• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبادة.. حاجة روحية وسرّ الخلق

مرتضى مطهري

العبادة.. حاجة روحية وسرّ الخلق

◄أحد أُصول التعاليم التي نادى بها الأنبياء هي عبادة الله الواحد الأحد وعدم عبادة أيّ موجود آخر سواه. ولم تكن تعاليم أيّ من الأنبياء خالية من العبادة قطّ.

وكما نعلم فإنّ العبادة ركن أساسي في الشريعة الإسلامية المقدّسة، ولا يوجد في الإسلام شيء باسم العبادة الصرفة التي تتعلّق بالعالم الآخر، بل العبادة الإسلامية مشفوعة بفلسفة الحياة، وهي من جوهر الحياة.

وفضلاً عن أنّ بعض العبادات تأخذ طابعاً جماعياً مشتركاً؛ فقد شرع الإسلام العبادات الفردية بشكل جعلها تلبّي بعض متطلّبات الحياة، فالصلاة مثلاً – وهي المظهر الكامل للعبوديّة – اتّخذت في الإسلام طابعاً خاصّاً، حتى أنّ الشخص الذي يريد أداءها في ركن منعزل لابدّ له وأن يؤدّي بعض الواجبات الأخلاقية والاجتماعية، من قبيل النظافة، واحترام حقوق الآخرين، والدقّة في الوقت، ومعرفة الاتّجاه، وضبط المشاعر، والتسليم على عباد الله الصالحين، وغير ذلك.

 

العبادة حاجة روحية:

من جملة الممارسات العامّة الثابتة التي لا يؤثّر فيها عنصر الزمن مطلقاً، ولا تقبل النسخ والتغيير هي العبادة، التي تعدّ واحدة من حاجات الإنسان. فما معنى العبادة؟.

تطلق كلمة العبادة على تلك الحالة التي يتوجّه فيها الإنسان باطنياً نحو الحقيقة التي أبدعته، ويرى ذاته تحت هيمنتها. وهي تمثّل في واقع الحال سير الإنسان من الخلق نحو الخالق. وبغضّ النظر عن الفوائد المتوخّاة منها، فإنّها بحدّ ذاتها من حاجات الإنسان الروحية، وعدم الاتيان بها ينجم عنها حصول خلل في اتّزانه.

وأسوق – في ما يلي – مثالاً على فقدان الاتّزان بالخُرج الذي يوضع على ظهر الحيوان، وما ينبغي أن يكون عليه من الاتّزان دون رجحان طرف على آخر.

إنّ ثمّة فراغ في وجود الإنسان يستوعب كثيراً من الأشياء، وكلّ فراغ لا يتمّ إشباعه يؤدّي إلى حصول حالة من الاضطراب وفقدان التوازن في جانبه الروحي. وإذا أراد المرء أن يقضي عمره بالعبادة تاركاً المتطلّبات الأُخرى ومعرضاً عن تلبية حاجاته المنوّعة فسيؤدّي هذا إلى حصول الخلل والاضطراب في نفسه، والعكس صحيح أيضاً؛ أي أنّه إذا بقي المرء يلهث وراء المادّيات دون الاهتمام بالمعنويات والآفاق الروحية لا يقرّ له قرار، وتبقى روحه في عذاب دائم. وقد التفت إلى هذه الناحية الزعيم الهندي جواهر لآل نهرو الذي تغيّرت حالته في أواخر حياته بعدما كان علمانياً في عهد الشباب. يقول هذا الرجل عن ذاته:

أشعر أنّ في روحي وفي هذا العالم فراغ لا يسدّه شيء إلّا القضايا الروحية، وما هذا القلق والاضطراب الذي يلفّ العالم إلّا بسبب ضعف البعد الروحي لدى بني الإنسان والذي أدّى إلى بروز هذه الحالة من فقدان التوازن. ثمّ يضيف قائلاً: وتلحظ هذه الحالة على أشدّها في الاتّحاد السوفيتي. فعندما كان الشعب الروسي جائعاً ما كان يفكر إلّا في كيفية سدّ جوعه، لذلك اندفع يخطّط من أجل الحصول على قوته، ولما استتبّ الوضع وعاد إلى مجرى حياته العادية بعد الثورة برزت فيه ظاهرة القلق الروحي وها هو يعاني منها اليوم. ولو عرض للشخص فراغ من بعد فترة العمل فإنّ أوّل معضلة يواجهها هي كيفية ملء ذلك الفراغ. ثمّ يقول نهرو: لا أظنّ هؤلاء يستطيعون سدّ الفراغ الذي يعانون منه إلّا بالتوجّه إلى الجانب المعنوي، والتركيز على الآفاق الروحية لإشباع ساعات الفراغ الذي يعانون منه وأُعاني منه أنا أيضاً.

يتّضح إذن إنّ العبادة حاجة ماسّة للإنسان ولا مناص له منها. وأمّا الأمراض النفسية المتفشّية في عالم اليوم فهي بسبب إعراض بني الإنسان عن العبادة. وهذا ما لم نحسب حسابه، ولكنه جليّ. والصلاة – بغضّ النظر عن كلّ شيء – طبيب حاضر على الدوام؛ أي إذا كانت الرياضة مفيدة للصحّة، والماء الصافي ضرورياً لكلّ دار، والهواء النقي، والطعام الصحّي ضروري لكلّ إنسان، فالصلاة ضروريّة أيضاً لصحّة الإنسان كضرورة تلك الأشياء وفائدتها. ولعلّكم لا تعلمون لو أنّ المرء خصّص ساعة من وقته يومياً لمناجاة ربّه لرأي إلى أيّ حدّ تطهر روحه وتصفو، وكم تفيض عليه هذه المناجاة من نقاء وصفاء وسكينة، وتزول من نفسه كلّ السلبيات والخبائث.

 

العبادة سرّ الخلق:

لقد خلق الله الإنسان ليعبده وحده ويمتثل أمره. إذن فواجبه طاعة أمر الله. (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56).

الإنسان لا يجد ذاته إلّا من خلال عبادة الله وذكره، وإذا هو نسي إلهه إنّما في الحقيقة ينسى ذاته ولا يعلم من هو، ولأيّ شيء خلق، وإلى مَ مصيره؟. (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر/ 19).►

 

المصدر: كتاب الروح والنور في القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top