1
الفاتحـة والبقـرة
(بيان بالمعنى العام)
لجنة التأليف – مؤسسة البلاغ
المدخل:
ليس هذا كتاباً في التفسير.. ولا يحقُّ له أن يدَّعي ذلك.. هو للثقافة القرآنية أقرب منه إلى التفسير، بمعنى أنّ على القارئ اعتباره مُقدّمة أو مدخلاً في فهم القرآن يمكنه النفوذ من خلاله إلى أُمّهات التفاسير المعتبرة.
ولا يتكّلف (أصداءُ القرآن) بإعطاء معاني المفردات -كما في المختصرات التفسيرية-، وإنما تأتي المعاني في سياق السرد البياني ذاته.. هو مكتوب بلغة عصرية سلسة خالية من التعقيد، وبلمسات أدبيّة وفنيّة لا تخرجه عن إطاره بصفته كتاباً مقدّساً، ومُدَعّماً بأمثلة تقريبية مستوحاةً من الواقع، ومُزوَّداً بآيات قرآنية تعضد المعنى اعتماداً على قاعدة أنّ القرآن يُفسِّر بعضه بعضاً، وببعض الروايات المفيدة في الفهم.. وعلى ذلك فـ(أصداءُ القرآن) كأنّه سورة قرآنية واحدة، أو أشبه بقصّة قرآنية متكاملة فاتحتها (الفاتحة)، وخاتمتها (الناس).
لكلّ سورة في هذا الكتاب فصلان:
الأول: محاورها الرئيسة (أشبه بموجز الأخبار)، والثاني: تدبُّرها استيحاءً من قوله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾، والخط العام في مجمل هذا البيان هو محاولة ربط الفكرة القرآنية بالواقع الاجتماعي المعاش، خاصة وأنّ القرآن ليس كتاباً تاريخياً، وإن شغل التاريخ حيزاً كبيراً منه؛ لكنّه تاريخ السنن الإلهية لا تاريخ القصص والحوادث والشخصيات التي عفى عليها الزمن.
من هذا المنطلق، فإنّ (أصداءُ القرآن) لم يسقط التكرار في القصص بحجّة أنّ قصة موسى7 -مثلاً- وردت في البقرة ولا حاجةً للعروج عليها في سور تنقل لنا حوادث مقاربة أو متشابهة كما في الأنبياء والقصص والشعراء وغيره.. لأنّنا نرى في كلّ عرض قرآني للقصّة الواحدة شيئاً جديداً.
بقي أن نقول بأنّ (أصداءُ القرآن) يعتمد أسلوب (الوحدات القرآنية)، فحيثما تجتمع آيات ذوات خطاب أو خصائص مشتركة، أو أنّها تلتف حول محور أو معانٍ متقاربة، فإنّ الكتاب يفرد لها وحدة واحدة مستقلة -لكنها غير مقطوعة عن باقي الوحدات- وقد تطول الوحدة أو تقصر بحسب عدد آياتها.
وحسبنا أنّنا في (مؤسسة البلاغ) حاولنا جهد إمكاننا أن نُقدِّم لـ(بنات وأبناء الجيل) مادّة مُيَسَّرة في (الثقافة القرآنية) الداعية إلى التغيير نحو الأفضل، والمُعرِّفة بالتصوُّر الإسلامي للأفكار والمفاهيم والعلاقات التي تبني الشخصية الإسلامية – القرآنية، والله المنّان المستعان نرجو أن ينفع به في زمن الارتداد إلى الوراء، والتطرُّف، والابتعاد عن روح القرآن وجوهره، إنّه نعم المسؤول.
مؤسسة البلاغ
سورة الفاتحة[1]
أولاً- محاورها:
1- تُعلِّمنا (الفاتحة) الحمدُ والثناء على الله الكريم المُنعِم بجميع النِعَم.. فالشكر بعض حقّه تعالى: ﴿ واشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة/ 152).
2- تُؤكِّد على أنّ الألوهية مُتمثِّلة به عزّوجلّ حصريّاً ﴿لا إِلَهَ إِلّا هُوَ﴾ (البقرة/ 163).
3- تُحصر الربوبية به سبحانه، فهو المربِّي الأوّل، وكلّ الكائنات طائعة له: ﴿اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ (الصافات/ 126).
4- تُشير إلى الرحمة الإلهية بسعتها الواسعة ودوامها الدائم: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام/ 12).
5- تُبيِّن بأنّ المُلك لله تعالى، فهو المالك الحقيقي لكلّ شيء: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ (آل عمران/ 26).
6- تُثبت حقيقة القيامة ويوم الدين: من معاد وحشر وحساب وجزاء: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ (الأنعام/ 60).
7- تُؤكِّد على أنّ العبودية الخالصة لله تعالى وحده (لا معبود سواه): ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البيِّنة/ 5).
8- تُوضِّح أنّ الاستعانة المطلقة به -جلّ جلاله- (لا حول ولا قوّة إلّا بالله).
9- تُبيِّن أنّه تعالى هو الهادي إلى سبيل الرشاد والصلاح: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه/ 50).
10- ترسم معالم الصراط المستقيم على أنّه خطّ المُنعَمْ عليهم من الصادقين والصالحين والمخلصين، لا خطَّ المطرودين من الرحمة من الفاسدين والظالمين والمنحرفين: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ (الأنعام/ 153).
ثانياً- تدبُّرها:
(1) : على اسم الله الواسع والدائم الرحمة نبدأُ كلَّ عملٍ أو مشروعٍ خيِّر لنستلهم منه: (القوّة) و(الصواب) و(اللُّطف) و(التوفيق) و(الثبات).. فالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم): فاتحةُ (العقل) على النور والمعرفة، و(القلب) على الذكر وحبُّ الله، و(الحياة) على العمل الصالح النافع المبارك. هي حلقة الارتباط بين تعاليم الله تعالى ووعي المستمع المتلقي بانتباه.. هي إشارةُ البدء والشروع بـ(أسمى بداية) لـ(أنبل غاية). بغيرها يبقى العملُ ناقصاً مبتوراً.. هي كمالُ العمل لأنّها سرُّ الإخلاص فيه.
(2-3) : نحمدُ الله ونشكره ونثني عليه لأنّه مُربّينا والمنعمُ علينا، وهادينا وراحمنا، ولذلك كان الحمدُ (الفاتحة الثانية) بعد البسملة. إنّه نقطة الانطلاق من (تقدير النعمة) إلى (شُكر المُنعِم)، ومن (استشعار الرحمة) إلى (تعظيم الراحم). إنّ تلازم (السعة) و(الدوام) في الرحمة يمنحها مداها الأكمل، ويمنح الحياة نفحة الأمل الأكبر.
(4) : ويوم نلتقي الله في الآخرة: يوم القيامة والحشر والحساب والجزاء، سوف ندرك أنّ (لا مُلكُ) إلّا لله، وأنّ (لا حُكمَ) إلّا لله. وإنّ مُلك الدنيا وحكمها لا أصالة ولا ثبات له. في ذلك اليوم، يوم العدل الكلِّي، نشهد الفصل التام بين (المصدِّقين) بالقيامة، وبين (المكذِّبين) بها. إنّ يوم الدين ويوم الحساب هو الذي يعطي للعمل (قيمتَهُ)، وللحياة (غايتها)، وللحركة (استقامتها).
(5) : ومادام الخالقُ المربّي هو الله تعالى، وهو المتفضِّل بنِعَمِه ورحمته، وهو المُحاسِب، فلا نملكُ إلّا أن نعبده مخلصين له الدين، إذ لا أحدَ يستحق العبادة غيره.. ومادام هو مالك المُلك الذي بيده كلّ شيء فلا تصحُّ الاستعانة وطلب العون والاستغاثة إلّا به ومنه (وكلّ معين في الخير هو عامل من عُمّال الله). صلاحنا إذاً هو بين (تخصيص العبادة له) و(تخصيص الاستعانة به)، ولا فلاح ولا نجاح بغير ذلك.
(6-7) : فيا ربّنا، ومالِكنا، ومصيِّرنا إليه، خُذْ بأيدي عقولِنا إلى خير الأفكار، وبأيدي قلوبنا إلى أطيب العواطف وأرقى المشاعر، وبحركة أجسامنا إلى دروب العطاء والاعتدال والاستقامة، حتى نكون المؤهّلين لحمل اسمك، وخلافة الأرض وإعمارها وإصلاحها. خُذْ بنا إلى كلّ عملٍ فيه خيرُنا وصلاحنا وسعادتنا وكمالُنا، وكلّ مشروعٍ فيه رقي وصلاح وسلام مجتمعنا، وذلك هو خطُّ السعادة ومنهجُ الصالحين الممتد من (آدم7)، إلى آخر (آدميٍّ) صالح، المُبتعد عن خط الانحراف من (قابيل) إلى آخر (قابيليّ)، ومن (إبليس) إلى آخر (إبليسيّ)! (بهذا نُصلِّي إليك يا ربّ وبه ندعو دائماً).
سورة البقرة[2]
أولاً- محاورها:
1- تفتتح (البقرة) خطابها بحقيقة أنّ القرآن كتاب هداية لمن شاء أن يهتدي ويبحث عن طريق الهداية والصلاح والنجاح (وهذه المقدّمة تتكرَّر في العديد من السور للإشارة إلى أنّ ما يأتي بعدها ممضي عليه أنّه كلام الله الصادق).
2- تصف الكافرين والمنافقين وصفاً فكرياً ونفسياً وعملياً، كاشفةً عن خصائصهم المنافية للإيمان.
3- تقف وقفات عدّة للتعريف بوحدانية الله تعالى وعظمته وجزيل نِعَمِه.
4- تحكي عن بداية الخليقة ومعركة الإنسان والشيطان.
5- تتحدّث عن الناكثين والناقضين لعهودهم والمتمرِّدين على أوامر الله من بني إسرائيل وغيرهم.
6- تتناول الصراع بين أتباع الديانات، نافيةً أحقيّة وصدقيّة كلّ منهم، ومبيّنةً عدم استعداد ورضا أيّ منهم عن الآخر حتى يتبعه في انحرافه.
7- تنقل لنا وصايا الأنبياء إبراهيم7 ويعقوب7 لأبنائهما.
8- تصفُ لنا كيف بنى إبراهيم وإسماعيل8 البيت الحرام، وبماذا دعوا الله سبحانه بعد الفراغ من بنائه.
9- تقصُّ علينا قصّة تشريع القبلة نحو البيت الحرام.
10- تُقارن بين طاعة المؤمنين ومعصية الكافرين، مبيّنةً صفات وجزاء كلٌّ منهما.
11- تُصحِّح لنا مفهوم (البرّ) على أنّه عملٌ فيه نفعٌ للناس قبل كلِّ شيء.
12- تُوردُ عدداً من الأحكام الشرعية كـ(القصاص) و(الوصية) و(الصوم) و(الدُّعاء) وكيفية التعامل الماليّ، و(الحج) و(الجهاد) و(الخمر) و(القمار) و(الحيض) والحِلف (القسم)، و(الإيلاء) أي الحلف بترك مواقعة الزوجة، و(الطلاق) و(الرضاعة)، و(العدّة) بعد وفاة الزوج، و(الصلاة) و(القرضة الحسنة).
13- تحكي لنا قصّة (طالوت) وجنوده المنقسمين بين الطاعة والعصيان، ومعركته الفاصلة مع الطاغية (جالوت)، وبروز شخصية البطل (داود7).
14- تروي لنا قصّة المحاججة (المناظرة) بين إبراهيم7 وبين الطاغية (النمرود) وإثبات وحدانية الله تعالى.
15- تنقل لنا قصّة (عُزير) أو (أرميا) الذي رأى مدينةً مات أهلها، وتساءل كيف يحييها الله تعالى بعد موتها، فأماته عزّوجلّ مئة عام ثمّ بعثه ليعيش تجربة الموت والإحياء بنفسه.
16- تربط -في تبيان كيفية المعاد- بين قصّة العُزير، وبما سأله إبراهيم7 في كيفية إحياء الله الموتى، وإمراره بتجربة تقطيع لحوم أربعة من الطير وإعادة إحيائها.
17- تُقارن بين الصدقات المخلصة البعيدة عن (المنّ) بإظهار التفضُّل على المُتصدَّق عليهم، و(الأذى) بأي لفظ جارح أو تصرُّف غير لائق، وبين الصدقات التي تُعطى أو تُقدَّم لنيل مرضاة الله والثواب العظيم الذي ينتظر المتصدِّقين بإخلاص.
18- تنهي عن تعاطي (الرِّبا) وتُقارن بينه كمتلفٍ للمال، وبين (الصدقات) المربّية للمال والمنمِّية له.
19- تتكلّم بالتفصيل عن ضرورة وجوب كتابة الدَّيْن والإشهاد عليه لئلّا يضيع حقٌّ بإنكاره من قِبَل المَدين.
20- تختم بالإشارة إلى وحدة الخطّ الرساليّ، النبويّ، التوحيديّ، وبالدُّعاء وطلب العفو والنصر على الأعداء.
ثانياً- تدبُّرها:
(1) : الحروف المقطَّعة قد تعني المادّة الأوّلية (الخام) لبناء الكتاب العربي، أو الأحرف العربية التي يُصاغ منها النور، أي إنّها حروف كأيّة حروف لكنّ حمولتها لكلمات الله تختلف، ولعلّ هذا هو سرّ إعجازها. وقد تكون رمزيّة، كما هي المختصرات اليوم التي تختصر كلماتٍ عدّة باستعمال أحرفها الأولى، وربما كانت أصواتاً لاستقطاب السمع. ومهما يكن، فهي المداخل أو البوابات المؤدِّية إلى الرحاب أو الأعماق القرآنية. (هي –على نحو التقريب- تشبه دقات الجرس الخارجيّ تؤذنُ أنّ القادم هو كلماتُ الله)!!
(2-5) : ذلك الكتابُ (القرآن) العالي في قدره ومنزلته، العميق في أبعاده ومعانيه، الخالي من كلّ باطل وتناقض واختلاف (موجَّه لكلّ الناس) لكن الأتقياء الذين يراقبون الله فلا يعتدون على أحد، هم أكثر الناس فهماً واستيعاباً له، كونهم يؤمنون بعوالم وأكوان غير مرئية لا تُطالها (الأبصار) ولكن يمكن أن تصل إليها (البصيرة). وكونهم يقيمون الصلاة بشروطها في النهي عن الفحشاء والمنكر، وكونهم يؤدُّون الزكاة والصدقات والنفقات وهم يدركون أنّ المال هو مال الله وهم مُستَخلفون فيه وموكَّلون عليه ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ (الحديد/ 7)، وكونهم شاملي الإيمان يؤمنون بما جاء به نبي الإسلام محمّد6 وكلّ ما جاء به الأنبياء الذين سبقوه، وكونهم يؤمنون أنّ المعاد يوم القيامة حقّ، وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها وأنّ الله يبعثُ مَن في القبور.. لكلّ هذه العوامل التي تصنع الهداية وتعضدها، كان القرآن سبباً كبيراً في هداية المتقين وزيادة هداهم. (الأرضُ الخصبةُ يزيدها المطرُ النازلُ من السماء خصوبةً وانتعاشاً وازدهاراً.. و(الفلّاح) الماهر هو الذي يستثمر خصوبة أرضه وبركات السماء ليحصد (الفَلاحْ))!!
(6-7) : أمّا الكافرون بالقرآن الذين ارتضوا الابتعاد عن خطِّ الله (خطّ السلامة والفلاح)، فلا نداءَ -مهما كان مُخلصاً ومفيداً- يجتذبهم إلى طريق الخير وميدان الصلاح. (إنّهم أغلقوا أبوابهم عامدين بوجه النور، وقرَّروا أن يعيشوا كالطحالب في الظلام). إنّهم مُحاطون بالحُجب والسواتر الكثيفة من كلّ جانب، فكيف ينفذ نورُ الكلمات الإلهية إلى عيونهم، وكلمات الحقّ إلى أسماعهم، ونداءُ الرحمة إلى قلوبهم؟ (إنّهم أشبه بالعُلب المقفلة، من أين يدخلها النور؟!).
(8-19) : إنّ بعض الناس (خصوصاً المنافقين) ازدواجيون: يقولون الحقّ ولا يعملون به، ويرفعون الشعار ولا يمارسونه (إنّهم كمَن يعرف أنّ لا حياة بلا ماء ولا هواء، فلا يشرب الماء ولا يتنفّس الهواء، فإذا مات عطشاً أو اختناقاً فهو المَلوم). هؤلاء القائلون بالحقّ المخالفون له في الواقع يتصوّرون أنّ لعبتهم المخادعة تنطلي على الله -جلّ جلاله- وهي لا تنطلي إلّا عليهم. إنّهم -على عكس ما يتصوّرون- لا يوهمون إلّا أنفسهم. وهم مرضى العقول والقلوب والنفوس لأنّ تفكيرهم سقيم وعقيم (وإهمال المرض عادةً يستدعي المزيد من التدهور والانتكاس والتردِّي والتسافل، هكذا يقول الطبّ ويُصرِّح الأطباء، وهذا ما يؤكِّده تاريخ الصحّةِ منذ القدم).
هؤلاء المخادعون والكاذبون المكذِّبون، الفاسدون المفسدون، لا يحسنون إلّا التخريب ويدّعون أنّهم هم المصلحون، ولا يخدعون بادعائهم هذا إلّا أنفسهم، لأنّ المفسد المخرِّب لا يمكن أن يكون بانياً صالحاً (والمريض مهما حاول لا يقنع أحداً أنّه مُعافى).
هؤلاء المنافقون الذين (يُظهرون الصلاح) و(يُبطنون الفساد) معاندون مستكبرون يرفضون رفضاً قاطعاً أن يكونوا من مجتمع الصالحين، لأنّهم يرونه مجتمع السُّفهاء والبُلهاء والسُّخفاء، ولا تنطبق هذه الصفات الخسيسة إلّا عليهم. وهؤلاء المنافقون متلوِّنون متقلِّبون لا يثبتون على مبدأ أبداً. يقولون للمؤمنين إنّهم منهم ومعهم، وإذا التقوا بأمثالهم من شياطين البشر قالوا إنّهم منهم ومعهم، والثاني هو الصحيح، وهذا الاستهزاء بالإيمان والمؤمنين مردود على المنافقين لأنّه يزيد في عماهم وانغماسهم في وحول ومستنقعات الظلام. إنّهم في الواقع تجّار فاشلون.. يبيعون الغالي النفيس (الإيمان)، بالتافه الرخيص (النِّفاق). ومَثلُ هؤلاء المنافقين أشبه بمُشعلٍ للنار في حُلكة ظلام الليل، فإذا بَدَّد نورُ النار بعض الظلام المحيط خمدت النار فجأة وأغرقوا في الظلام من جديد، فأيّ انتفاعٍ بنورٍ ناريٍّ سريع الاشتعال، سريع الانطفاء والخمود؟! ويمكن تشبيههم أيضاً بمطر نازل من السماء في الليل تُصاحبه الظُّلمات والرعد والبرق والصواعق، فيتحاشون رُعبه المميت بوضع أصابعهم في آذانهم، وينتهزون فرصة الضوء البرقيّ ليستدلّوا على طريقهم، ثمّ سرعان ما يخبو ويخفت ويتلاشى.. إنّ الله قادر على إذهاب سمعهم فلا يسمعون صوت الرعد، وعلى إذهاب أبصارهم فلا يرون ضياء البرق، وعلى جعلهم يتخبّطون في الظُّلمات يرتطمون بكلّ شيء ويخافون من كلّ شيء ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ (النُّور/ 40). (وخلاصة المثلين: ليس للكافر والمنافق نور دائم يستضيء به في حركته في الحياة، فكيف يقود السائق سيارته في العتمة بسلام؟!).
(20-22) : إنّ النتيجة العقلانية للتفكُّر في خلق الله تعالى هي أنّه وحده المستحق للعبادة التي تُضيء طريق الحياة. (اقرأوا تاريخ العبودية البشرية لله عزّوجلّ، وستعرفون مَن هم الفائزون). والعبادة كـ(منهج صلاح تربويّ) هي لكم أيُّها الناس ولمصلحتكم لأنّها تمنحكم معيار الصواب وميزان الحقّ والعدل والصلاح. تأمَّلوا في بعض آثار عظمة الله: لقد جعل الأرض مبسوطة كالفِراش حتى يسهل عليكم العمل والتنقُّل لطلب المعاش في النهار، وجعل السماء سقفاً مزيَّناً بنور الشمس لحاجة النهار المليء بالحركة إليها، وبضوء القمر والنجوم حتى يسهل التحرُّك في الليل، بل وجعلها باباً مفتوحاً تنزل منه البركات المائية (المطريّة) التي تسقي المزارع والحقول (مَن غيرُ الله عزّوجلّ قادرٌ على أن يفعل ذلك، أو بعض ذلك؟ فإذا لم يكن ولن يكون، فكيف يُعبَدُ أو يُطاعُ العاجز؟!).
(23-25) : ومَن يشكُّ بأنّ القرآن ليس كتاباً إلهياً، وأنّ النبيّ6 ادّعى أنّ الكتاب من عنده، فليُعمل عقله ويأتي بسورة واحدة تشبه أيّة سورة من سُوَر القرآن، وليستعن بغيره من أجل تحقيق هذه المهمّة (المَضيعة للوقت، لأنّ سُوْرَ القرآن عالٍ أعلى من أن يتسوّره الشكّاكون أو يُطاله الكاذبون). فإذا فشلتم في مهمّة الإتيان ببعض القرآن (وأنتم محكومون بالفشل سلفاً لمحدودية قدراتكم وعجزكم الظاهر عن ذلك) فلتسلِّموا معترفين أنّه من عند الله تعالى، ولتخافوا المعاد الذي تُعرضون فيه للحساب حيث يخيب ويخسر الكافرون المكذِّبون المُبطلون. وفي مقابل هؤلاء المكذِّبين، يقف المؤمنون الصادقون بآيات الله وكتابه، العاملون الصالحات طلباً لمرضاة الله تعالى، ليحصدوا نتائج ما عملوا جنّاتٍ خالدة نعيمها لا يزول، وصاحبات (زوجات) مطهّرات من كلّ عيب يعيشون معهنّ الأنس المستديم والقرب الذي لا يقاربه فراقٌ أليم.
(26-29) : (أمثالُ الله تعالى المضروبة في القرآن، والدالّة على عظمة خلقه مستوحاة من واقع مخلوقاته التي لا تُقاس بحجومها، بل بعظم خلقتها).. و(البعوضة) على صغر حجمها دليلٌ على الصناعة الربّانية المُعجزة التي لا نظير لها: فكيف بما عداها من مخلوقات أضخم وأعظم وأكثر تركيباً وأشدّ تعقيداً؟! إنّ الخارجين عن دين الله من الفسقة المتمرِّدين لا يتأمّلون في مخلوقات الله تعالى، فلا ينتفعون بما في مَعرِض الكون من دروس بليغة على أنّ الصانع واحد لا يتعدَّد، ولذلك تراهم جهلاء يكفرون بالله بلا دليل، وخونة لا يلتزمون بعهد توحيده الذي قطعوه على أنفسهم في أوّل الخلق، ويخالفون كلَّ أمر إلهيّ للناس فيه مصلحة، ويملأون الأرض قُبحاً وفساداً وجرائمُ فظيعة. (هؤلاء ضِعاف العقول بحثوا عن الربح عند غير الله العليّ العظيم فعادوا من رحلة البحث خاسرين). إنّ منطق العقل يقول بشكلٍ جازم: إنّ (المُحيي) (المُميت) المتصرِّف بالحياة بكلّ أشكالها ومرافقها وممتلكاتها، المقدِّر للآجال ومواعيد الموت، والباعث بعد الموت، يجب الإيمان به لأنّ القوّة كلّها له، ويقول بنفس الجزم والحزم: إنّ الذي خلق كلَّ ما على الأرض من نِعَم مُسخَّرة لخدمة الإنسان، وصنع السماوات السبع بكلّ ملحقاتهنّ وبركاتهنّ، هو الإله العليّ الأعلى الذي لا إله غيره ولا معبود سواه.
(30-39) : قصّةُ خلق الإنسان وجعله خليفة لله في الأرض، منعطفٌ كونيٌّ كبير، على اعتبار أنّ الإنسان مخلوق الله الأعظم: (المختار)، (الحرّ)، (المُريد)، (الجامع للمتناقضات)، (القابل للوصول إلى درجات عليا من الكمال)، المُنتَدب لفعل الخير أو فعل الشر بموجب اختياره، وهبه الله تعالى العلم: عَلّمه الأشياء كلّها بأسمائها ومسمّياتها، الألفاظ والمعاني، الرموز والدلالات، الآلات والاستعمالات، المادّيات والمعنويات، وهذا هو العلم الذي يستحق أن يُكرَّم به الإنسان العاقل المُريد المختار. وآدم7 -أبو البشرية- ربيبُ الله وتلميذه الأوّل، استحقّ -بما امتاز به من مزايا- أن يُعلِّم الملائكة، واستحقّ سجودهم التكريميّ له (إنّه إجلالُ غير العالم أو محدد والعلم للعالم)!. أمّا إبليس (حاسد الإنسان) العاصي، الكافر، المغرور، المتكبِّر (ومعه كلُّ أبالسة التاريخ) فضيِّق الفكر، محدود الرؤية، ضحلٌ في قياساته التافهة الباطلة. (إنّه ينظر إلى (الخَلق الخارجيِّ) ولا يرى (الخُلُقَ الداخليَّ). كانت التجربة الأولى تعليمية، يكتسب الإنسان من خلالها معرفة (الخطأ) من (الصواب). (والتحذيرات الصادرة من العالمين المخلصين جَدّية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار). فالجنّة (البُستان) على سعته مباح لزوجين سعيدين آمنين هما (آدم وحواء) ما عدا شجرة واحدة ممنوعة فقط. الاقتراب منها يُوقع ويغري بالأكل منها، وعلى ذلك تكون المخالفة للممنوع معصية. (تلك هي قصّة الإنسان مع الشريعة في حلالها وحرامها. مساحة الحلال واسعة بسعة الجنّة (البُستان)، ومساحة الحرام ضيِّقة بضيق شجرة واحدة، وفي الحلال ما يُغني عن الحرام)، إلّا أنّ حرص الإنسان على تناول الممنوع (المحرَّم) هو الذي يبعده عن الجنّة ويطرده منها. (وللإنسان أعداءٌ كثيرون من أكبرهم (نفسه التي بين جنبيه)، و(الشيطان) الذي يُزيِّن له المعصية ويُغريه بها ليخرجه من النعيم الذي هو فيه، وستكون (الدُّنيا) ثالث الأعداء بعد هبوطه إليها. فلا ينبغي للإنسان أن يحتقر عدوّاً وإنْ ضَعف). أخطأ الإنسان الأوّل (آدم) ولكلّ خطأ -قبل الموت- معالجة وشفاء، وأبواب التوبة مفتوحة على مصراعيها ما دامت الحياة جارية. عَلّم الله تعالى إنسانه الأوّل كيفية التوبة بعد أن أخطأ، فتاب عليه، وكذلك يتوب سبحانه وتعالى على كلّ الآدميين الخاطئين التوّابين، إلّا أنّ لكلّ شيء ثمناً، فكان من حصيلة الاختيار الخاطئ الهبوط والانخفاض والتسافل في الدرجة. وبذلك انتقل آدم7 وزوجته حواء3 من (بُستان) السلام إلى ساحة الصراع يصحبهما عدوّهما الشيطان. وبعد أن دفعا ضريبة الإبعاد عن الجنّة (البستان) بسبب إغراءات الشيطان وخداعه، كان عليهما أن يحذراه دائماً في التجارب اللّاحقة، ومَن لم ينتفع بهذا الدرس ويبقى يستمع لتسويلات الشيطان فإنّ مصيره النار التي يجمع حطبها قشةً قشة وخشبةً خشبة حتى يكون هو الحارق لنفسه باجتماع أحطاب ذنوبه!
(40-50) : على مدى (63) آية سنطالع قصّة مليئة بالدروس والعِبرَ، هي قصّة بني إسرائيل؛ لكننا نتتبعها فصلاً فصلاً.
(بنو إسرائيل) (جماعة تأريخية لها ما يشابهها في الواقع على مرّ الأزمنة والعصور) أنعم الله عليهم بنعمة النجاة من الحُكّام الظالمين، وعاهدوه -من خلال نبيهم موسى7- على الالتزام بدينه لمصلحتهم، وحذّرهم من أن يتاجروا بالدين فيحوطونه ويراعونه ما درّت معائشهم (ما حصدوا به من مكاسب دنيوية) ويعوفونه أو يُعرضون عنه إذا تعرّضوا للبلاء والشدّة. تضمّن العهدُ شروط عدم خلط الحقّ بالباطل، وعدم كتمان الحقّ وإخفائه لئلّا تفسد الحياة، وتزوّر الحقائق، وتضطرب العلائق. واشتمل كذلك على شرط إقامة الصلاة على أكمل وجوهها: (الإمتناع عن القبائح والمرفوضات العقلية)، وتقديم الصدقات لمستحقّيها من الفقراء والمساكين الأشدّ فقراً، والأسرى، والمديونين، وبقية المحتاجين، وأن يكونوا مجتمع العبادة المخلصة لله لا للشيطان. إنّ المجتمعات الرسالية (التي لديها كتاب سماوي) مجتمعات مسؤولة لأنّها مجتمعات عالمة أو عارفة بحسب تعاليم كتبها وأنبيائها، فكيف تدعوا إلى (الصلاح) وهي غير صالحة، أليس الداعي إلى الصلاح أوّل الصالحين المؤمنين برسالته الإلهية، وبـ(المعاد) والحساب يوم القيامة؟!
المهمّة صعبة لكنها تُذلَّل بالثبات وعدم الجزع، واعتماد الصبر واعتياد التحمُّل، والدُّعاء إلى الله بالتثبيت على خطّ الاستقامة. وهم مُطالَبون -إلى جانب تذكّر شروط العهد والوفاء بها- أن يذكروا نِعَم الله تعالى عليهم وأنّه خصّهم برسالة هادية للصلاح والسعادة، وإنّه سبحانه أنقذهم ونجّاهم من بطش الطاغية فرعون الذي حَطّم نفوسهم بالإذلال، ودَمَّر حياتهم بالقتل والاستئصال، وأن يذكروا كيف أغرقه عزّوجلّ في البحر ومَكّنهم من عبور البحر نفسه بسلام، وأن يذكروا القيامة واليوم الذي هم فيه مجموعون -مع سائر الخلائق- للحساب والجزاء، حيث لا تنفع أنساب ولا أحساب ولا بدائل ولا تعويضات. وأن يتذكّروا مواقفهم المخجلة والمخزية: كيف اتخذوا العجل إلهاً في فترة غياب نبيّهم، ناسين أنّ الذي نجّاهم من فرعون ومن الغرق في البحر هو الله الذي لا يقدر على تلك المعاجز سواه.
(51-56) : وكما تاب الله تعالى على آدم7 حين أخطأ باتّباعه الشيطان من الأكل من الشجرة المحرَّمة، تاب على بني إسرائيل حين أخطأوا باتّباع الشيطان في عبادة العجل لأنّهم تراجعوا عن خطأهم تائبين. (وباب التوبة مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية لا يُغلق أبداً، وهي نعمة كبيرة تستحقّ من التائبين الشكر للتوّاب الرحيم). ولذلك كانت الرسالات السماوية فرقانيّة: يستطيع الإنسان على ضوئها أن يُفرِّق بين ما هو (حقّ)، وبين ما هو (باطل)، فهي (المعيار) و(المرجع) وبها يُحكم على غيرها. أمّا عقوبة التصفيات الجسديّة بقتل بني إسرائيل بعضهم لبعضهم الآخر على عبادة العجل دون الله، فعقوبة تطهيريّة يُراد بها تخليصهم من الشِّرك العظيم الذي هو ظُلمٌ عظيم: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان/ 13). وعلى الرغم من أنّ بني إسرائيل قد رأوا فعل الله وآثار قدرته في إغراق فرعون وجنوده ونجاتهم بعبور البحر سالمين، وهذا بحدّ ذاته كافٍ لإثبات وجوده -جلّ جلاله-، إلّا أنّهم -وبسبب من ضحالة وعيهم وسطحيّة تفكيرهم المادِّي- طالبوا موسى7 أن يريهم الله تعالى بنفسه أو بشخصه (سبحانه وتعالى). ولمّا لم تُجدِ (السلامة) من البحر دليلاً على وجوده، جاءتهم (الصاعقة) من السماء لتريهم عظيم قدرته، وهي هنا وهناك عظيمة. أمات الله بني إسرائيل المكذِّبين برسالته والشاكِّين بوجوده، ثمّ أحياهم بعد حينٍ لتكون إماتتهم دليلاً آخراً على قدرته وعظمته، وليذكروا ذلك الإحياء على أنّه يوم من (أيام الله) ونعمة عظيمة من نِعَمِه فيشكروه ويوقروه ولا يعصون له أمراً. وفي إحيائهم وبعثهم درس آخر في المعاد يوم القيامة.
(57-59) : كتب اللهُ تعالى على بني إسرائيل (اليهود) أن يتيهوا في الصحراء جرّاء مخالفاتهم العديدة له ولنبيّه موسى7، لكنّ رحمته الواسعة لم تنقطع عنهم، حيث كانت السُّحب والغيوم تظلّلهم في صحراء سيناء، وكان الله يرسل إليهم طعامهم من لحوم الطير والعسل. وبعد انقضاء رحلة التيه، أمرهم الله سبحانه من خلال نبيّه موسى7 أن يتوجّهوا إلى بيت المقدس لمحاربة جماعة إرهابية كانت تمارس البطش بأبشع أنواعه، من أجل أن يعيشوا أحراراً سعداء ويتخلّصوا من معاناة التيه في الصحراء. وكانت كلمة العبور والدخول من باب المدينة هي كلمة (حطّة) الاستغفارية، أي ضع أو إرفع يا إلهنا ذنوبنا عنّا. لكنّ بني إسرائيل استخفّوا بالكلمة وهزأوا بها فبدّلوها بكلمة قريبة (حنطة)، فعاقبهم الله تعالى بعقوبة الطاعون.
(60-62) : وحينما كان بنو إسرائيل يعانون التيه في الصحراء اشتكوا العطش، فطلب نبيّهم موسى7 الماءَ من الله تعالى، فأمره أن يضرب حجراً بعصاه لتنفجر منه (12) عيناً، خُصِّصت كلّ عين لجماعة من الجماعات الإسرائيلية الـ(12) التي كانت في رحلة التيه مع موسى7. (هنا يتجلّى الله تعالى مرّة أخرى في قدرته العالية، ولو وعى بنو إسرائيل الحقيقة لرأوا الله هناك بعد أن لم يروه في المرّات السابقة)!. هذا وقد ملَّ بنو إسرائيل -وهم في الصحراء الموحشة- من الطعام المتشابه المكرر يومياً، فأرادوا استبداله بأطعمة أقلّ قيمة وأردأ نوعاً، وأكثر تنوُّعاً، فأمرهم الله تعالى أن يرجعوا إلى مصر التي خرجوا منها أيام فرعون ليجدوا هناك ما يطلبوه، وحكم الله سبحانه وتعالى عليهم بأن يكونوا أذلّاء أسراء لشهواتهم، وغضب عليهم لمخالفاتهم المتكرِّرة لتعاليمه التي هي في الصميم من مصلحتهم، واشتدّ غضبه عليهم لقتلهم الأنبياء الذين كانوا يتوافدون تباعاً عليهم ليعلموهم ما يصلح أحوالهم، جاهلين أو متجاهلين إنّ القاعدة الربّانية للإيمان (في الأديان كلّها) واحدة، وهي: إيمانٌ بـ(الله) مبدأً، وبـ(المعاد) خاتمة، و(عملٌ صالح) ما بينهما.
(63-64) : (إنّ الذي لا تنفع معه المواعظ والعِبَر وموقظات العقل والضمير على تكاثرها وجلالة معانيها، يحتاج إلى مطرقة تهوي على رأسه علّه يفيق من غيبوبته الفكرية وغفلته العقلية). رفع اللهُ جبلاً هائلاً على رؤوس بني إسرائيل، ليس تهديداً للأخذ والعمل بالتوراة بالإكراه والقوّة والترهيب لأنّ المبدأ عند الله: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة/ 256)، وإنما إحداث هزّة في الأعماق قد تدفع إلى الوعي والجِدّية والصدق والإخلاص، وهو دليل آخر على (تجلّي) الله تعالى وظهوره في آثار قدرته وعظمته. (قابل هذا مع طلب موسى7 أن يرى الله وتجلّيه تعالى للجبل بعد أن جعله دكّاً منسوفاً، وبينه وبين طلب بني إسرائيل رؤية الله جهرة)! ومع توالي الدلائل والبراهين على إثبات وجود الله تعالى وقدرته المطلقة اللّامتناهية، كان العصاة العُتاة من بني إسرائيل يزدادون غطرسة واستكباراً وعناداً. فما أغرب المفارقة: كان الله تعالى يريد لهم (الربح)، وكانوا لا يريدون لأنفسهم إلّا (الخسران) (شأنهم في ذلك شأن الابن الأحمق الجاهل الذي يحاول أبوه الحريص الشفيق أن يخرجه جاهداً من ظلم جهله إلى نور العلم، ويأبى إلّا أن يرسف (يمشي مُقيَّداً) في الظلام جهولا)!
(65-66) : واحدة من تجارب العصيان اليهودي – الإسرائيلي، ما فعله الصيادون من بني إسرائيل في القرية التي كانت قريبة من البحر، حيث أمرهم الله تعالى -عن طريق نبيٍّ لهم- أن يحفظوا ليوم السبت المقدّس عندهم حرمته، فلا يصطادون الأسماك فيه، فكان فريق منهم ينصب الشباك السبت ليصطاد الأحد في وسيلة خبيثة من وسائل التحايل والتلاعب والاستهزاء بالحكم الشرعي، فأحال الله أخلاقهم وطباعهم إلى طباع القِردة ليكونوا هم موضعَ هزءٍ وسخرية وتندّر. (والحدث ليس تاريخياً فقط، أو خاصّاً ببني إسرائيل فقط، وإنما هو شامل لكلّ العصاة المتحايلين على شريعة الله المتلاعبين بها بحسب أهوائهم وأمزجتهم).
(67-77) : حادثة أخرى تدلّ على مدى استغراق بعض بني إسرائيل في العناد والطغيان، فلقد قُتل رجلٌ منهم وعجزوا عن العثور على قاتله، فأرادوا العثور عليه بطريق إلهي غيبيّ، فطلب منهم نبيّهم موسى7 بأمر الله تعالى أن يذبحوا بقرة ويلطِّخوا جثته ببعض أشلائها ليستعيد حياته ويدلّهم على قاتله، فراح بنو إسرائيل يتشدّدون في الأسئلة: هل البقرة كبيرة في السنّ أو صغيرة؟ ما لونها؟ كيف يمكن تمييزها بين آلاف البقر؟ ولمّا أجابهم نبيّهم عن كلّ أسئلتهم عثروا عليها بشق الأنفس فذبحوها وهم على شك من أنّ قتيلهم سيستعيد الحياة بهذه الطريقة، ولكن ما حصل أنّ القتيل عاد إلى الحياة بالفعل. (وهذا نموذج مصغّر آخر من صور البعث والمعاد يوم القيامة. ودرس البقرة مَثلٌ في التشدُّد والتطرُّف، حيث سألهم نبيّهم أن يذبحوا أيّة بقرة لكنهم بكثرة أسئلتهم التصعيبية المتعصِّبة حصروها ببقرة ذات مواصفات فريدة أو نادرة، ولذلك جاء عن نبيّنا6 في الاستشهاد بهذه الحادثة «يِسِّروا ولا تُعسِّروا» أو «لا تشدِّدوا فيُشدَّد عليكم»).
كان يُفترض أن تكون تلك خاتمة العناد والتشدُّد؛ لكنهم أصرّوا عليه، وأيُّ إصرارٍ على الذنب واستمرار على المعصية يصيب القلب بالقسوة والتحجُّر، بل إنّ بعض الحجارة أرقُّ من بعض القلوب لأنّ من قلبها يتدفّق الماء، وبين صخورها تجري الأنهار، وبعضها يهبط خاشعاً متصدِّعاً من خشية الله وعرفان مقامه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ (الحشر/ 21). كلُّ هذه الصورة الواضحة وهذا التقييم الدقيق لبني إسرائيل (اليهود) من أجل أن يتعرّف المسلمون على طباعهم، ويحذروا مؤامراتهم وألاعيبهم وخيانتهم وغدرهم وتذبذبهم وتقلّبهم، وأنّهم لن يُؤمَن جانبهم حيث لا يراعون للمسلمين حقّاً أو حرمة. كيف ذاك وقد كانوا يخونون الله تعالى في تحريف كلماته والتلاعب بها، فلقد بُشِّروا بالإسلام قبل ظهوره، وأخبرهم أنبياؤهم به، قال تعالى على لسان (عيسى7) لبني إسرائيل: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (الصف/ 6). ولمّا جاءهم أنكروه وهم على علمٍ تامٍّ أنّه الحقّ من ربّهم، غير أنّهم جهلة يتصوّرون أنّ كتمان الحقّ يخفى على الله الذي لا يخفى على علمه شيء.
