• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العدل في القرآن الكريم

عبدالكريم آل نجف

العدل في القرآن الكريم
- مفهوم العدل: إذا جئنا إلى علماء الأخلاق وجدناهم يسلكون الطريق نفسه، فنجد ابن مسكويه يبين العدل ويفسره ثمّ يشير إلى دور الشريعة في تحقيقه حينما يقول: "انّ الشريعة هي التي ترسم في كل واحد من هذه الأشياء التوسط والاعتدال...". وقد أوضح المولى النراقي ذلك بتفصيل أكبر حينما كتب يقول: "وإذا عرفت شرف العدالة وإيجابها للعمل بالمساواة وردّ كل ناقص وزائد إلى الوسط، فاعلم أنها أما متعلقة بالأخلاق والأفعال، أو بالكرامات وقسمة الأموال، أو بالمعاملات والمعاوضات، أو بالاحكام والسياسات. والعادل في كل واحد من هذه الأمور: ما يحدث التساوي فيه بردّ الافراط والتفريط إلى الوسط، ولا ريب في انّه مشروط بالعلم بطبيعة الوسط حتى يمكن ردّ الطرفين إليه. وهنا العلم في غاية الصعوبة، ولا يتيسر إلا بالرجوع إلى ميزان معرّف للأوساط في جميع الأشياء، وما هو الا ميزان الشريعة الإلهية الصادرة عن منبع الوحدة الحقة الحقيقية، فإنّها هي المعرفة للأوساط في جميع الأشياء على ما ينبغي، والمتضمّنة لبيان تفاصيل جميع مراتب الحكمة العملية، فالعادل بالحقيقة يجب أن يكون حكيماً عالماً بالنواميس الإلهية الصادرة من عند الله سبحانه وتعالى لحفظ المساواة. وقد ذكر علماء الأخلاق أنّ العدول ثلاثة: الأوّل: العادل الأكبر وهو الشريعة الإلهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة، الثاني: العادل الأوسط وهو الحاكم العادل التابع للنواميس الإلهية والشريعة النبوية، فإنّها خليفة الشريعة في حفظ المساواة، الثالث: العادل الصامت وهو الدينار؛ لأنّه يحفظ المساواة في المعاملات والمعاوضات. وقد أشير إلى العدول الثلاثة في الكتاب الإلهي بقوله سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...) (الحديد/ 25)، فإنّ الكتاب إشارة إلى الشريعة، والميزان إلى آلة معرفة النسبة بين المختلفات ومنها الدينار، والحديد إلى سيف الحاكم العادل المقوم للناس على الوسط. هذا والمقابل للعادل اعني الجائر المبطل التساوي أيضاً، اما جائر أُعظم وهو الخارج عن حكم الشريعة ويسمى كافراً، أو جائر أوسط وهو من لا يطيع عدول الحكام في الاحكام ويسمى طاغياً وباغياً، أو جائر أصغر وهو من لا يقوم على الدينار فأخذ لنفسه أكثر من حقه ويعطي غيره أقل من حقه ويسمى سارقاً وخائناً...". وإذا انتقلنا من الإسلام إلى المسيحية، وجدنا علماء اللاهوت يؤكدون بدورهم على العلاقة بين العدل والدين، فإنّ الإنسان العادل عندهم هو الإنسان الخاضع لأوامر الله ونواهيه. لذا نجد السيد الشهيد الصدر يقول: "إنّ الإسلام حين ادراج العدالة ضمن المبادي الأساسية التي يتكون منها مذهبه الاقتصادي، لم يتبين العدالة الاجتماعية فمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بها بشكل مفتوح لكل تفسير، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية باختلاف أفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة، وانما حدد الإسلام هذا المفهوم وبلوره في مخطط اجتماعي معيّن، واستطاع بعد ذلك يجسد هذا التصميم في واقع اجتماعي حيّ تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة". ودقّة المطلب تقتضي منا التنبيه على ضرورة ان لا يفهم من التأكيد المتكرر على العلاقة بين التوحد والعدل عدم وجود موقف أو حالة معيّنة يصدق عليها وصف العدل من شخص لا ينتمي إلى الدين، فقد ذكرنا آنفاً انّ العدل متوقف على خطوتين: خطوة نظرية على صعيد المفهوم، وأخرى عملية على صعيد التطبيق. وذكرنا أنّ الخطوة النظرية مركبة من قسم عقلي يستطيع الإنسان أن يعتمد فيها على أحكام عقلية واضحة لدى جميع العقلاء، كحكم العقل بقبح الانحياز، وحسن المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وقسم آخر متوقف على الوحي، فلو أن إنساناً معيناً امتثل الحكم العقلي المذكور لدى تصديه لمنصب من المناصب، ولم يصدر منه انحياز لصالح أحد من أقربائه – مثلاً – على حساب الآخرين، أصبح ذلك الشخص مستحقاً لوصف العدل في موقفه هذا. وما مضى من كلام السيد ابن طاووس وابن تيمية وابن قيّم الجوزية الذي يظهر منه عدم ارتباط العدل بالدين، صحيح بهذا المعنى المحدود فقط، ومن المقطوع به أنهم لا يحكمون بعدالة قاضٍ يحكم بغير ما أنزل الله في كتابه، لارتباط القضاء بالشريعة، فكيف نتصور أنّهم يطلقون العدل على دولة كافرة؟ وحينئذ فمن الممكن أن نصف موقفاً يصدر من حاكم كافر أو دولة كافرة بالعدل، ولكننا لا يمكننا ان نصف الدولة الكافرة نفسها بالعدل، ونحن حينما نؤكد على ارتباط العدل بالتوحيد، فذلك بلحاظ اتخاذ العدل منهجاً متكاملاً في الحياة وأساساً لبناء نظام اجتماعي، وحينما يؤكد الفقهاء في تعريفهم للعدالة والشخص العادل على ملازمة التقوى واجتناب الكبائر واتيان الواجبات؛ فلأن العدالة بمعناها الكامل مشروع اجتماعي يبدأ من تربية الفرد العادل وينتهي ببناء المجتمع العادل، ولأنّ المعنى المحدود للعدل الذي قد يصدر بنحو عابر من حاكم غير إسلامي لا يوثق به كحالة مستمرة وشاملة، ولا يمكن الاعتماد عليه كأساس في الحياة الاجتماعية، وإنما هو معنى مساعد للعدالة بمعناها الكامل الذي يؤكد الإسلام عليه. فالصحيح إذن أنّ الإسلام عادل، وأنّ العدل هو المفهوم، والاسلام مصداقٌ له، ولكن مع لحاظ أنّه المصداق الوحيد للعدل، ومن هنا كان الشرك (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13)، حسب تعبير القرآن؛ لأنّه ظلم لحق الله في الأُلوهية، وسبب يؤدي إلى مصادرة العدل عن الساحة الإنسانية، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة/ 45)، (الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة/ 254)، فهذه الآيات جميعاً تشير إلى انحصار العدل في الدين، إذا كان المراد من العدل معنى شمولياً لمرافق الحياة الاجتماعية العامة، وإلا فمن الممكن صدور العدل من الكافر بالمعنى المحدود للعدل كما مرّ. لقد آمنت الليبرالية الغربية، بأنّ العدل هو ما تأتي به الطبيعة، وأنّ المجتمع إذا انقسم بين فقير وغني فذلك انقسام عادل؛ لأنّ الطبيعة البشرية قد ساقت المجتمع إليه، وجعلت كل فرد يأخذ حصته من الحياة وفقاً لما زوجته الطبيعة به من ملكات وقابليات، وطبقاً لهذا التفسير لابدّ وان يكون هتلر ويزيد وفرعون ونيرون يسيرون طبقاً لقانون الطبيعة، وواضح أنّ هذا التفسير يساوق انكار العدل، فجاءت الماركسية بمثابة الانتصار للعدل والعدالة في الحياة، وآمنت باحتياج العدالة إلى دولة صارمة وقوانين حاسمة من شأنها نقل المجتمع من ثقافة برجوازية إلى ثقافة اشتراكية تتكفل بإزالة ما أسمته الرأسمالية بقانون الطبيعة وإعادة تكييف الشخصية الإنسانية وفقاً لمبدأ "من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته". وتجيب الليبرالية على هذا التفكير بأن تلك الدولة الصارمة ستكون هي المظهر الجديد لقانون الطبيعة، فإنّ الفرد أو الأفراد الأقوياء الذين سيتولون تطبيق الاشتراكية ليس هناك ما يضمن تطبيق العدالة الاشتراكية عليهم، وحينئذٍ سيكون المجتمع اشتراكياً