ربّما يتصوّر بعض الناس أنّ العفو يمثّل ذلّاً وإنّ الإنسان الذي يعفو، ضعيف في موقفه جبان ذليل والناس يلومونه بقولهم أنت لم تأخذ حقّك ضربك فلان فلم تضربه وشتمك فلم تشتمه، فيما يقول الحديث: «عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً فتعافوا يعزّكم الله». المسألة إذن هي أنّ الله سبحانه وتعالى يعطيك عزّاً من عنده ونحن نعرف أنّ العزّ ليس من الناس (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26). وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يا سفيان! مَن أراد عزّاً بلا عشيرة وغنىً بلا مال، وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته». وعلى هذا الأساس ينبغي لنا أن ننطلق لنربِّي أنفُسنا على هذا الخلق الإنساني الذي يفتح قلوب الناس، عليك بدلاً من أن تغلقها عنك، والذي يمكن أن يحلّ المشكلة بدلاً من أن يعقِّدها. وكان الإمام (علیه السلام) يعبّر عن مسألة امتناعه عن شفاء غيظه من الناحية الأخلاقية فيقول: «متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي لو صبرت؟ أم حين أقدر عليه فيقال لي لو عفوت» فإذن أنا عندما أغضب فسأقف بين حالتين: حالة العجز التي يريد الله منّي أن أصبر عليها، وحالة القدرة التي يريدني الله أن أعفو عنها. وهذا هو الخطّ الإنساني الإسلامي عند الإمام عليّ (علیه السلام): «الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل وتؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه»، أي حاول أن تعفو لتعرض أمام نفسك هذه الصورة: أنت مذنب أمام الله وتطلب من الله العفو والصفح وهؤلاء المذنبون أمامك ويطلبون منك العفو والصفح، فإذا كنت لا تعفو عنهم، فكيف تطلب من الله أن يعفو عنك. وإذا كنت تأمل من الله أن يعفو عن ذنبك وأن يصفح عنك فعليك أن تفكر بأن تعفو عن هؤلاء وتصفح عنهم. ثمّ نلتقي بالإمام زين العابدين (علیه السلام) في هذا الاتجاه في دعاء (أبي حمزة الثمالي) عندما يقارن العفو عند الله بالعفو عن العباد الآخرين: «اللّهُمّ إنّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفُسنا، فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا»، يعني نحن لسنا أكرم منك، نحن نعفو عمّن ظلمنا وأنت لا تعفو عنّا وقد ظلمنا أنفُسنا وقد ظلمناك حقّك، هذه معادلة لا تصح لذلك فلتعفُ عنّا يا رب إذا عفونا عن الذين من حولنا. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا أخبركم بخير خلائق الدُّنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، وأن تصل مَن قطعك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاء مَن حرمك، وفي التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشَّعر ولكن حالقة الدِّين». نخلص من ذلك إلى أنّ مسألة العفو في الإسلام هي مسألة تتوازن مع مسألة الحقّ.
الإسلام يعطيك الحقّ ويطلب منك أن تعفو عفو صاحب الحقّ عن حقّه ويعدك الله بالأجر غير المحدود على عفوك. وبهذا يكون العفو في الإسلام إنسانية عندما ينفتح على الناس الذين لا يضرهم العفو، كما هو حال المجرمين الذين لا يزيدهم العفو إلّا إصراراً على الاعتداء والإجرام. ويبقى الإسلام في أخلاقه واقعياً يدرس الإنسان في نقاط ضعفه ونقاط قوّته فيجعله يعيش التوازن بين الحقّ وبين العفو وهذا ما ينبغي لنا أن نعيشه وأن نتخلّق بأخلاق الله: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) (النِّساء/ 149). هذه هي الأخلاق غير التجارية وهي أن تعطي في الوقت الذي يمنعك الآخر.
والآن نأتي للجائزة، فما هي جائزتك إذا كنت عافياً عن الناس، تعفو عن زوجتك إذا أخطأت وتعفو عن ولدك أو عن جارك وعن صديقك إذا أخطأوا، ما هي الجائزة المعدّة لك من قبل الله؟ لقد جاء في الحديث أنّه: إذا أوقف العباد نادى منادٍ ليقم مَن أجره على الله وليدخل الجنّة. قيل مَن الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس، ألم تسمعوا قوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (الشورى/ 40).مقالات ذات صلة
ارسال التعليق