◄جاء في القرآن العظيم (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، وجاء أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 25)، وفي سورة يس: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس/ 60-61)، وهناك العديد من الآيات والأحاديث التي تذكر اصطلاح "عبادة الله" فماذا يعني ذلك..؟ هل انّ عبادة الله تعني ما تعارف عليه بعض النّاس..؟ انّ البعض عندما يستعمل اصطلاح عبادة الله ويسمع بهذا الاصطلاح فإنّ ذهنه ينصرف إلى الصلاة والصوم والحج فقط وهذا لا يتماشى مع المفهوم الإسلامي لعبادة الله. فعند مراجعة نصوص القرآن والسنّة نجد أنّ عبادة الله تغطي وتستوعب كلّ نشاطات الإنسان السائرة على طريق طاعة الله ومنها ومن أبرزها الصلاة والصيام والحج والزكاة.
إنّ الإنسان إذا لم يعبد الله فإنّه سيعبد غيره سواء كان هذا الغير صنماً أم بشراً أم قمراً أم هوى النفس وفي هذه العبوديات المتعددة يكمن مقتل الإنسان وانحطاطه وذلته وهوانه بينما هو عندما يتجه إلى طاعة ربه وعبادته وحده فإنّه سيعيش حياة العزة والكرامة والاستعلاء على الإلهة المزيفة يقول أمير المؤمنين علي (ع): "إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب"، ويقول ولده الحسن (ع): " من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله إلى عزّ طاعته عزّ وجلّ". انّ النتيجة الحتمية والثمرة الطبيعية للعبادة المخلصة للوجود الحقّ هي الحياة العزيزة الكريمة المهيبة إلا انّ ذلك لا يتم بين ليلة وضحاها ذلك انّ عبادة الله إذا أكانت تعني طاعة الله في كلّ شأن من الشؤون فإنّ هذا يعني أنّ على العابد المخلص المطيع أن يتعرف على مطلوب المعبود ومراده وتشريعه لشؤون الحياة ليكون عمله وفق ما يريد المعبود الحقّ منه.
إنّ مختلف العبادات التي شرعها العليم الخبير انما شرعها لتلبي بشكل سليم غريزة التدين المتأصلة في الوجود الإنساني. انّ هذه الغريزة لا تقل قوة عن غريزة الأكل والشرب والجنس ولابدّ أن تشبع غريزة التدين كما تشبه هذه الغرائز سواء بسواء. وغريزة الأكل مثلاً تشبع بالأكل ولا يمكن أن يعوض عنها تخيل الأكل أو أن تشبع بإشباع غريزة غير غريزة الأكل وهكذا الأمر بالنسبة إلى غريزة التدين فهي لا تشبع بالأكل أو الشرب أو الجنس، بل لابدّ من العبادات فهي الغذاء المناسب الذي ينسجم معها. فلكلّ غريزة من الغرائز إذن ما يناسبها من الغذاء (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الرّوم/ 30)، وإذا كان التدين غريزة كما هو الواقع وكما أكّد ذلك كبار العلماء من كلّ أنحاء الدنيا وكان أداء كلّ غريزة لرسالتها وتحقيق الحكمة من وجودها يتوقف على طريقة إشباعها، فمن الطبيعي أن يهتم الإسلام بوصفه النظام القيم على الإنسانية وغرائزها وسلوكها بتنظيم هذه الغريزة، غريزة التدين وتحديد محتواها الحقيقي وتعيين الأساليب الصحيحة في اشباعها، والمحتوى الحقيقي لغريزة التدين في نظر الإسلام هو شعور الإنسان بالارتباط بخالق حكيم قادر عادل عالم جدير بالعبادة والحب والتقديس لأنّه واجد كلّ كمال ومنبع كلّ رحمة.. وانما يقر الإسلام إشباع غريزة التدين بالشكل الذي يعبر تعبيراً صادقاً عن محتواها الحقيقي ويركّز في نفس الإنسان صلته الروحية بخالقه ويجعله يستشعر بهذه الصلة ويستوحي منها ويعتمد عليها في سراءه وضراءه ويستمد منها قوة الإرادة وخلوص النية وطهارة الروح.
والصوم باعتباره عبادة من العبادات جاءت لإشباع غريزة التدين في الإنسان وهو يعبر في تشريعه عن جانبين من حاجات الإنسان الرئيسة فهو تعبير عن حاجة الإنسان للانقطاع ولو لفترة محدودة وأيّام معدودة عن متطلبات الجسد من أكل وشرب وجنس والانغلاق دون هذه الحاجات وإلحاحها المتزايد وضغطها المستمر.
وفي نفس الوقت يعتبر الصوم تعبيراً عن حاجة الإنسان للانفتاح على التطلعات الروحية والترفع عن مستوى الضرورات الجسدية والاستعلاء عليها، وذلك بإشباع المتطلبات الروحية والتفرغ بعض الوقت لمدة شهر لتطلعات النفس وحاجاتها ولهذا يعد الصوم نشاطاً سلبياً وإيجابياً في وقت واحد يستهدف مصلحة الإنسان، وذلك بتعبيده لخالقه وتحرير مما سواه. انّ الصائم بصيامه يعبر عن انتصار إرادة الله على رغبته وإرادته وفي هذا الانتصار تتحقق أبرز صفات الإيمان وهي تقديم إرادة الله على إرادة العبيد يقول القرآن العظيم: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب/ 36).. إنّ هذا الانتقال من حب الذات والتعلق بلذائذها وشهواتها إلى حب الله والتعلق به يحدث أروع آثار التغيير والتحول النفسي والروحي داخل كيان الصائم.. التغيير الذي يحقق له الارتباط بالله والتوجه إليه والتقرب منه والنظر إلى كلّ شيء في الحياة من خلال هذه العلاقة المكينة مع الله فيتحقق بذلك إصلاح النفس وتقويم السلوك وتربية المشاعر ولما كان الدعاء يساهم في تحقيق الارتباط الودي الحبيب بين العبد والمعبود كان في الصميم من العبادة ولهذا جاءت آية الدعاء (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186)، جاءت هذه الآية المباركة خلال آيات الصوم المباركات وفي أثنائها وهو أمر يدل على مدى علاقة الدعاء بالصوم كعبادة خاصة ومدى علاقته بالعبادة عموماً ولهذا جاء في الحديث "الدعاء مخّ العبادة".
إنّ العبادة التي يريدها منا الإسلام والتي تؤتي أكلها وتحقق أغراضها في العبادة التي كان يمارسها محمّد (ص) وعليّ (ع) وطلابهما المخلصون العبادة التي يجمع صاحبها بين الدنيا والآخرة وبين حقوق النفس والآخرين. العبادة التي تزيل الغبار عن قلوب العباد المخلصين لربهم حتى لم يجدوا غيره فيها. انّها عبادة الأحرار التي أشار إليها عبد الله المخلص الإمام أمير المؤمنين شهيد المحراب بقوله: "إلهي ما عبدتك إذ عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك" هذه العبادة المخلصة الصادقة عبادة الأحرار التي جعلت الذائب في ذات الله وهو يتلقى الضربة الطائشة المنكرة الغادرة في محرابه يقول: "فزت وربّ الكعبة"، لأنّ الموت في سبيل الله وعلى طريق طاعة الله ومرضاته فوز وسعادة..►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق