◄تتزايد الدراسات والأبحاث التي تؤكد الفوائد الصحية والنفسية، التي نجنيها من تمضية الوقت في أرجاء الطبيعة. وقد حَدَا ذلك بالعديد من الشركات، وخاصة اليابانية، إلى إدخال ما يُسمَّى "علاج الغابات"، في البرامج المخصّصة للعناية بصحّة الموظفين.
جميعنا نعْلَم بالغريزة، أنّ الوقت الذي نمضيه في أحضان الطبيعة يُسهم في تعزيز ثقتنا بأنفسنا، وفي رفعمستويات الطاقة والحيوية لدينا، كما يخفّف من توترنا، يزيد من هدوئنا ومن قدرتنا على الإبداع. فمَن منّا لم يلجأ يوماً إلى المشي في أرجاء الطبيعة في محاولة لإيجاد حل لمشكلة ما؟ ومَن منّا لا يحل السكون في نفسه عندما يجلس مستنداً إلى جذع شجرة؟ أو يسترخي على الشاطىء مستمعاً لصوت الأمواج الهادئة؟ أو يتنشّق رائحة الأزهار في الحقول؟ والواقع، أننا نعرف تماماً أنّ الطبيعة أفضل وأرخص غذاء للرّوح.
وتجدر الإشارة، إلى أنّ هناك مئات الدراسات التي تُبرهن على أنّ الوقت الذي نمضيه في أرجاء الطبيعة مفيد لنا على مستويات عديدة. ففي دراسة أجراها البحّاثة في "جامعة كانساس" الأميركية في السنة الماضية، تبيَّن أنّ الأشخاص الذين يقضون أوقاتاً طويلة في الطبيعة، ينجحون في رفع مستويات قدرتهم على التبصُّر وحلّ المشاكل والإبتكار بنسبة 50 في المئة.
من جهة ثانية، أظهرت إحدى الدراسات الإحصائية التي أجريت في بريطانيا، أن 80 في المئة من الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم سُعداء في حياتهم، يقضون أوقاتاً طويلاً في الطبيعة، وتربطهم علاقات قوية بكل ما هو طبيعي. ويقول المتخصص البريطاني ستيفن موس، إنّ الإحتكاك المتواصل والمنتظم بالطبيعة، يؤدي مع الوقت إلى رفع مستويات الرضا والسعادة في الحياة بشكل عام.
أمّا اليابانيون، فقد أظهروا في دراسة أجريت في مؤسسة الأبحاث في إيباراكي، أن تمضية الوقت في أرجاء الطبيعة يُسهم في خفض مستويات الـ("كورتيزول" أحد هُرمونات التوتر)، وفي التخفيف من سرعة ضربات القلب ومن ضغط الدم، وفي رفع مستويات بعض المؤشرات المرتبطة بالإحساس بالإرتياح وبالإسترخاء. وكانت دراسات يابانية أخرى قد أظهرت، أن المشي في الغابات يُساعد على التحكم في مستويات سكر الدم، ويزيد من نسبة البروتينات المضادة للسرطان. وتُعلّق المتخصصة الأميركية في العلاجات الطبيعية، سارة سيمبرمان.. قائلة: إنّه من الصعب تقديم تفسير شامل لفوائد علاج الغابات، غير أنّ النباتات الخضراء، والأصوات المهدّئة المنبعثة من جداول الماء والشلالات، ورائحة الأشجار والنباتات والأزهار، في هذا الإطار البيئي الطبيعي، كلها تلعب دوراً في توفير هذه الفوائد. وتضيف: إنّ علاج الغابات مثال جيِّد عن كيفيّة إعتماد صحة الإنسان على صحة بيئته الطبيعية. كذلك، فإنّه سبب ممتاز أيضاً للتوجّه في نزهات على الأقدام في الغابات. أما إذا كنّا نقطن في المدن ويَتعذَّر وصولنا إلى غابة، فيمكننا الحصول على فوائد صحية عن طريق إنشاء بديل للغابة في منزلنا. وتنصح سيمبرمان، بتوزيع النباتات داخل المنزل وفي الحديقة إذا توافرت، وبالإستماع لأقراص مُدَمجة سُجّلت عليها أصوات طبيعية. كذلك من المفيد تنشُّق رائحة الزيوت العطرية النقية، مثل زيت الأرز، الصنوبر، والعَرْعَر، باستخدام المبخّرة الخاصة بالزيوت في المنزل. وتُشير إلى أنّ النباتات المنزلية مُفيدة أيضاً لصحّتنا، لأنّها تساعد على تنقية الهواء من الغازات والمواد الكيميائية السامة مثل الـ"فورمالدهايد".