(78-82) : القرآن موضوعيّ لا يتحدّث بلغة الإطلاق والتعميم، فبعض اليهود لا كلّهم أُمّيُّون لا يفهمون معاني كتاب الله (التوراة) إلّا وفق أذواقهم الانتقائية. ويتمنّون على الله ما ليس لهم بحقّ، ويُزوِّرون ويُزيفون الحقائق، ويحترفون الكذب والتحريف ويزعمون أنّ التحريف هو كلام الله بغية اقتناص بعض المكاسب التي يُحقِّقها التلاعب بالدِّين. (هم تجّار ولكن بضاعتهم الدين، يبيعونه ويشترونه كما يبيعون ويشترون أغنامهم.. هو عندهم صفقة). ومن مزاعمهم وافتراءاتهم قولهم إنّ نار جهنّم لن تصيبهم إلّا لفترة قصيرة من غير صكّ أو وعد أخذوه عن الله، وإنما هو مجرد وهم وغرور فارغ يتصيّدون به عقول الجهلاء. ألا يعلم هؤلاء الكتابيون (أصحاب الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم) أنّ سُنّة الله التاريخية وقانونه العام هو أنّ الذين يرتكبون السيِّئات والقبائح والمفاسد سوف تلتفُّ سيِّئاتهم حولهم (التفاف الخيوط على دودة القزّ) فإذا هم حطب جهنّم، لأنّ جزاء مَن يُشعل الحرائق في الدنيا أن يكون طعامها في الآخرة. وفي مقابل أولئك السيِّئين المسيئين، تقف مدرسة المؤمنين الذين يعملون الأعمال الخيِّرة الصالحة النافعة، الذين زرعوا الحياة جنائن خضراء وارفة الظِلال، فاستحقّوا سكنى الجنّة والخلود فيها، ونِعم أجرُ العاملين.
(83-86) : بين الله تعالى وبين الناس عهود ومواثيق مؤكّدة ومتينة جاءت بها الكتب والرسالات السماوية، يلتزم بها مَن يلتزم ويكافأه الله تعالى على مدى التزامه. وميثاق أيّة أُمّة هو ميثاق لجميع الأُمم لأنّه ميثاق ربّاني لاسيّما إذا لم يمسّه التحريف. وبنود الميثاق الإلهي– اليهودي تتضمّن تعاليم إنسانية نافعة لجميع البشر، وأوّلها وعلى رأسها توحيد الله تعالى، فلا يُعبد أو يُطاع في أُمور العقيدة والشريعة غيره، ومن بنوده الإحسان إلى الوالدين والأقرباء واليتامى والمساكين، ومخاطبة الناس بالكلام الطيِّب المُحنِّن للقلوب وإقامة الصلاة (بالامتناع عن القبائح والرذائل) وتقديم الصدقات لمساعدة المحتاجين قدر الاستطاعة، وعدم قتل الإنسان المُسالم البريء الأعزل، وعدم إرعاب وتشريد الآمنين. هذا ميثاق ربّاني كلّي متكامل يجب الأخذ به كلّاً متكاملاً، لأنّ كمال السعادة والمصلحة فيه، ولا يجوز تقطيعه أو تشويهه بطريقة انتقائية، بأخذ بعضه الذي يوافق المزاج وترك بعضه الآخر الذي يُعارض المزاج. غير أنّ بعض بني إسرائيل نقضوا الميثاق ولم يفوا بالعهد فاستهانوا بإزهاق أرواح الناس وترويع الآمنين في بيوتهم وإخراج أهلها منها بالإكراه، بل تعاونوا على الإثم والعدوان، فكانوا شركاء فيه متواطئين عليه. والغريب أنّهم يعتدون على الناس في مجتمعاتهم وعلى مواطنهيم، لكن إذا أُسر يهوديّ تحمّلوا مسؤولية تحريره، فكيف يصح هذا التناقض في العدوان على بعضهم بعضاً من جهة، ومفاداة الأسرى وتحريرهم إذا وقعوا أسرى بيد غير اليهود، من جهة أخرى؟! أليست تلك هي الانتقائية والمزاجية التي تُشطِّر الدين تشطيراً؟! هؤلاء لا نصيب لهم من نعيم الآخرة ولن يجدوا مَن ينصرهم ويدفع عذاب الله عنهم يوم القيامة لأنّهم المقتسمون الذين جعلوا الدين (عِضين)[3].
(87-96) : خطّ النبوّات موصولٌ متصل (تحصل فيه فترات ركود لكنه لا ينقطع)، فبعد موسى7 جاء أنبياء، ثمّ جاء عيسى7 مؤيِّداً بمعاجز ودلائل باهرة، لكنّ خطَّ التكذيب والعناد اليهودي ممتد ومستمر أيضاً يتوزّع بين تكذيب بعض الأنبياء، وقتل بعض الرُّسُل، واتهام الله تعالى بأنّه منع قلوبهم من أن تستوعب نور الهداية، والله سبحانه الذي يدعو إلى الخير والصلاح لا يجبر على كفر ولا على إيمان، بل هم الذين أغلقوا أبواب ونوافذ قلوبهم عن النور ليغرقوا في العتمة والنتانة والعفن. وآخرُ ما جاءهم من الأنوار الساطعة دينُ الإسلام الذي بَشَّر به أنبياؤهم وكانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، لكنّه ما إن جاء حتى كانوا أوّل الكافرين به، المحاربين له، المناوئين المتصدِّين له بعنف، فرجعوا وقد تراكمت أمواج الغضب الإلهي عليهم. واليهود -وأشباههم كثيرون- يغالطون أنفسهم، ويدّعون أنّهم مؤمنون بما جاء به موسى7 فلا حاجةَ للإيمان بما جاء به محمّد6.. والحقيقة أنّهم كفروا بما جاء به خاتم الأنبياء مثلما كفروا بما جاء به نبيّهم7، بل وقتلوا الأنبياء الذين أُرسلوا لدعوتهم إلى الحقّ، ولو صحّ إيمانهم هناك لآمنوا بما جاء به نبيّ الإسلام، لأنّ خطّ الأنبياء واحد. والدلائل على كذب أدعياء الإيمان بموسى7 كثيرة، ومنها اتخاذهم العجل إلهاً بعد أن غاب7 لفترة مؤقّتة ليأتيهم بالتوراة، ومنها الوعد بالاستجابة لأمر الله تعالى إذا رفع الجبل عنهم، ثمّ عصوا وكفروا، فهل هذه التقلبات والتناقضات والمخالفات من الإيمان في شيء؟! إذا كان ذلك إيماناً فما أسوأه وأقبحه وأردأه من إيمان؟! ومع ذلك ترى بعض اليهود يزعمون أنّ الجنّة خالصة ومخصَّصة لهم فقط (محجوزة خصيصاً لهم من دون الناس)، فإذا كان ذلك صحيحاً (وهو ليس صحيحاً) فليثبتوه بالدليل والبرهان.. ليطلبوا -مثلاً- الموت حتى يسارعوا للعيش الخالد في الجنّة، والحال أنّ الله تعالى يخبرنا عن عشقهم الشديد للحياة، فهم أكثر الناس تعلّقاً بأذيال الدنيا، ولكنّهم لكثرة ذنوبهم ومعاصيهم يخافون الموت الذي يُقرِّبهم من المصير الأسود. يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة/ 6-7).
(97-101) : لم يكتفِ بعض اليهود بمعاداة الأنبياء، بل نقلوا معاداتهم إلى الملائكة أيضاً، فهم يبغضون جبرئيل7 لأنّه ينقل عن السماء بأمانة، حيث يُشير إلى قبائحهم وفضائحهم ومؤامراتهم، ويُهدِّدهم بالعقوبات الإلهية عمّا يقترفونه بل وينزلها على المعاندين، ولذلك كانوا يعتبرون ميكائيل7 وليّاً وناصراً لهم (لأنّه مُوكّل بإنزال المطر وإنبات النبات، أي ملك الخصب)، (وتلك طبيعتهم في الانتقاء والتجزئة والانحياز)، ومَن يعادي ملائكة الله فهو عدوٌ لله في النهاية. ولم يقفوا عند هذا الحدّ، بل كفروا بكلّ ما جاء به النبيّ محمّد6 وكذّبوا حتى شعاراتهم وبشاراتهم التي كانوا يُبشِّرون بها، وكأنّها وهم وخيال ولا حقيقة لها (والمتاجرون بالدين يُغيِّرون شعاراتهم كما تتغيّر النشرات الجويّة بحسب الطقس وتقلّبات المناخ).
(102-103) : وبدلاً من اتّباع الحقّ والبحث عن الحقيقة راح بعض بني إسرائيل يتبعون السَّحَرة والمشعوذين، معتبرين ذلك هو العلم الذي اعتمده سليمان7 في إدارة مُلكه، وهو كذبٌ صريحٌ وادعاءٌ فارغٌ وعارٍ عن الصحّة، لأنّ قدرات سليمان7 كلّها ربّانية لا دخل للسحر والسَّحَرة فيها إطلاقاً. وبذلك برَّروا لأنفسهم استخدام السحر في الأمور المسيئة والمؤذية كتفريق الزوجين بعضهما عن بعض، وهو مجرّد شعوذة لا يضرّون بها أحداً، لأنّ السحر ألاعيب وخُدَع وتمويهات لم يثبت أنّها تفعل فعلاً مضادّاً إلّا في أذهان الواهمين المصدِّقين بها، ولو أنّ بني إسرائيل لم يلجأوا إلى هذه الأفاعيل والأباطيل، واستعاضوا عنها بالإيمان بالله وعدم العدوان على الناس لوجدوا خيراً كثيراً، لكنّهم جَهَلة لا يعلمون قيمة الإيمان بالله وآثاره، بل يخالفونه ويعاكسونه في تصوُّراتهم المريضة وسلوكياتهم المنحرفة، وهذا هو سبب طردهم أو إبعادهم عن رحمة الله تعالى.
(104-105) : لا يُراد للمسلمين أن يُكرِّروا أخطاء بعض اليهود وخزعبلاتهم، ولا أن يُقلِّدوهم في الإساءة لاستخدام المصطلحات، فبدلاً من أن يقولوا لنبيّهم6: (راعنا) أي اصبر وتَمهَّل علينا حتى نفهم معنى كلامك، هم مُطالَبون بأن يقولوا: (أُنظرنا) أي انتظرنا، والفرق بين المصطلحين أنّ الأولى كانت كلمة سبٍّ عند اليهود. وعلى ذلك، لابدّ للمسلمين من أن يعرفوا جيِّداً أنّ المشركين وبعض أهل الكتاب لا يُريدون لهم الخير، إمّا حسداً من أنفسهم، أو إنّهم يُريدون توريط الجميع بالشرك بالله ليُحرموا من رحمة الله وفضله. (وفي ثنايا الآيات دعوة لنبذ التقليد الأعمى والانجرار إلى أساليب المخادعين، وضرورة انتهاج نهج مستقل يليق بالإنسان المسلم وبهُويّته).
(106-107) : النسخ هو: (محو القديم وإثبات الجديد)، علماً إنّ إبدال الخير بخير مثله أو أحسن منه، ليس تطوُّراً في كلمات الله التامّة، وإنما هو رعاية أكبر لمصالح الناس الذين يتناسب التدريج مع طبائعهم واستعداد أذهانهم. (وفي الآيات درس في الإبداع والتطوُّر والتجديد والقدرة على التغيير من الصالح إلى الأصلح، ومن الجيِّد إلى الأفضل، ولا يُسئل الحكيمُ عن فعله لأنّه يضع كلّ شيء في موضعه الصحيح، ومن ثَمَّ فالنَسخُ ليس نموّاً في الفكر وتطوُّراً في البحث، فالمنسوخ (القديم) و(الناسخ) الجديد كلاهما ينطوي على المصلحة، والله أعلم بما يصلح به الناس.
(108-112) : طالما علمتم -أيُّها المسلمون- أنّ ربّكم مالك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما فلا يُستساغ أن تلجأوا إلى الأسئلة الإسرائيلية في الطلب برؤية الله عياناً.. إنّه في كلّ مكان ولا يشغله مكان، ويتجلّى في كلّ شيء ولا يحتويه شيء، وفي كلّ شيء له آية تدلُّ على أنّه الواحد الأحد الفرد الصمد. قال تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام/ 103). أمّا مَن يكفرُ بعد إيمانه فيرتدّ من العقل إلى الجهل فقدْ فقدَ البُوصلة وضَيَّع وجهة الخير والصلاح وأضاع خارطة الطريق (في الآية تأكيد آخر على استقلالية المنهج وعدم استنساخ التجارب البائسة المهينة). إنّ الكثير من الكتابيين (اليهود والنصارى) حُسّاد للمسلمين على ما جاءهم من الحقّ، وما آتاهم الله من الفضل، حيث لا ينبغي أن يكون حسد لأنّ كلّ الديانات من عند الله تعالى (ثمّ أنّكم مدعون للإيمان بالنبيّ وبالقرآن لأنّهما للناس كافة، فلماذا لا تدخلون الإسلام بدلاً من حسد المسلمين؟)، ولكن حسد بعض الكتابيين من النوع العدواني الباغي الذي يحاولون معه إرجاع المسلمين إلى مربع الكفر الأوّل وإلى حيث الجاهلية الجهلاء. ولذلك يُحذِّرنا القرآن من التعجُّل في اتّخاذ موقف متشدِّد منهم، إذ لم يحن الوقت بعد لمواجهتهم.. وحينما يحين وقتُ ذلك، فإنّ شوكة الشرك والكفر ستُكسر ويخسر يومها المُبطلون جميع رهاناتهم. فاختطّوا لأنفسكم منهج الصلاح بالالتزام بمستلزمات الصلاة من استقامة وعدل ومكافحة للسلبيات، وتقديم الصدقات والمعونات (المالية) و(العينية) و(المعنوية) للمحتاجين إليها، وليس ذلك -في حساب الدين- خسارة، وإنما هو ربح لأنّه رصيد مدَّخر في البنك الإلهي تتضاعف فوائده وأرباحه كلّ واحد بعشرة، وبعضها يزيد على ذلك أضعافاً مضاعفة. واعلموا الدينُ العملُ فلا يتخيّل بعض المسلمين كما تصوّر بعض الكتابيين أنّ الجنّة توزّع قصورها بالمجان، أو أنّها معدّة لطائفة أو فرقة معيّنة من غير دليل يثبت ذلك. نعم، المسلمون الخاضعون لله تعالى المطيعون له في ما أمرهم، المحسنون في أعمالهم وتصرُّفاتهم هم أصحاب الجنّة، وهم مَن يستحقّها، ذلك أنّ الجنّة للعاملين لا للعاطلين المفلسين الذين يبنون في الخيال قصوراً من رمال.. هذه هي حقيقة الجنّة لا ما تتوهّمه الأحلام المريضة.
