• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العفو والصفح والتسامح

عمار كاظم

العفو والصفح والتسامح

إنّ التسامح هو الطريق إلى الله والحبّ والسعادة وهو الجسر الذي يتيح لنا مفارقة الذنب واللوم وإنّه يعلّمنا أنّ الحبّ أساس السعادة. إنّ التسامح قبل أن يكون حالة نفسية وسلوكاً اجتماعياً، يجب أن يُبنى على قاعدة فكرية، ليكون التسامح مبدأ لا يتزحزح، والتساهل مع الآخرين منهج والتزام ثابت. إنّ التعصُّب ليس دين، بل هو جاهلية، ولذلك ذمّ الله تعالى مشركي قريش لأنّهم كانوا يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22). أمّا منطق الإسلام، فكان: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256)، شعاراً لا يقبل تحريف ولا تأويل.. شعار يحترم خيار الإنسان الذي أكرمه الله تعالى وجعل له عقلاً ومنطقاً واختياراً وإرادةً. ثقافة التسامح مطلوبة لكي يعيش الناس في أمن وسلام وتعاون وانسجام، وهي مفيدة لتقريب الأفكار وتكامل الحضارات. ولكنّها قبل كلّ شيء، مطلوبة لكي يعيش الإنسان حالة السلام مع نفسه ومع الآخرين، فلا يستيقظ ولا ينام وهو يعتقد أنّ الناس من حوله أعداء، وهو في حرب معهم ليل نهار، وبذلك يفقد أمنه واستقراره، ويجلب لنفسه العناء والشقاء.

إنّ التسامح هو أحد سُبل تعزيز العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وهذا يعني عفو الإنسان وحلمه عمن يؤذيه ويسيء معاملته أو يختلف معه في الرأي والعقيدة والذي قد يكون هو المنطلق في الإساءة والأذى من باب رفض الآخر المخالف.. فهو إذاً القدرة على التفاعل الاجتماعي وإدارة الخلاف بصورة تعترف بالآخر ولا تلغيه. حيث إنّ لغة العنف هي إلغاء الآخر أمّا لغة التسامح فهي الاعتراف بالآخر ولكن عبر مساحات يتطلبها البناء الإنساني والاجتماعي.

إنّ العفو والصفح والتسامح من أهم الصفات التي جاء بها القرآن الكريم، والتي كانت من أخلاق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن جملة خلقه العظيم، قال الله عزّوجلّ: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199)، وقال سبحانه وتعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85)، وقال عزّوجلّ: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (النور/ 22). والتسامح هو الممحاة التي تزيل آثار الماضي المؤلم، قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237)، وقال الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): «أفضلُ أخلاق أهلُ الدنيا والآخرة أن تصل مَن قطعك وتعطي مَن حرمك وتعفو عمَن ظلمك».

وللتسامح أهمية كبيرة حيث يخلص التسامح الفرد من أخطائه التي قام بها وشعوره بالذنب والإحراج، وذلك من خلال مسامحته لنفسه وتصحيح أخطائه. كما ويرفع من رقي الشخص الذي يبادل الإساءة بالتسامح، وتجعله إنساناً مليئاً بالخير، ويمتلك نفسية سويّة، بعيدة عن الحقد والكره والأمراض النفسية. ويجنّب التسامح حدوث المشاكل بين الأصدقاء والمحبّين بسبب سوء ظنّهم ببعضهم البعض وعدم تلمس الأعذار لهم. كذلك سينال الشخص المتسامح الثواب من الله تعالى، وسيعفو عنه بالمقابل. ويحقّق المقدرة على التعايش بين الأفراد والشعوب، من خلال المحافظة على حقوق الغير وتقبل الاختلاف بشتّى مجالاته، دون اللجوء للعنف والصراع ومشاعر الحقد والكراهية والعنصرية. ومن ثمرات التسامح تحقيق المصلحة العامّة كأوّلوية مع المحافظة على مصالح الأفراد، من خلال عدم التعدي عليها والسماح بتحقيقها بالطُّرق القانونية والسليمة. ويرفع قيمة العلم والتثقيف والحوارات الفعّالة والبناءة، حيث يجعل الأفراد يهتمون بالأساليب وبتحقيق مراتب عليا من الثقافة والتعليم حتى يصل لأهدافه بالطُّرق السليمة، دون أن يعتدي على حقوق غيره.

وأخيراً، على الجميع أن يشترك في ضرورة تأصيل مفهوم التسامح وتعميمه بين الناس، فإنّ الواحد منّا عندما يعفو ويصفح إنّما يفعل الخير لنفسه ومع نفسه قبل أن يصل إلى الآخرين، لأنّ هذا الخير سيسجل في صحائف مَن فَعله، ثمّ سيرى عاقبته الكريمة في الدنيا قبل الآخرة.

ارسال التعليق

Top