- الرابط العميق:
يُؤكّد مؤلِّف كتاب "مبدأ الطبيعة" البريطاني ريتشارد لوف، أنّ الطبيعة منشط، وعامل فاعل في التخفيف من شعورنا بالوحدة. ويُشير إلى تقرير نشره مركز البيئة والمجتمع في "جامعة إيسكس" البريطانية، في العام 2009، وأظهر أنّ البيئة الطبيعية تساعد على تهدئة الأعصاب، وتحسين المزاج، وتعزيز الثقة بالنفس. وهي تعمل في الوقت نفسه على التخفيف من الشعور بالغضب، الإكتئاب، التوتر والإرتباك. ويضيف: أنّ ما يختبره الواحد منّا شخصياً، تُؤكده الدراسات العلمية. فالوقت النوعي الذي نمضيه في الطبيعة، يمكن أن يكون علاجاً فاعلاً وقوياً ضد التوترات السامة التي نتعرّض لها في حياتنا.
وتعميق علاقتنا بالطبيعة، يمكن أن يتم ببساطة عن طريق خروجنا في نزهات على الأقدام في الحدائق العامة أو المتنزهات أو الشاطىء البحر، كما يمكن أن يتم بشكل أشمل، مثل أن نقضي فترات طويلة منغمسين في شبه عزلة في البرّية. وتتوافر في يومنا هذا خيارات أخرى، مثل النوادي الرياضية الخضراء، العلاجات بالإستعانة بالحيوانات، والعديد من برامج العلاجات الطبيعية المختلفة. وليست هذه العلاجات، كما قد يعتقد البعض، مخيّمات تدريب في الطبيعة تتضمّن مُغامرات شاقة، بل هي برامج تضعها مجموعات من مُحبّي الطبيعة، أنصار البيئة الخضراء، إلى جانب مُعالجين مُتدرّبين، يكرّسون فيها قُدرات الطبيعة الشافية لخير الناس ومنفعتهم.
ويقول المتخصص البريطاني في العلاج النفسي مارتن جوردان، إنّ مشاكل مثل الإكتئاب والشعور بالعزلة، يمكن حلّها عن طريق الانغماس في الطبيعة. وتتوافر في عيادته الخاصة جلسات علاج فردية أو جماعية في الهواء الطَّلق وفي إطار طبيعي. وفي هذه الجلسات، يمكن للفرد أن يُمارس التأمل المركّز على الطبيعة، أو يكتشف علاقته بالطبيعة، أو يكرّس وقتا للاسترخاء في إطار طبيعي، وغير ذلك من أنواع السلوك المرتبط بالطبيعة. ويقول جوردان، إنّ هذه الجلسات تساعد على بروز "مناظر طبيعية" داخلية في تفاعُل مع المناظر الخارجية الطبيعية التي تدعم، تتحدى، وتساعد الشخص في رحلته العلاجية. ويُعلّق جوردان قائلاً: إنّ هذا النوع من العلاجات يَدْحَض الأسطورة القائلة، إنّ نفس الإنسان منفصلة عن الطبيعة.
- الإنطلاق إلى الخارج:
وبشكل أكثر عفويّة من جلسات العلاج، تُنظّم المتخصصة البريطانية في العلاج النفسي والعلاج الطبيعي، هيتي ديسش، مجموعات تنطلق في أرجاء الطبيعة. ويلتقي أفراد كل مجموعة لمدة 3 ساعات في الشهر، ليستكشفوا ويُعمّقوا علاقتهم بالطبيعة، وبأنفسهم وبمجتمعهم، عن طريق القيام بتمارين وأشطة مُستلهَمة من الفصول الطبيعية، مع فترات إستراحة وإحتساء الشاي في جلسات حول النار. وتقول ديسش: إنها تقوم مع المجموعة بتمارين تحت نجوم السماء الشتوية وفي أشعة شمس الصيف، وتحت سماء غائمة. وتضيف: إن تخصيص الوقت الكافي للسكن في عالم الطبيعة، هو طريقة ترميمية نحو الإحساس بالتعافي وبالرضا وبالتكامل النفسي والذاتي. ويمكن للفرد الإحساس بشعور الرضا هذا، خلال القيام بالأنشطة المشتركة مع بقيّة أفراد المجموعة، أو في الجلوس حول الموقد، أو في التجول وحده بين الأشجار.
وتُلاقي مجموعات العلاج في الهواء الطلق رواجاً كبيراً هذه الأيام، ربما بفعل تزايد تأثير، بل وغزو وسائل التواصُل الاجتماعي والهواتف النقالة. ويُجمع المشاركون في مثل هذه المجموعات على القول، إنهم يستفيدون كثيراً من فترة وجودهم في أرجاء الطبيعة، فهي تساعدهم على التمهُّل والتأمّل، وعلى فهم وإستيعاب الفصول الدورات الطبيعية وعلاقتها بحياتهم الخاصة. ويؤكدون، أن رؤيتهم للأمور تتبدّل إيجابياً بعد المشاركة في هذه الرحلات العلاجية في الطبيعة.