(113) : الصراع الديني – المذهبي عصبيٌّ قائمٌ على أشدّه بين أهل الكتاب. اليهود تقول: النصارى لا تملك من الحقّ شيئاً. والنصارى في المقابل يُوجِّهون إلى اليهود الاتهام نفسه، علماً أنّ كلّاً منهما لديه رسالة سماوية ترسم له معالم الحقّ وتُبيِّن له أنّ الأفضلية بالتقوى (مراقبة الله في عدم العدوان على الناس) والعمل الصالح، لا بالتعالي والاستعلاء أو التحقير والازدراء. والغريب إنّ بعض المسلمين الذين لم يفهموا كتابهم جيِّداً يُردِّدون المقولات التافهة البائدة الباطلة نفسها. والحقّ أنّ علينا جميعاً أن نعمل كلٌّ بحسب نيّته، والله تعالى الحَكَم يوم الحساب والجزاء، وهو الذي يفصل بين الهالكين والناجين.
(114-115) : المساجدُ بيوتُ الله، ومراكز العبادة والتربية، ومنطلقات الوعي والإشعاع، وأي عدوان عليها بمنع بنائها، أو هدمها، أو عدم السماح بالدخول إليها، أو تحريف وجهتها، هو عدوان على الله تعالى (إنّ خوفَ أعداء الله من المساجد نابعٌ من كونها معاقل ومصانع لبناء الشخصيات الممانعة القوية). ومن موضوعية القرآن أنّه إذا أُغلق بوجه الناس بابٌ فتح باباً، فإذا مُنع الناسُ من الصلاة في المساجدُ فكلُّ الأرض هي مسجدٌ لله تعالى، طالما أنّ تحديد الجهات باتجاه القبلة لا يستطيع أحد أن يمنعه، وهذا من يُسر الدين وتوسعته للمفاهيم.
(116-119) : نسبةُ الولد إلى الله تعالى دليل النظرة القاصرة الضيِّقة الجاهلة، فأن يكون له ولد يعني أنّه مُحتاج، والحقيقةُ أنّه تعالى غنيٌّ عن الكلّ والكلُّ مفتقرٌ إليه، خاضعٌ مطيعٌ له.. والمشركون ممّن ينسبون الولد إلى الله عزّوجلّ يُشبِّهون أو يتصوّرون ربّهم كأنّه واحد من البشر، ألا ساءَ ما يتصوّرون. إنّ الذي أوجد السماوات والأرض من غير مثال سابق بالأمر التكويني: كونا فكانتا، لا يحتاج إلى معين أو شريك أو ولد يستعين به في مهمّاته، يقول تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ (الإسراء/ 111). وبسبب جهل الجاهلين تتردَّد طلبات (يتصوَّرها أصحابها تعجيزية) من قبيل: أرنا الله عياناً، أو: لو يُكلِّمنا الله مباشرة، أو يُرسل لنا معجزة خاصّة بنا وليست مختصّة بأنبيائه (وما إلى ذلك من طلبات أقلّ ما يُقال عنها أنّها لا تعرف مَن هو الله الذي ملأ الكون بآياته ومعجزاته ودلائله الباهرة.. إنّ منطق الجَهَلة في كلّ زمان ومكان واحد وإن تَلبَّس بأكثر من لباس). من هنا، فإنّ مهمّة النبوّة ليست الإجابة عن طلبات خرقاء مزاجية، وإنما التبشير بالجنّة للعالمين الصالحين، والإنذار بالنار للمكذِّبين المعاندين، فمن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر.
(120-123) : رضا أهل الكتاب (يهود ونصارى) عن المسلمين غايةٌ لا تُدرك، لأنّ رضاهم عنهم مرهون بدخولهم في دينهم المحرَّف الذي صاغته أهواؤهم المنحرفة وأمزجتهم المتطرِّفة، في حين أنّ القرآن (آخر الكتب السماوية وخاتمة الرسالات) مصون من التحريف، وهو أكمل الرسالات وأشملها، والحاكم على كلّ الديانات، ولو قرأه المنصفون من أهل الكتاب بتجرُّد وموضوعية لآمنوا به وجنوا أرباحه الطائلة العملية (ألا ترى أنّك تقتني آخر نسخة من برنامج إلكتروني لأنّ فيه ما في النسخ السابقة وزيادة، مما لا داعي لاستعمال القديم طالما إنّه مُتَضَمّن في الجديد؟!). وإذا لم يأخذ بنو إسرائيل بما جاء في القرآن، فليتذكّروا نعمة الله تعالى عليهم بتفضيلهم على أُمم الأرض في زمانهم، ليربطوا ربطاً حيوياً بين قيمة النعمة وبين الطاقة الإيمانية المتجدِّدة المستوحاة منها، وليستحضروا القيامة في حسابها وجزائها، حيث لا يفلت من قبضة العدل الإلهي هارب (إنّها التربية بشقّيها المتكاملين: (الترغيب) بتذكُّر النِعم، و(الترهيب) بتذكُّر العذاب، وبذلك يتحقق التوازن والنظام والاستقامة).
(124) : كَلَّف الله تعالى نبيّه إبراهيم7 بتكاليف عدّة ومهمّات صعبة، فأنجزهنّ كلهنّ على خير ما يرام وعلى أحسن وأتمّ وجه، فاستحقّ درجة الترفيع من (النبوّة) إلى (إمامة) وقيادة الناس. حينها -وفي مراسم الترفيع- سأل إبراهيم7 ربّه: هل هذا الوسام من الدرجة الرفيعة لي ولعقبي (ذرِّيّتي)؟! جاءه النداء: كلّا، بل هو متعيّن بكلّ ما اختطّ خطّك وانتهج منهجك، وسار مسارك، وضحّى تضحياتك، وأدّى أداءك.. أمّا مَن شذّ أو شطّ أو زاغ وانحرف فهو ظالمٌ لنفسه، حتى ولو كان من ذرِّيّتك (سترى أنّ هذا المفهوم يتكرَّر مع نوح7 عندما يقول تعالى عن ابنه العاصي أنّه ظالم وأنّه ليس من أهله، أي ليس من أهل الإيمان ومجتمع الصلاح وغير مؤهَّل أن يحمل الراية بعد أبيه).. وعلى ذلك فليس في دين الله مجاملة أو محاباة أو محسوبية أو منسوبية و﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام/ 124).
(125-129) : بيت الله الحرام (الكعبة المشرَّفة) مقصد عبادي، وسياحة دينية، وعاصمة روحية، وواحة أمن وسلام للناس أجمعين. فمن دخله كان آمناً لا يجوز الاعتداء عليه أو مطاردته فيه، وإذا التجأ إليه طريد ضُيِّق عليه بالطعام والشراب حتى يخرج. ومن أجل أن يقتفي الموحّدون خطى إبراهيم7، عليهم أن يفعلوا كما فعل، بأن يصلّوا بعد الطواف خلف مقامه، لتلتحم المسيرة بالمسيرة، وتندغم الخطى بالخطى، ويندمج الزمان المختلف بالمكان الموحَّد. ولقد أخذ إبراهيم7 وابنه إسماعيل على عاتقهما مهمّة تطهير بيت الله من الأوثان والأصنام والخبائث والنجاسات لتكون الطهارةُ مادّية ومعنوية، والصفاء روحياً وكلياً، والمناخ ربّانياً خالصاً بالكامل، فلا يجد الدائرون أو الطائفون حول الكعبة، والمقيمون في المسجد الحرام، والمصلّون فيه إلّا النقاء الشامل والتوحيد الكامل. وما أن فرغ إبراهيم7 وابنه إسماعيل7 من بناء البيت بأمر الله تعالى، حتى توجّها بالدعاء والضراعة إلى الله عزّوجلّ أن يتقبّل عملهما بقبولٍ حسن (وهذا درس في سؤال الله القبول حتى بعد إنجاز أعمالنا الصالحة مخافة أن تكون هناك شائبة عدم إخلاص). دعوا الله تعالى أن يجعلهما ونسلهما الصالح سائرين على خطّ التسليم والطاعة دائماً وأبداً، وطلبا منه -جلّ جلاله- أن يتوب عليهما من أي تقصير ويصفح عن أي نقص قد يصدر منهما. وطلبا منه سبحانه أن يبعث في آخر الأُمم المسلمة نبيّاً خاتِماً يُعلِّم الناس الكتاب (القرآن) عقائداً ومفاهيماً وأفكاراً.. ويُعلِّمهم الشريعة نظاماً وأحكاماً، ويُزكِّيهم بتنمية مواهبهم وقدراتهم بتوجيههم لكلّ خير، وتطهير أخلاقهم من كلّ عيب وسوء. وطلبا منه عزّوجلّ (إلى جانب هذه الطلبات المعنوية) طلباً مادّياً مكمّلاً، بأن يجعل مكّة البلد الحرام مكاناً آمناً يلوذُ به الباحثون عن الأمن عندما يداهمهم الخوف أو الفزع، وأن يكون هو ساحة السلام العالميّ[4]. وأن يفتح تبارك وتعالى على أهله وسكّانه الخيرات والبركات (وهذا يعني ضرورة الترابط العضويّ بين (الرزق) وبين (الأمن) وهو ما سنطالعه في (سورة قريش): ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ (قريش/ 4)، إذ لابدّ من تلازم المسارين وتكامل النعمتين حتى يتتامّا).
(130-134) : هذا هو الخطّ الإبراهيمي، وتلك هي معالمُ المدرسة الإبراهيمية، فمن لم يأخذ بها فقد خدع نفسه وأساء إليها باختيارات دونية، لأنّ إبراهيم7 هو أوّلُ مَن رفع شعار الإسلام لله والتسليم له، ولم يكتفِ بنفسه بل سرّى ذلك إلى أبنائه من بعده فأوصاهم أن لا يموت منهم أحد إلّا وهو على دين الإسلام. وقد أخذ ابنه يعقوب7 ذلك عنه، فأوصى هو الآخرُ بنيه -عند الموت- بالوصيّة نفسها، فكانت ذرِّيّة إبراهيم7 صالحة بعضها من بعض (وفي ذلك إلفاتُ نظرٍ أنّ الوصايا ليست مادّية تتعلق بالإرث والتركة فقط، وإنما تربوية أيضاً). ولا يؤاخَذُ اللاحقُ بجريرة (بجناية وذنب) السابق، أي لا تُحاسب أُمّة (جماعة) بأعمال أُمّة سابقة، بل لكلّ أُمّة كتابها وحسابها، ولا يتحمّل الأبناء مسؤولية الآباء والأجداد (الأمر الذي يعني أنّنا يجب أن لا نحمّل (الواقع) أخطاء وخطايا (التاريخ) وأن لا نثقل (الحاضر) بمشاكل (الماضي)، كما يجب أن لا نشنّ حروباً بالنيابةِ عن أسلافنا، ذلك أنّ كلّ أُمّة مسؤولة عن أعمالها، ومن العبث أن نُرهق الواقع ونثقله ونستهلكه بإثارة المشكلات التاريخية التي طويت صفحاتها بغياب أصحابها عن مسرح الحياة).
(135-141) : وعلى الرغم من كلّ تلك الملامح المشرقة للمدرسة الإبراهيمية الجامعة لخطّ التوحيد ولأجيال التسليم المطلق لله تعالى، يأتي اليهود والنصارى ليطالبوا الناس أن ينتموا لمدرستهم التي دبَّ فيها الانحراف ويرونها أنّها هي الأصوب والأهدى. إنّ خير جواب لدعوتهم هو: إنّنا مسلمون كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأحفاده وموسى وعيسى وسائر النبيين المسلِّمين وجوههم لله عزّوجلّ، فإن تؤمنوا -يا معشرَ الكتابيين- بما آمنّا به فقد اجتمعنا على الهُدى هدى الله، وإن ترفضوا وتختصموا معنا، فإنّنا لن نتنازل عن هُويّتنا (صِبْغَة الله) التي هي دين الإسلام والتوحيد، لا تعصُّباً كما تتعصّبون، بل لأنّه خير الأديان وأشملها وأكملها لا بشهادتنا نحن كبشر، بل شهادة الله تعالى مُنزِّل الكتب والرسالات كلّها. أمّا لماذا جعل الله نبينا نحن المسلمين رسولاً للعالمين، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وكلٌّ منّا مسؤولٌ عن (اختياره) و(عمله)، ولا صحّة إطلاقاً لما تدّعون من أنّ أبناء وتلامذة المدرسة الإبراهيمية كانوا هوداً أو نصارى. ما ذاك إلّا من أخباركم المفتراة وتلفيقاتكم العارية عن الصحّة، أمّا الخبر الذي عندنا فهو الصحيح لأنّه من الله العليم بدين إبراهيم7 ودينكم وديننا، وإنّكم لتعلمون ذلك وتعرفونه جيِّداً، لكنكم تنكرونه وتكتمونه ظُلماً وتعصُّباً واستكباراً.
