّ تسبيحاً، ونومه يعدّ عبادة، وبذلك تسمو روح المؤمن إلى الملأ الأعلى وإلى بارئها، سموّاً متميزاً بالكيف والكم وانطلاقاً وتحرّراً من عالم المادة إلى عالم المعنى؛ بحيث تكون كلّ لحظات حياته مستثمرة في طريق الكمال ان أراد الإنسان ذلك. ومن هنا كانت هذه الخصائص التي خصّ الله بها هذا الشهر الكريم وعبّأها فيه تعبيراً عن غذاء روحي وموائد معنوية تتغذى بها روح المؤمن وترتقي، بسببها في سلّم الكمال وطريق الخلود. وهذه هي الضيافة الربّانية التي جعلت من هذا الشهر شهر ضيافة خاصّة لا نجد مثلها في سائر الشهور. وقد عبّر البعض عن هذه الضيافة بأنها ضيافة الروح لا الجسد، ولكن نصّ الحديث النبوي الشريف لا يأبى أن تكون هذه الضيافة شاملة لكل أبعاد وجود الإنسان من دون اختصاص بالروح فقط، وان كانت الروح هي التي يُراد لها أن ترتقي ولكن عبر الجسد ومن خلال الغرائز والشهوات التي قد زوّد بها وجود هذا الإنسان. ومن هنا نقول: إنّ الصحة التي جاءت في حديث الرسول (ص): "صموا تصحّوا" هي الصحة النفسية والجسدية والعقلية والسلوكية جميعاً. لقد نصّ الرسول (ص) على ضرورة تحسين الخُلُق والاهتمام بالانفاق ورحمة الأيتام وإطعام الطعام إلى جانب الذكر والقيام وتلاوة القرآن والتوبة والاستغفار. فهي ضيافة شاملة وتكريم خاص للمؤمنين ليتزوّدوا من عطاء هذا الشهر زاداً ممتعاً لهم ويستثمروا ما كسبوه فيه لسائر الشهور. فهو محطّة تضخّ المؤمن بالحيوية والنشاط الإيماني ليعيش في ظل بركة هذا الشهر مباركاً وآمناً من الذنوب في سائر شهور السنّة. كلّ ذلك يدعو المؤمن للتهيؤ الكامل للضيافة المطلوبة ليتسنى له التزوّد منها لسائر الشهور. إنّ محور هذه الضيافة وعمودها الفقري هو الصوم الذي يفيض به الله على الإنسان الصائم بنفحات قدسيّة تجعله في استعداد دائم للتوجّه الخاص إلى معبوده الحق. والتهيؤ لهذه الضيافة التي ندب إليها المؤمنون قد أكّدته السنّة الشريفة؛ حيث وردت نصوص تحثّ على الصيام في شهري رجب وشعبان استعداداً للطاعة المطلوبة في شهر رمضان الكريم. ولهذه الضيافة مستويات ومراتب، كما أنّ لها آداباً ومقدمات ولها أيضاً نتائج تكون معرفتها ذات مدخلية في بلوغ الأهداف المرجوّة منها. 

ارسال التعليق

Top