- نصائح لتقوية الرابط بيننا وبين الطبيعة:
تُقدّم هيتي ديسش النصائح التالية، لتعميق علاقتنا بالطبيعة والإستفادة من قدراتها الشافية:
1- الجلوس في موقع هادىء: إقصد مكاناً تحبّه في الطبيعة، وإجلس فيه بهدوء لمدة ثلث ساعة. حاول أن تفتح حواسك جميعها لتصغي إلى الأصوات، وتشم الروائح، وتشاهد كل ما حولك من تفاصيل طبيعية، وتستوعب أي مشاعر تنتابك وأي أفكار تخطر في ذهنك.
وتقول هيتي، إنّ نصيحتها هذه تستند إلى ما كان يقوم به الناس في الثقافات القديمة. وتضيف، إنّ الفترة التي نمضيها جالسين هكذا في بُقعة طبيعية مُحدَّدة تجذبنا، يُفترض أن تزداد مع الوقت حتى يتساوى عدد دقائقها مع عدد سنوات عمرنا.
2- المشي بأقدام عارية في الطبيعة: إختَر منطقة مُحددة تحبّها في الطبيعة، وإمش حافي القدمين فيها لمدة ربع ساعة. إمشِ ببطء وانتبه إلى كل الأحاسيس والإنفعالات في جسمك، وارتباطها بأفكارك وأفعالك، ثمّ حاول أن تمشي بشكل أسرع، ويمكنك أيضاً أن تتأمل خلال المشيء.
3- استلقِ على ظهرك في الخارج: استلقِ لمدة 10 دقائق على الأقل على العشب في الطبيعة، واكتف بالمراقبة، وبكونك جزءاً من العالم الطبيعي. وتقول هيتي، إننا جميعاً أمضينا الأشهر الأولى من حياتنا ونحنُ مستلقون على ظهورنا، نُراقب، نُلاحظ، ونتفاعل مع عالمنا الخارجي من دون كلمات، وإنّ تكرار ذلك في الطبيعة له تأثير علاجي شافٍ.
4- الخروج إلى الطبيعة من دون هدف مسبق: اخرج من المنزل وامنح نفسك ساعة للقيام بما يخطر ببالك في أرجاء الطبيعة. أطلق العنان لنفسك ودعها تنجذب إلى المكان الذي تريده وتكتشف أرجاء الطبيعة. قد تختار مثلاً أن تقضي ساعة وأنت تُراقب النمل، أو تتسلق الأشجار، أو تتبع حيواناً ما، أو تراقب الطيور، أو تتسلق التلال. المهم أن تقوم بأي عمل يروق لك في أرجاء الطبيعة.
5- قطف الثمار البرية وتناولها: هناك دائماً ثمار برية يمكن أن نقطفها ونتناولها. وتقول هيتي، إنّ القيام بذلك هو طريقة مباشرة وفوريّة للتواصُل مع الطبيعة. وهي تنصح كل مَن يملك حديقة في منزله، بزراعة الأعشاب العطرية والخضار، فقطفها وأكلها، أو إستخدام أوراقها في تحضير النَّقيع وإحتسائه، يُعزز الرابط بينه وبين الطبيعة.
6- الجلوس أمام نار مشتعلة ليلاً: إجلس وحدك أو بصحبة أشخاص تحبّهم ليلاً على شاطىء البحر، أو أي مكان آخر في الطبيعة وأشعل ناراً. إسترخ وإستمع لصوت الخشب وهو يحترق، وانظُر إلى لهيب النار، وتنشَّق رائحة الدخان الجميلة.
7- المشي الشافي: عندما تواجهك مشكلة ما، صُغ سؤالاً بسيطاً بشأنها، مثل: إلى ماذا أحتاج الآن؟ أو كيف يمكنني أن أتخطّى هذه التجربة الصعبة؟ ثمّ اخرُج من المنزل وتوجّه إلى المتنزه أو الغاية أو شاطىء البحر، أو إلى أي مكان في الطبيعة، واكتفِ بالتنقّل في أرجائه. ثمّ أطلق ذهنيّاً السؤال الذي صَغته بشأن مشكلتك، ودَع الطبيعة تُلهمك إلى الحل. تابع التجوال بالسرعة التي ترتاح فيها، ولا تدخل في أحاديث أو تتفاعل مع الآخرين الذين يمكن أن تُقابلهم.
8- السباحة واللعب: تقول هيتي: ليس هناك أمر يُنعشنا ويُوطّد علاقتنا بالطبيعة أكثر من السباحة في البحر، أو النهر، أو البحيرة. أما اللعب في أرجاء الطبيعة، فيجمع بين فوائد الوجود في البيئة الطبيعية والحركة واللهو.►
ارسال التعليق