(142-150) : إنّ من طبيعة السُّفهاء الجهلاء (وبعض اليهود منهم) إثارة اللغط حول مسائل شكلية والتعصُّب تعصُّباً جغرافياً أو مناطقياً (والحال إنّ الأرض كلّها لله)، ولذلك احتجّوا على توجّه المسلمين نحو قبلتهم (بيت المقدس) وأنّهم ليسوا لهم قبلة مستقلة خاصّة بهم، وواقع الحال إنّ قبلة اليهود ليست اختياراً أو امتيازاً يهودياً، وإنما هي توجيه ربّاني باعتماد بيت المقدس قبلة لاسيّما وإنّ مشارق الأرض ومغاربها كلّها لله تعالى، ومع ذلك ولأجل أن لا يستمر اللغط ويستغرق السُّفهاءُ في سفاهتهم وتفاهتهم، فقد خصّ الله تعالى المسلمين بقبلة أخرى هي (المسجد الحرام). لكنّ الأهم من موقع القبلة ومكانها ومكانتها، موقع المسلمين أنفسهم، حيث شاء الله أن يكونوا أُمّة وسطيّة معتدلة بين (الترهبن) واعتزال الحياة (كما يفعل بعض النصارى)، وبين (المادّية) الاستهلاكية والاستغراق في الملذّات الحسّية (كما يفعل بعض اليهود). إنّهم -بإرادة الله وشريعته- أُمّة رافضة للتطرُّف والغلوّ، ونابذة للتعسير والتشدُّد، ولمّا كان المسلمون أصحاب الشريعة السهلة السمحة والمتوازنة المعتدلة، كان حقّاً أن يكونوا شُهداء على الناس، يُرجع إلى دينهم الوسطيّ في الحكم على الغلو والشطط والتطرُّف في الديانات الأخرى، ويقف النبيّ6 شاهداً على أُمّته في ضبط إيقاع مسيرتها بضوابط الشريعة الإسلامية، ومعياراً يُقاس بسنّته المطَهَّرة صوابُ المسلمين من انحرافهم، بل صلاح الأُمم من ضلالها. حُسمت قضية القبلة بتوجُّه المسلمين نحو (المسجد الحرام) وأُغلق الباب بوجه السُّفهاء ومثيري اللغط والفتن، لكنهم -بما عُرفوا به من عناد وتعصُّب- سيرفضون التوجُّه إلى قبلة المسلمين، ولا هم (اليهود والنصارى) على موقف واحد موحّد من اتباع بعضهم قبلة بعض، وهذا يعني ضمناً أنّهم لن يرضوا عن المسلمين حتى يُدخلوهم في ما دخلوا فيه، وليس ذلك ممكناً بعد أن مَنَّ الله تعالى على المسلمين بأن يكونوا أتباع (العلم) لا أتباع (الهوى)، وعَبدة الله لا عَبدة الشيطان، وأصحاب الحقّ لا أصحاب الميول والأمزجة التي لا تُغني عن الحقّ شيئاً (إنّه درس في العلائق النفسية والاجتماعية بين الجماعات، وهو أنّ كلّ طائفة أو فرقة أو حزب متشدِّد ومتعصِّب لا يترك ما هو عليه من اعتقاد حتى ولو كان خاطئاً، بل يقاتل غيره من أجله).. فالكتابيون يعرفون نبيَّ الإسلام حقّ المعرفة (كما يعرفون أبناءهم) فلا يختلط أو يلتبس عليهم، لكنهم هواة إخفاء الحقّ وطمس الحقائق، وطالما أنّ الحقّ هو الله تبارك وتعالى، ولا يأتي الحقُّ إلّا من عنده، وأنّ النبوّة حقّ، فالشكُّ والقلقُ والتردُّد لماذا؟ وطالما أنّ لكلّ أهل كتاب قبلتهم التي يتوجّهون إليها، فليكن توجّهكم -أيُّها المسلمون- إلى عمل الخيرات والباقيات الصالحات، ذلك هو (السباق الحقيقي) و(التنافس الشريف) و(البرّ حقّ البرّ)، قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (البقرة/ 177).
(151-153) : إنّ تغيير قبلة المسلمين من (المسجد الأقصى) إلى (المسجد الحرام) ليس كسراً لعنجهية وغرور اليهود فقط، وإنما هو إرادة منح المسلمين خصوصية أو استقلالية عن قبلة اليهود لقطع الطريق على أيّة إثارات مستقبلية محتملة، ونعمة الاستقلال بقبلة خاصّة شبيهة بنعمة الاستقلال بنبوّة النبيّ محمّد6 كونه من العرب، ومَن عرف هذه النعمة فعليه أن يذكر بها الله ويشكره ويطيعه ولا يخرج عن طاعته. وقد يلاقي المؤمن العارفُ بالله (إنساناً أو مجتمعاً) مشاق كثيرة وصعبة في الحياة، ومشاكل تعترضه في المنعطفات، ولابدّ من التعامل معها بمواجهتين: (نفسيّة) بالصبر والتحمُّل والثبات والذكر والدعاء والصلاة، و(ميدانية) بإعداد القوّة ومتطلِّبات النصر على الأعداء، ولذلك كان الله دائماً مع الذين يبنون مجتمع الصبر والقدرة على مواجهة الصعاب والتحديات، يشدّ أزرهم ويُقوِّي جبهتهم، ويُثبِّت إيمانهم وينصرهم على أعدائهم نصراً عزيزاً، ويفتح لهم فتحاً يسيراً.
(154-157) : من مهام القرآن الكبرى تصحيح المفاهيم والمصطلحات وجعلها منسجمة مع الخط الإسلاميّ العام، فالشهادة -على عكس المُتصوَّر من أنّها إفناء للحياة- ليست موتاً عادياً، وإنما هي (حياة) خارجة عن الإدراك والشعور، (من بعض ملامحها بقاءُ الشهيد حيّاً ببقاء مواقفه المشرّفة، وبما دافع وناضل عنه من قيم، وبما كسره من حاجز الخوف من الظُلم، وبما يدفع الآخرين من ذويه ومَعارفه للسير على خطاه، أو استثمار ما حقَّقه من خيرٍ للحياة). ومن مفاهيم القرآن في إرساء النظرة الصحيحة لمعنى (الابتلاء) (الذي هو امتحان واختبار إلهي لمدى الصدق الإيمانيّ عند الإنسان)، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت/ 2-3) يتضح أنّ الحياة ساحة امتحان واسعة يُصاب فيها الإنسان بـ(الخوف) بمختلف أشكاله، وبـ(الجوع) في أزمنة القحط والمجاعة والحروب والحصارات، و(نقص من الأموال) والثروات بالخسائر في التجارات والصفقات والحرائق والأزمات، و(الأنفس) بالموت وبالقتل وبالحوادث المؤسفة، و(الثمرات) في انتشار الأوبئة وجفاف المواسم. والناجحون في اختباراتهم الحياتية هم الصابرون القادرون على تحمُّل المكاره والشدائد والصعوبات بصدرٍ رحب ورضا بقضاء الله وقدره، القائلون عند المصيبة: هوّن ما نزل بنا أنّه بعين الله، المردِّدون عند الكارثة بصدق: (إنّا لله) أي مملوكون له يفعل بنا ما يشاء، و(إنا إليه راجعون) في البعث والمعاد والقيامة لنلاقي جزاء أعمالنا وثواب صبرنا وتحمُّلنا.. فنحنُ بينَ (المُلك) وبين (الهُلك) لا نملكُ إلّا التسليم لصاحب الأمر (بهذا تقتضي الحكمةُ وبه يحكم العقل).. وبهذا الصبر (الذي يعني مقاومة الانكسار والنهوض من جديد) والتسليم (الرِّضا بقضاء الله) يستحق الصابرون درجة الصلاة (الدعاء بالخير) والرحمة عليهم من ربّهم، وأن يزيدهم هُدىً إلى هُداهم.
(158) : من أعمال ومناسك الحج السعي (المشي السريع) بين ربوتين: (الصفا) و(المروة) تيمُّناً بما فعلته (هاجر) أُمّ إسماعيل7 في رحلة البحث عن الماء لولدها، والسبعة أشواط هي حركتها التي قطعتها جيئةً وذهاباً من غير أن ينقطع الأمل أو يخبو الرجاء. أما مَن يتطوّع بالسعي بعد الحج والعمرة وبأداء المستحب غير الفريضة، فإنّ الله تعالى يُثيبه ويُكافأه على عمله، فللمستزيدين عند الله الحُسنى وزيادة.
(159-163) : لخطورة (كتمان الحقّ) والآثار السلبية الوبيلة المترتِّبة عليه، يتردَّد في أكثر من موضع في القرآن التهديد الشديد واللعن (الطرد من الرحمة) لمن يكتم شيئاً من الحقّ، أو يخفي أمراً مهماً لغاية في نفسه، أو يرفض شهادة يمكن أن ينتصر بها للعدالة، ويبقى باب التوبة مفتوحاً للتائبين من هذا العمل الشنيع.. أمّا مَن مات على الكفر وقد كتم شهادة ولم يعلن الندم والتوبة، فهو من المطرودين من رحمة الله، والملعونين المذمومين من قِبَل الملائكة والمؤمنين.
(164-167) : لو استقرأ الناس الكون بأبعاده كلّها لوجدوا أنّ الله الواحد الذي لا إله إلّا هو، هو خالق السماوات (بما فيها)، والأرض (وما عليها)، وهو لا غيره جاعل التعاقب في حركتي الليل والنهار، وهو لا عداه مُنزِّل مياه الأمطار من السماء ليُحيي بها الأرض بما تنبته وتنتجه من خيرات، وهو لا سواه خالق الكائنات الحيّة كلّها، ومُنوِّع الرياح في حركتها، وجامع السحب والغيوم وسائقها إلى أماكن الحاجة إليها. وليسألوا بعد هذه الجولة الاستقرائية: هل إلهٌ أو ربٌّ أو خالقٌ غير الله مَن يصنع ذلك ويقدر عليه؟! أليس عجيباً وغريباً أن تجد بعض الناس -على الرغم من كلّ تلك الدلائل المدهشة والآيات المنقطعة النظير- يتخذون شركاء مع الله يحبونهم كما يحبّ المؤمنون الله تعالى، ويخافوهم كما يخاف المؤمنون الله، ويطيعونهم كما يطيع المؤمنون الله؟! ولكن مع كلّ هذا الحبّ العاطفي، تبقى درجة الحبّ لله عند المؤمنين (أعلى) و(أوسع) و(أعمق) لأنّ عرفانهم أنّه مالك كلّ شيء، وأنّ القوة المطلقة بيده وحده، وإنّه لا مهيمن ولا مؤثر في الوجود سواه، يجعلهم يحبّونه أكثر ويتعلّقون به أكثر.
ولذلك وحتى تتبيّن هشاشة حب الكافرين بعضهم لبعض، يسوق القرآن مشهداً من مشاهد القيامة التي تستدعي المستقبل وتُقرِّبه لتضعه بين أيدينا، مشهد البراءة: براءة الشركاء والأسياد والملوك من أتباعهم ومريديهم وحواشيهم والمتزلفين إليهم والعاملين في الدنيا بخدمتهم، وتنكّرهم لهم واتهامهم أنّهم اتّبعوهم باختيارهم ولم يجبروهم على ذلك، واتهام هؤلاء الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم، لأولئك الذين كانوا السبب في سكناهم النار، وإذا بعواطف الدنيا وروابطها وعلائقها التي كانت تبدو قوية، ممزقة ومهلهلة ومتقطعة منفرطة لا أحد يستطيع أن يدافع عن الآخر أو يدفع عن نفسه شيئاً من الخطر (ولذلك فإنّ الأعمال بخواتيمها وعواقبها.. يتجلّى لنا ذلك بالمقارنة بين (حبّ مصلحي) هشّ لا يصمد، وبين (حبّ حقيقي) يُختم بأحسن مصير).
(168-176) : أباح الله تعالى نِعَمَهُ التي لا تعدّ ولا تُحصى، والطيِّبات من الرزق للناس للذين كان يجدر بهم أن يشكروه بالعمل بطاعته، ويذكروه بأنّه المنّان المتفضِّل عليهم، ليكسبوا بمعرفته مزيداً من ألطافه وبركاته وتوفيقاته، لكنّهم استبدلوا ذلك بطاعة الشيطان واتباع خطواته واستدراجاته للايقاع بهم في حُفر وأهوال النيران. وقد حذَّر الله سبحانه وتعالى -منذُ قصّة أبينا آدم7 وأُمّنا حوّاء مع الشيطان- من الاستجابة المتهورة لأوامر هذا المخادع الذي يغري بالقبائح والمساوئ والمفاسد والخبائث، ويدعو الناس إلى تحريم ما أحلّه الله وأباحه، وتحليل ما حرَّمه ونهى عنه خلافاً لشريعته التي فيها نظامُ الحياة (إنّ طاعة الشيطان طاعة لعدو يورّط بالمعاصي ويتنكر لمرتكبيها ويتركهم يواجهون مسؤوليتهم لوحدهم، فهل عاقلٌ يُطيعُ عدوّه؟!). وهل عاقلٌ يُدعى لطاعة الله واتباع أمره واجتناب نهيه، وفي ذلك المصلحة كلّ المصلحة، فيدير ظهره إلى أسلافه متعصِّباً لآبائه وأجداده وأُسرته وعشيرته وقبيلته وحزبه، ويرى أنّ ما عليه الأسلاف هو الحقّ والعقل والمصلحة (تلك سمة جاهلية مقيتة لا تتعلّق بزمن ولا ترتبط بأُمّة دون أُمّة، وهي مظهر من مظاهر التخلُّف المقرف) ذلك أنّ العقل السليم يحكم باتباع الأكبر عقلاً وحكمة، والأكثر رُشداً وعلماً، والأقرب نفعاً وخيراً، لا اتباع مَن لا عقل له، ولا يضرّ ولا ينفع). وبهذا أمكن تشبيه الكافرين الذين يصرّون على البقاء على جهل آبائهم، بمن يصيحُ في الحيوانات والبهائم: هل تسمعه؟! وإذا سمعته هل تفهمه؟! إنّهم (صُمٌّ) وإن كانت لهم أذن يسمعون بها، و(بُكم) لأنّهم لا ينطقون بالحقّ وإن كانت لهم ألسنة ناطقة، و(عُمي) لا يرون النور الذي به يُبصرون طريق الهداية والصواب، وإن كانت درجةُ إبصارهم ستة على ستة.