في طبقة الضعفاء، ورأسمالياً في طبقة الأقوياء الحاكمين باسم الاشتراكية، وليست هذه إلا صورة أخرى من قانون الطبيعة. وهنا ليس عند الماركسية ما تجيب به، وفقدانها للجواب شاهد واضح على أنّ العدل لا يجد تجسيداً في الواقع المستند إلى الإنسان وحده، وأنّ الماركسية قد تقدّمت خطوة إلى الامام حينما أرادت الانتصار للعدالة من مظالم الرأسمالية، وحينما آمنت باحتياج العدالة إلى تكييف الإنسان في ضوء قانون اجتماعي عادل، ولكنها أخطأت حينما ادعت لنفسها هذا الدور، فإنّ العدالة تحتاج إلى عقيدة تقوم بالدورين المذكورين آنفاً، إلا أنّ العقيدة التي تقوم بهذين الدورين ليست إلا الدين؛ لأنّ الدين هو القادر على وضع قانون اجتماعي عادل، وعلى تكييف وتهذيب الإنسان في ضوء ذلك القانون.   - العدل في القرآن الكريم: بعد اتضاح مفهوم العدل ودور العقيدة في استنجازه وتجسيده في واقع الحياة، ووضوح أنّ العدل لا يجد مفهومه الصحيح ومصداقه الواقعي إلا في ظل التوحيد؛ نأتي لنبحث عن مكانة العدل في التصور الإسلامي، ومدى ما يحظى به في ظل هذا التصور من قاعدة متينة لا تسمح بظهور أيّ خلل في جانب من الجوانب، بالنحو الذي يساعدنا على التغلب على الكثير من الإبهامات التي يبدو منها كأن في الإسلام نوعاً من الانحياز لإنسان على حساب إنسان آخر بما يضعف قيمة العالمية وبالتالي قيمة العدل في الإسلام. اننا إذا جئنا إلى القرآن الكريم وجدناه يركز على العدل من جهات مختلفة نستطيع أن نحصرها في النقاط الآتية: 1- نفي الظلم عن الله سبحانه وتعالى: وتنضوي تحت هذا العنوان عشرات الآيات التي تؤكد نفي الظلم عن الله سبحانه وتعالى؛ مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (النساء/ 40)، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس/ 44). 2- ذم الظلم والتوعد عليه واستنكار الظالمين والنهي عن الركون إليهم. مثل قوله تعالى: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) (الكهف/ 87)، وقوله تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء/ 227)، وقوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود/ 113). 3- تعليل بعثة الأنبياء بإقامة العدل: وذلك في قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد/ 25). 4- الأمر بالعدل والقسط: مثل قوله تعالى: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى/ 15)، وقوله تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8)، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) (النحل/ 90)، وقوله تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة/ 42)، وقوله تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف/ 29)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (النساء/ 135). 5- اشتراط العصمة في النبي والامام: وذلك في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 124). فالآية تشترط نفي الظلم ممن يكون مورداً لعهد الله سبحانه وتعالى من نبي أو إمام، ونحن نعلم أنّ للظلم مرتبتين: مرتبة دنيا هي بمعنى عدم الاعتداء على حقوق الآخرين، ومرتبة عليا تتصل بكمال النفس واستقامتها والحذر من إيقاعها في المهالك، وإذا جعلنا الآية وما فيها من اشتراط نفي الظلم عن النبي والامام ناظرة إلى الرتبة الأولى، فإنّها سوف لا تكون متناسبة مع مقام ومنزلة إبراهيم (ع)، إذ ليس متوقعاً منه عليه السلام أن يطلب الامامة للمعتدين من ذريته حتى يأتيه الجواب بـ(لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، فلابدّ وان تكون الآية ناظرة إلى المرتبة العليا من نفي الظلم، وهي مرتبة العصمة لنفي الظلم عن النفس فضلاً عن الآخرين؛ لأن هذا المعنى هو المنسجم والمتناسب مع مكانة ابراهيم (ع) ومع مكانة من تطلب له الامامة. ومن الواضح انّ العصمة هي الدرجة القصوى من العدالة، وهي تجسد حرص الله سبحانه وتعالى الشديد على تجسيد العدالة في واقع الحياة. 