إنّ تعطيل أدوات المعرفة (السمع واللسان والبصر) كتعطيل الطاقة الكهربائية في الحياة المعاصرة، كلُّ شيء فيها مركَّبٌ ومرتبطٌ بالكهرباء! نعم، الذين يعرفون ذلك ويُقدِّرونه ويشكرونه هم المؤمنون الذين يعلمون أنّ الله تعالى قَسَّم الأطعمة إلى طيِّبة محلّلة، وأخرى خبيثة محرّمة تقسيماً غيرَ متساوٍ، فجعل مساحة الحلال أوسع بما لا يقاس مع مساحة الحرام الضيِّقة، وأمر بالأخذ بالحلال وترك الحرام لمصلحة الناس أنفسهم، فقال: لا تأكلوا لحوم الحيوانات الميتة، ولا تشربوا دمائها، ولا تأكلوا لحم الخنزير، ولا لحم الحيوان المذبوح بدون تذكية (لم يذكر اسم الله عليه عند الذبح).. ومن موضوعية القرآن التي هي مظهر من مظاهر رحمة الله الواسعة أن رفع الله تعالى الممنوعية والحظر في حالات الحرج الشديد والضرورة القصوى، فأباح تناول المحرَّمات عند الاضطرار فقط وبقدر الحاجة لا أكثر حفاظاً على حياة الإنسان لا تشجيعاً على ممارسة الحرام. هذا هو القانون الإلهي والشريعة الربّانية، فالذين يكتمونها ولا يعملون بها أو يمارسون الضدَّ منها، فإنما يُزوِّرون الحقّ ويُزيِّفون الحقيقة ويُحرِّفون كلام الله تعالى ويتلاعبون بأحكامه على ضوء أهوائهم بغية كسب بعض المال الذي يعتبر آكله كآكل النار، ويُعرِّضون أنفهسم لسخط الله يوم القيامة فيُعرضُ عنهم غضباً عليهم، كما أعرضوا عن الحقّ وغيّبوه طواعيةً وبمحض إرادتهم، ولا يَقبل لهم عملاً أبداً، لأنّهم باعوا (استبدلوا) الهدى والخير والمصلحة بالتلاعب والانحراف والمفسدة. ومهما يكن من أمر، فإنّ التلاعب بالحقّ وإخفائه والاختلاف حوله لن يصادر أحقّية الحقّ الذي أنزله الله واضحاً صريحاً في كتابه المبين (القرآن الحكيم).
(177) : صحَّحَ القرآن أيضاً مفهوم البرّ في أكثر من مكان، وهذا أحدها، فالبر، وهو أشمل من العمل الصالح، لا يعني التوجّه نحو قبلة معيّنة (تذكّر انتقاص اليهود من المسلمين الذين كانوا يتبعون قبلتهم نحو بيت المقدس)، وإنما هو قيمة جامعة لعدد من القيم، وهي: الإيمان بالله خالقاً وربّاً وقادراً، وبالمعاد على اعتباره نهاية مطاف الحياة الدنيا، وبداية حياة أبدية خالدة، وبالملائكة بصفتهم العباد المطيعين والعمّال المخلصين ورُسُل الله الكرام إلى أنبيائه، وحفظة أعمال الناس والمتنزِّلين عليهم برحمة الله وألطافه، وبالقرآن كونه دستوراً شاملاً كاملاً جامعاً لعقائد الإسلام وشرائعه، وبالرُّسُل والنبيّين كوسطاء بين الله تعالى وبين شعوبهم، وبإنفاق المال -على الرغم من حبّ المُنفق له- على المحتاجين من الأقرباء واليتامى والمساكين وابن السبيل (المسافر الذي ينفد ما لديه أو يشحّ فلا يستطيع الرجوع إلى بلده)، والسائلين الذين تدفعهم الحاجة إلى الطلب والسؤال، والأسرى والعبيد (انتفى وانتهى وجودهم)، وبإقامة الصلاة بالنهي عن الفحشاء (القبائح) والمنكر الذي يرفض العقل والعقلاء، وبتقديم الزكوات والصدقات بصرفها على مستحقيها، وبالوفاء بالعهود المقطوعة والالتزام بها مهما كلّف الأمر، وبالصبر في حالات الفقر والبؤس الشديد والضرر البالغ، وفي أوقات الحروب والأزمات (هذا هو البرّ في مفهومه الإسلاميّ العريض: هُويّة للصادقين، وبرنامج للعاملين، وشهادة للصادقين.. البرُّ عملٌ صالحٌ كلّه).
(178-179) : فرض الله تعالى القصاص (المعاملة بالمثل) كإجراء عقابي ردعيّ يحدّ من تحوُّل المجتمع الإنسانيّ إلى (غابة بشرية)، فالقاتل بغير حقّ يجب أن يُقتل مع مراعاة اعتبار أو شرط المساواة، أي أنّ القاتل الحرّ يقتل به الحرّ، والعبد بالعبد (تشريع كان في بدايات الإسلام وانتهى الآن)، والأُنثى بالأُنثى، ولكن قوانين الله تُخفَّف عادةً بدخول عوامل اللطف والعفو والصفح والتجاوز، والإحسان بالاستعاضة بدل (الدم) بـ(الدية)، وهي تعويض مالي عن القتيل يدفع كاملاً وبلا أدنى تأخير لذوي القتيل من قِبَل القاتل أو ذويه.. المسلم إذاً مُخيَّر بين أُمور ثلاثة: (القصاص) أو (الدية) أو (العفو)!
(180-182) : وفرض سبحانه وتعالى على المقترب من الموت (الذي بانت وظهرت عليه علاماته) أن يكتب وصيته في أمواله وممتلكاته حتى لا تضطرب الأُمور وتنشب الخلافات بعده، فيكون لوالديه والمقرَّبين منه (أولاده وأرحامه) حقّ أو حصّة في تركته أو إرثه (بحسب التوزيع الشرعي لها)، ولا يجوز التلاعب بالوصية بعد كتابتها، أي لا يحق لأحد تحريفها أو التلاعب بها بعد موت صاحبها. أما إذا جارَ الموصي وتعدّى الحدود (خالف الالتزام الشرعي ولم يعدل في وصيته)، فبالإمكان تصحيحها على ضوء الضوابط الدينية والشرعية.
(183-187) : وفرض -جلّ جلاله- كذلك الصوم على المسلمين كما فرضه على الأُمم السابقة لتربية مَلَكة التقوى وكفّ الاعتداء على الآخرين، والامتناع عن ارتكاب المعاصي والمحرَّمات، والصوم هو الامتناع الذاتي الطوعي عن أُمور محلّلة (الطعام، الشراب، الجنس) خلال فترة الصيام من الفجر حتى مغيب الشمس وعلى مدى شهر قمري كامل اسمه (شهر رمضان). ويُرخَّص لـ(المريض) و(المسافر) أن يفطر في الأيام التي يُعاني فيها من المرض، أو يُسافر فيها خارج وطنه ليقضيها بعد شهر رمضان. أمّا مَن تَعذَّر الصيام عليه لشيخوخة أو عُذر شرعي آخر، فيستعيض عن صيامه بدفع بَدَل عن كلّ يوم مقداراً من الطعام يُقدِّمه لمسكين.. وإذا أحبّ أن يُطعم أكثر من مسكين، فإنّ ذلك يزيد في أجره عند الله تعالى، والصوم مع القدرة على تحمُّل المشقّة غير المضرّة أو المؤذية للنفس أفضل عند الله من الإنكار ودفع الفدية لما في الصوم من فوائد جمّة. ولقد اختار الله تعالى شهر رمضان شهراً للصيام لعظمته ومنزلته من حيث نزول القرآن فيه ليكون فاصلاً بين الحقّ والباطل.. فإذا دخل الشهرُ برؤية هلاله، وجب على المسلمين التزام الصوم فيه ما عدا المرضى والمسافرين الذين تراعي الموضوعية القرآنية خصوصية ظروفهم، فتمنحهم رخصة الإفطار، على أن يقضوا ما فاتهم في ما بعد، وكلُّ ذلك من باب اللطف الإلهي والتيسير الربّاني حتى لا يجد الناس مشقّة غير عادية في العبادة. فإذا ما انتهى شهر الصيام، خرج المسلمون الصائمون إلى صلاة عيد الفطر، مكبّرين على نعمة الله في التوفيق والرحمة والهداية. وفي الحديث: «زيِّنوا أعيادَكم بالتكبير»[5]!. وشهر رمضان كذلك شهر الدُّعاء المُستجاب. رُوِي عن النبيّ6: «دعاؤكم فيه مستجاب»[6] فإذا استجاب المسلمُ لأمر الله تعالى بالصيام والدُّعاء والتوجّه إليه، كافأه الله سبحانه بالاستجابة لما يطلب من الخير. ويُرخَّصُ للصائم المتزوِّج أن يباشر زوجته بعد الإفطار، لأنّ الله خلق كلّاً من الزوجين ستراً ووقاية من المعاصي وصيانة من الانحراف لصاحبه، ولقد جاءت الرُّخصة بعد أن كانت المعاشرة الجنسية ممنوعة في ليالي الصوم، وكان بعض المسلمين يخالفون الممنوع ويخونون حُكم الله، ثمّ جاء العفو والترخيص والسماح بذلك. وتمتدّ فترة الإفطار من غياب الشمس حتى طلوع الفجر، أمّا فترة الصيام فتمتد من طلوع الفجر حتى مغيب الشمس، ولا يجوز ولا يحلّ لمسلمٍ أن يُعاشر زوجته جنسياً في المسجد لأنّ المساجد بيوت الله وحدوده التي يجب أن تُحترم ولا تُنتهك أو يُعتدى عليها بمخالفة الأمر الإلهيّ.
(188) : وحَرَّم الله تبارك وتعالى التصرُّف غير الشرعي بأموال الآخرين، أو دفعها رشوةً للقضاة أو المتحكِّمين بإدارة شؤون الناس، ولذلك رُوِي عن النبيّ6: «الراشي والمرتَشي كلاهما في النار»[7] لتعاطيهما الباطل والمحرَّم والممنوع، ولتعدِّيهما السافر على الحقّ.
(189) : السؤال مفتاح العلم، والقرآن يُرحِّب بالأسئلة ويُجيب عنها، وعندما يسأل المسلمون عن فائدة مراعاة أو مراقبة مطالع وبدايات الشهور، فإنّ الحكمة منها تحديد مواعيد العبادات من الصوم والحج وسائر المناسبات أو المواسم الدينية. ومرة أخرى، يُصحِّح القرآن فهم الناس لمعنى (البرّ)، فلا يعتبر إتيان البيوت من ظهورها (كما كان يفعل الإنسان الجاهلي عندما يلبس الإحرام) برّاً، بل مراعاة الله في أحكامه وقوانينه وتشريعاته، وعدم العدوان على الناس هو البرّ الحقيقي.
(190-194) : وفرض -تبارك وتعالى- كذلك مقاتلة المعتدين الذين يُقاتلون المسلمين دفاعاً عن أنفسهم، على أن لا يبدأ المسلمون أحداً بقتال، وأن لا يتوانوا في مواجهة المعتدين أينما كانوا، وأن يُعاملوهم بالمثل بنفيهم وتشريدهم من ديارهم (القرآن لا يُريد للمسلمين أن يُستغفَلوا أو يُستغلّوا من قِبَل أعدائهم في بعض الممارسات العدوانية). وتبقى مشكلة إثارة القلاقل والاضطرابات ونشر الشرّ والفساد والبلبلة بين صفوف المجتمع المسلم أخطر بكثير من قتل الأنفس وتصفية الأجساد، لأنّ الفتنة (زعزعة الاستقرار) قتلٌ للروح المعنوية، وهدمٌ للبناء الوحدويّ، وخسائرها أكبر وأعظم من الخسائر المادّية التي تُخلِّفها الحروب. والله عزّوجلّ ينهى عن القتال في المسجد الحرام، أي أنّه خطّ أحمر، لما جعله واحة أمن وأمانٍ للناس، فإذا اضطر العدوّ المسلمين أو أجبرهم على ذلك، جاز لهم أن يقاتلوه فيه حتى لا يستغل ذلك نقطةَ ضعفٍ نظراً لمراعاة المسلمين لحرمة البيت الحرام. وينهى سبحانه وتعالى عن المقاتلة في الأشهر الحُرم: (ذي القعدة، ذي الحجة، رجب ومحرّم) لأنّه حَرَّم القتال فيهنّ حقناً للدماء وتخفيفاً من حدّة الصراع وتحقيقاً للهدنة بين المتحاربين، فإذا خرق العدو الهدنة، وجبت مقاتلته في الشهر الحرام (لأنّ البادئ أظلم). والغاية من مقاتلة الكافرين ليست التعطُّش للدماء، وإنما لوضع حدّ للفتن والاضطرابات الداخلية التي يثيرونها، ومن أجل أن تصفو ساحة الإيمان وتخلو من طحالب الكفر وطفيليات الشرك وأشواك النفاق، فإذا كفّوا وامتنعوا عن مقاتلتكم فامتنعوا عن قتالهم في الأشهر التي لا يجوز فيها القتال.
(195) : وفرض عليكم -جلّ جلاله- أن تُنفقوا الزائد من أموالكم في سبيل الله (خدمة المجتمع وتلبية احتياجات المحتاجين) أي في الخير والبرّ والإحسان، ولا تندفعوا إلى ارتكاب الأخطاء الجسيمة بالشحّ والبخل ومنع الحقوق، أو بالإسراف والتبذير، أو الانتحار وقتل النفس التي حَرَّمه الله، أو التهوُّر والتسرُّع في المواقف التي لا تُحمد عقباها، بل كونوا مجتمع الإحسان في البذل والعطاء، والحلم والتريث والاعتدال، والحكمة في اتخاذ المواقف والقرارات، لأنّ ذلك فعلاً هو ما يليق بالمسلمين.
(196-203) : ويفرض -عزّوجلّ- على المسلمين أن يقصدوا أو يزوروا البيت الحرام (الكعبة المشرفة) للحج في (الموسم) أو العمرة (خارج الموسم)، فإذا مُنعتم من الحج لأي سبب (ذاتي) من مرض أو ضياع المال، و(موضوعي) من صدّ (الحاكم الظالم) فليذبح الممنوع أو المصدود ما تيسّر له من ذبيحة (شاة) ويحلّ إحرامه ويحلق رأسه بعد الذبح، فإذا كان يعاني من مرض في الرأس فليدفع عن ذلك بدلاً: إمّا صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو بذبح شاة للفقراء. أمّا مَن لا يملك أن يذبح شاة -وكان قادماً من خارج مكة-، فليستعظ عنها بصيام عشرة أيام (ثلاثة أثناء الحج وسبعة أيام بعد الرجوع من الحج). (وهذا مظهر من مظاهر لطف الله تعالى في تيسير الأحكام وتخفيف التكاليف ورفع المشاق والصعوبات في حال العُسر والضرورة). ومن شروط الحج -في موسمه- الامتناع عن المعاشرة الجنسية (أثناء الإحرام)، والكفّ عن الكذب والسُّباب، وقول: لا والله، وبلى والله (الحلف أو القسم بالله)، (وبعضها ممنوع أيضاً في غير المواسم أيضاً، لكنّ حرمة موسم الحج تتطلب المزيد من الاحتياط في مراعاة الممنوعات التي تُسيء إلى حرمة الحج وحرمة الحجّاج (ضيوف الرّحمن). ولذلك كان الحج محطّة للتزوُّد بالوقود الروحيّ والأخلاقيّ ودورة تدريبية على الالتزام والانضباط والتقيُّد بالأحكام. وللحاج الرخصة أن يغتنم فرصة الحج لغرض التجارة التي لا تتعارض مع أعمال الحج، فإذا خرج من (عرفات) بعد الوقوف في اليوم التاسع، وقف بالمشعر الحرام (المزدلفة) حتى صبيحة العاشر من ذي الحجة (وكلّ هذه المواقف محطّات لـ(الذِّكر) و(التذكُّر)، و(الفكر) و(التفكُّر)، و(القُرب) و(التقرُّب)، و(الشكر) و(التشكُّر) والتوبة والاستغفار).