6- اشتراط العدالة في المناصب الاجتماعية: وبعد اشتراط العصمة في النبي والامام اشترط الاسلام العدالة في كل المناصب الاجتماعية؛ مثل القضاء، وإمامة الجماعة، وتوليّ قيادة المسلمين، ومرجعيه الفتوى، وقد نص القرآن الكريم صراحه على اشتراط العدالة في شهادة الشهود، كما في قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (الطلاق/ 2). 7- آيات تطبيقية لقواعد العدل: وهناك طائفة من الآيات لم يرد فيها لفظ العدل ونفي الظلم، إلا أنّها من حيث المضمون تأتي تطبيقاً لقاعدة من قواعد العدل، وهي على عدة أصناف: أ- صنف يشير إلى قاعدة المساواة، وأنّ الله سبحانه يعطي لكي ذوي حق حقه طبقاً لهذه القاعدة، وأنّه لا يساوي بين المختلفين، مثل قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر/ 9)، وقوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) (التوبة/ 19)، وقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ) (السجدة/ 18). ب- وصنف آخر يشير إلى أنّ الملاك الوحيد في الجزاء هو العمل، مثل قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) (النجم/ 39-40)، وقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8)، وقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر/ 38)، وقوله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة/ 286)، والنتيجة الطبيعية للعمل بهذا الملاك أن لا يحاسب إنسان بعمل غيره. وهذا ما أكّدته عشر آيات قرآنية جاءت في سياقات مختلفة ولكن بتعبير واحد: (لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164)، منها قوله تعالى: (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164). فيما أكدت آية أخرى بأن ذلك مبدأ ثابت في كل النبوات، قال تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (النجم/ 36-38). جـ- وصنف ثالث يربط التكليف بالقدرة عليه، كقاعدة من قواعد العدل الإلهي، مثل قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286)، الذي كرره القرآن بانحاء مختلفة خمس مرات. د- وصنف رابع يربط التكليف بأقامة البيان عليه باعتبار أنّ التكليف بلا بيان قبيح وظلم، قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء/ 15). هـ- وصنف خامس يبين اختيار الإنسان وحريته وينفي الجبر عنه، مثل قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3)، بوصف أنّ الجبر ظلم والمجازاة عليه ظلم ثان. في ضوء هذا كله يتاح لنا أن نسأل عن نسبة العدل إلى الإسلام. هل هو مجرد حكم من أحكامه، أم قاعدة عامة من قواعد التشريع الإسلامي، أم هو روح سارية فيه نابعة من أصل التوحيد وملازمة له بحيث لا توحيد بلا عدل، كما لا عدل بلا توحيد؟ وكما أنّ الإله لا يمكن أن يكون جسماً كذلك لا يمكن أن يكون ظالماً، والإله الظالم لا وجود له كما هو الإله المتجسد في جسم معيّن ليس بإله. إنّ القول بكون العدل حكم من أحكام الإسلام يتنزل به عن الموقع اللائق الذي يستحقه، وتقليل من شأنه الرفيع الذي وضعه الإسلام فيه، ويميل بعض المفكرين إلى اعتباره قاعدة عامة من قواعد التشريع الإسلامي، ويأخذ على الفقه الإسلامي عدم تدوين قاعدة باسم قاعدة العدالة ضمن العديد من القواعد العامة التي يستخدمها الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية، محاولين من خلال ذلك الانتصار للعدل ليأخذ مكانه اللائق به على صعيد الاستنباط الفقهي. ولكننا مع ذلك نرى العدل في مكانة أرفع من أن يكون إلى مصاف قواعد فقهية أخرى، كقاعدة التجاوز، وقاعدة اليد، وقاعدة السوق، وقاعدة السلطنة، بدليل أنّ فقدان واحدة من هذه القواعد لا يؤدي بالشريعة إلى خطر معين، بينما فقدان العدل لا يعرض الشريعة إلى خطر الظلم فقط، بل انّه يتنافى مع أصل التوحيد، إذ أنّ الشريعة الظالمة جزء من دين ظالم، والدين الظالم يصدر من إله ظالم، وقد مرّ أنّ الإله الظالم لا وجود له، وأنّ الظلم يتنافى مع كنه الألوهية، وبانتفاء الألوهية ينتفي الدين عقيدة وشريعة. فالعدل أرفع شأناً من أن يكون مجرد قاعدة من قواعد التشريع أو قواعد الفقه الإسلامي، بل هو روح عامة نابعة من أصل التوحيد وجارية في كل عروق الإسلام، وهنا يبرز أهمّ مظهر وأوثق علاقة عقائدية بين العدل والعالمية، فإنّ الإله الذي يكون رباً لشعب مختار دون سائر الشعوب ولا يكون رباً للعالمين هو إله ظالم وعنصري، وعنصريته مفرده من مفردات ظلمه، وسرّ هذا التلازم، أنّ العالمية بما هي مساواة بين الناس تعدّ مظهراً من مظاهر العدل ومصداقاً من مصاديقه. وأهم أثر يترتب على جعل العدل من المرتبة الثالثة دون الأولى والثانية، إنّ العدل إذا جعل حكماً من الأحكام أو قاعدة من القواعد فإنّه سيكون قابلاً لتطرق الاستثناء أو التخصيص أو التقييد عليه، بخلاف ما لو أصبح الروح العامة للدين الإسلامي المتصلة بأصل التوحيد بحيث يرتبط به وجوداً وعدماً أيضاً، فإنّه سوف يكون بمثابة لا تقبل التقييد والاستثناء والتخصيص مطلقاً مادام أنّ ذلك سيخلّ بأصل التوحيد. وهنا يكون البحث قد وصل نقطة عقائدية حساسة ومفيدة، وهي أن ظهور قرآني أو نبوي يستفاد منه نوعاً من الانحياز وإيثار طرف على آخر بنحو يبدو منه الاخلال بالمساواة والعدالة، لابدّ من تأويله بنحو يحفظ المساواة ويضمن العدالة، كما هو الأمر في كل ظهور قرآني أو نبوي يبدو منه تجسيم الله، حيث يصار إلى تأويله بنحو يرفع عنه التجسيم، ويضمن تنزيه المولى وعدم تشبيهه بالمخلوقات؛ لأن التجسيم والتشبيه يتنافى مع كنه الألوهية ويلزم من التصديق به عدمه، وكل ما يلزم من تصديقه عدمه باطل. وهكذا الأمر في الظهورات القرآنية والنبوية التي يبدو منها انحياز لصالح إنسان على حساب إنسان آخر، أو إخلال بقاعدة من قواعد العدالة التي مرّ ذكرها، لا يمكننا إلا أن نصرفها عن ذلك الظهور ونحملها على وجه آخر لا يلزم منه انحيازاً ولا إخلالاً بأي قاعدة من قواعد العدالة، فإذا تحدث القرآن الكريم عن تفضيل الناس بعضهم على بعض في الرزق، أو تفضيل الرجال على النساء، أو تفضيل الأُمم بعضها على بعض. وإذا تحدث القرآن الكريم عن آل إبراهيم (ع) وآل الرسول (ص) وعن ذرية الأنبياء بما يبدو وكأن امتيازاً أُلحق بهم لأجل النسب، كإعطاء الخمس لآل الرسول، وجعل الامامة في ذريته وذرية إبراهيم (ع)، وإلزام الأُمّة بمودتهم، وإذا تحدث القرآن عن الشجرة الملعونة وأصدر حكماً على جماعة أو أمة أو جيل لسبب تورّط فيه بعض أو أكثر الأفراد، في كلّ هذه الحالات لا يمكننا أن نعتبر أنّ القرآن الكريم قد أعمل نوعاً من الترجيح لجانب على آخر بلا مرجّح، وأنّه قد أجرى ترجيحاً مخالفاً للعدالة عن طريق الاخلال ببعض القواعد، ولابدّ لنا من حمل كل هذه الحالات على وجوه موافقة للعدالة.   * كاتب وباحث إسلامي

ارسال التعليق

Top