أمّا بعد الانتهاء من أعمال الحج، فعلى الحجّاج أن يواصلوا ذكر الله تعالى وتذكُّر نِعَمَهُ حتى لا تنقطع روحانية الحج وتجفّ مكاسبه وتتلاشى منافعه. والناس في الذِّكر -كما يُصنِّفهم القرآن- صنفان: منهم مَن يطلب خير الدنيا الزائل الفاني، وينسى خير الآخرة الدائم الباقي، ومنهم مَن يطلب الحسنيين أو الحسنتين: حسنة الدنيا (خيرها) وحسنة الآخرة (خيرها). قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ (الشورى/ 20). ومن موضوعية القرآن في تيسيره للأحكام أنّه لا يوجب على الحاج المبيت بـ(منى) ليلة (13)، حيث يجوز له أن يخرج منها يوم (12) بعد الظهر إذا كان مستعجلاً يريد العودة سريعاً، ويحقّ له أن يتأخّر إلى اليوم الثالث عشر.
(204-207) : هنا يرسمُ القرآن صورتين أو نموذجين متقابلين: صورة بعض الناس المنافقين (الازدواجيين) الذين يطلقون الكلمات الطنّانة الرنّانة في الدين والتديُّن، ويجعلون الله شهيداً على نواياهم، لكنهم من أشدّ الأعداء للحقّ وللدين وللمؤمنين. قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (المنافقون/ 1). لأنّهم فاسدون مفسدون لا يدعون حرمةً أو حقّاً إلّا انتهكوهما، ولا حياة إلّا أبادوها، ولا يمتنعون إذا ما نهوا عن ارتكاب هذه الفظائع المخالفة لكلّ الشرائع، بل يصرُّون عليها معتزّين بجرائمهم ومفتخرين، فما أوقحهم وأجرأهم على الله!! وصورة مضادة لصنف آخر من الناس يضحّون بأنفسهم من أجل دينهم وصلاح مجتمعاتهم طلباً لرضوان الله (والنماذج المتقابلة في القرآن صور مُقارَنة بين (السلبيّ) بشروره و(الإيجابيّ) بخيراته، بغية الابتعاد عن الأوّل واجتنابه، والاقتراب من الثاني وممارسته).
(208-212) : هذه دعوة لبناء مجتمع السِلم الإيمانيّ العالميّ، ونبذ العنف وسفك الدماء وإشاعة الخراب والدمار. يُطالب المؤمنون (بصفتهم المنتدبين لإعمار الأرض) أن يكونوا روّادها ودُعاتها والمؤسِّسين لها بل والمبادرين المسارعين إليها، وأن لا ينجرّوا إلى دعوات الشيطان في الحرب والاستنزاف والعدوان، فإذا لم تأخذوا بمنهج (السلم) و(السلام) و(التسليم) لله تعالى بإطاعته في أمره، والاعتصام والتمسُّك بحبل توحيده، فإنّكم مُعرَّضون لعقاب الله يترككم متناحرين متدابرين في الدنيا، ويسوقكم للعذاب الأخروي الذي يشبه تكاثف وتراكم السُّحب السوداء لاحتشاد الرُّعب والأهوال فيه، وكأنّ الملائكة تسوقُ العذاب في ذلك اليوم سَوْقاً. اتعظوا إذاً بما جرى لمن قبلكم من الكافرين من بني إسرائيل المحرِّفين المزيِّفين لكلام الله المبدِّلين نعمته (بقبول الإسلام) كفراً (بمحاربته ومناصبته أشدّ العداء)، وانظروا كيف نزلت بهم أقسى العقوبات، ذلك أنّ الكافرين ضيقي الأُفق ضعيفي الرؤية لا يرون أبعد من حدود الدنيا، ويستخفّون ويستهزؤن بما وراءها من الغيب ويسخرون من المؤمنين بذلك، لكن الصورة يوم القيامة سوف تنقلب رأساً على عقب، فيكون المؤمنون المصدِّقون بالله وبالمعاد هم الساخرين من الكافرين المكذِّبين بالاثنين معاً، وسيجدون عند الله رزقاً واسعاً يفوق دنيا الكافرين بما لا يطاله خيالهم البعيد.
(213-214) : في فاتحة التاريخ وفجره كان الناسُ جميعاً مؤمنين بالفطرة، ولمّا دبّ الخلاف والصراع بينهم (لأسباب كثيرة، منها: الحقد، والحسد، والغيرة، والاستئثار، والمصادرة، والتعالي) بعث الله لهم الأنبياء رسلاً من عنده ليرجعوهم إلى دين الفطرة، وليرجعوا هم أنفسهم إليهم في حَلّ منازعاتهم وخصوماتهم واختلافاتهم، وأرسل معهم رسائل وكُتُباً سماوية تتضمّن دساتير إلهية وأنظمة حياتية لتستقيم أُمورهم بالأخذ والعمل بها. وهنا انشقّ الناس إلى شقّين: مكذِّبين بالأنبياء حفاظاً على مصالحهم التي حصلوا عليها في عهود الخروج على الفطرة، ومصدِّقين ومطيعين لهم رغبة بما عند الله وإيماناً أنّ لا صلاح لهم إلّا بالأخذ بما جاء به أنبياء الله، فتحققت هداية وصلاح وسعادة هؤلاء، فيما بقي الآخرون في شقاق ونفاق وظلم وعدوان. وبذلك تحدَّد قانون الغاية: الوصول إلى الجنّة ونوال رضوان الله تعالى، بالمعاناة في طريق الحقّ، والصبر على المشاق في المسيرة الربّانية (حتى يخلص الذهبُ من شوائبه، ويكشف المعدن الأصيل عن صلابته). ولقد عانى الأنبياء والرُّسُل وأتباعهم في ذلك الطريق أشدّ العناء وأقسى البلاء لدرجة إنّهم كانوا يتساءلون بقلق في ساعة العسرة واشتداد المحنة والفتنة وكثرة الأعداء: متى نصرُ الله؟! يأتي الجوابُ من الله قاطعاً وواعداً ومؤمّلاً إنّه قريب يتطلب استكمال شروطه، فإذا استُكملت فهو لا يتردَّد لحظةً في التحقُّق والمثول والحصول.
(215) : ثقافةُ السؤال معرفيةٌ تربويةٌ قرآنية (هذا ما يؤكِّده القرآن في ما يطرحه من أسئلة الناس ويجيب عنها). المسلمون هنا يسألون: لمن يتوجّب عليهم إنفاق أموالهم؟ والسماء تجيب: أولويات الإنفاق على: (الوالدين) و(الأقرباء) و(اليتامى) و(المساكين) و(ابن السبيل)، ومن ثمَّ فإنّ كلّ ما يفعله المؤمن من أعمال الخير والبرّ والإحسان والإنفاق مرصود ومدوَّن ومحفوظ لا يضيع من أجره شيء (في بنك الله لا خشيةَ من إفلاسٍ أو احتراق الودائع أو سرقتها.. كلُّ شيءٌ محفوظٌ مضمونٌ ومصون).
(216-218) : وفرض الله تبارك وتعالى على المسلمين الجهاد ومقارعة العدوان وكبح جماحه واستئصال شأفة (قرحة أو غدة) الفساد من الأرض، دفاعاً عن الأنفس، والأموال، والأعراض والمقدّسات. وفي القتل والقتال كراهية للنفس البشرية الميّالة لحبّ الأمن والسلامة (ذلك أنّ تكاليف الحروب باهضة من قتلٍ وخسائر ودمار)، لكن في السكوت على الظالمين وعبثهم وعدوانهم خسائر أكبر ودمار أوسع، وعلى ذلك فليس كلّ ما يكرهه الناس مكروهاً، ولا كلُّ ما يحبّونه محبوباً، لأنّ نظرتهم إلى الأُمور قد تكون لحَظية، جزئية، جانبية، سطحية، محدودة. أما علم الله تعالى فواسعٌ محيطٌ وكلّيٌّ شامل يعلم ما كان، وما سيكون، وما هو كائن، وأين سيكون ومتى وكيف سيكون؟ وهو أعرف بالمصلحة التي لا يُقدِّرها الإنسان في بعض الأحيان، إلّا أنّ الله الذي أوجب القتال حَرَّمه في الأشهر الحُرم الأربعة، واعتبر أيّ قتالٍ فيها إثماً كبيراً، وذنباً عظيماً وجريمةً نكراء، غير أنّ الكفر بالله تعالى، وقطع الطريق إليه، ومنع المسلمين من دخول بيته الحرام، وتشريد الناس من ديارهم ظلماً وعدواناً، أعظم ذنباً عند الله من انتهاك أو اختراق حرمة الأشهر الحُرم التي حُرِّم فيها القتال، بل إنّ إحداث البلبلة المجتمعية، وإضعاف الصف المسلم بالإشاعات والدعايات والصراعات المذهبية والطائفية، أخطر من ذلك وأشنع وأفظع بكثير.
وفي مقابل مقاتلة الكافرين للمسلمين، لا يمكن أن يكون الموقف سلبياً بالسكوت والتفرُّج، حيث لا يُقر لأعداء المسلمين من الكافرين والمشركين والمنافقين قرار حتى يعيدوا أهل الإيمان إلى مربع الشِّرك والجهل الأوّل، وهو مخططٌ فاشلٌ سَلفاً لأنّ جدار الإيمان أصلبُ من أن يُخترق فضلاً عن أن يُهدّ، ومَن يستجيب أو يتجاوب مع دعوات الكفر فيرجع إلى جاهليته مشركاً كافراً، فإنّ كلّ أعماله (على عهد إيمانه) تُصفَّر وتُبطل ولا ينظر الله تعالى إليها نظرة تقدير، لأنّ الذي يحرق دينه بالارتداد إلى الوراء إنما يحرق أعماله بتنكُّره لإيمانه وخيانته لدينه، وبذلك يستحق أن يُحرق بنار جهنّم جزاءً وفاقاً. أمّا المؤمنون بدين الإسلام الثابتون على المبادئ، المهاجرون بأمر الله من أرض الظلم والعدوان إلى أرض العدل والإحسان، والمجاهدون في سبيل الله لـ(نصرة المظلومين والدفاع عن الحقّ) فإنّهم هم البانون جنّتهم بأيديهم، وهم المرحومون برحمة الله، المشمولون بمغفرته وعطفه ورضوانه.
(219-220) : ثقافة السؤال والاستفهام والاستبانة وسيلة قرآنية من وسائل التعلُّم والكشف والمعرفة. هنا يسأل المسلمون عن موقف الإسلام من مسائل ثلاث، الأولى: (الخمر والميسر) والميسر هو القمار، ويأتي جواب السماء ناطقاً بموضوعية تامّة: ففي الخمر والقمار منافع مادّية يتصوّرها ويطلبها معاقرو الخمرة من الشعور بحالة الانتشاء والغيبوبة، ولاعبو القمار من الكسب والربح الذي يأتي بلا عناءِ عملٍ أو مجهود كبير. ولكن هذه المنافع -كما يُصرِّح القرآن- ضئيلة محدودة جدّاً قياساً بالمضارّ والمساوئ الصحّية والنفسية والمالية والاجتماعية المترتبة عليها.. وفي المحصلة، فإنّ سلبيات الخمر والقمار أكثر بكثير من إيجابياتهما ومنافعهما المُتصوِّرة (ومن ذلك تُستل أو تُستخرج القاعدة الفقهية الآتية: ما كان ضررهُ أكبر من نفعه، فهو بضرورة العقل قبل الشرع، حرام. وما كان نفعه أكبر من ضرره، فهو بالضرورة العقلية قبل الشرعية، حلال). المسألة الثانية: ماذا يجب على المسلمين من إنفاق؟ (وقد كانوا سألوا في ما سبق: لمن يجب عليهم الإنفاق؟ الجواب عن (ماذا) هو: العفو. والمراد به ما تَبقّى أو زاد أو فاض عن الحاجة من المال (أي بعد أن يكون الإنسان المسلم قد سدّ ولبّى احتياجاته كلّها سواء أكانت النفسية الذاتية أم العائلية الأسرية). المسألة الثالثة: سؤالٌ من أوصياء أو كفلاء الأيتام: ماذا يتوجّب علينا بحقّ الأيتام؟ الجواب من جهة السماء: يمكنكم مشاركتهم أموالهم والعمل على حمايتها وتنميتها، أي العمل بأموالهم بما فيه مصلحتهم، وهذا من بعض تيسيرات الأحكام في الإسلام).
(221-223) : في مسائل الزواج -بحسب القرآن- لا يجوز للمسلم أن يتزوَّج المشركة إلّا بعد أن تُعلن إيمانها أو تُشهر إسلامها (هذا ليس إكراهاً، هو استثمار للانجذاب العاطفي حتى يحقِّق انجذاباً روحياً وفكرياً أيضاً)، وإلّا فالأَمَة المؤمنة (العبدة المملوكة المسلمة) خيرٌ وأفضل من المشركة الكافرة الجميلة شكلاً القبيحة مضموناً. الانجذاب الظاهريّ ليس هو المهمّ، بل المهم كم (الزوجة الموعودة) قريبة من الله، لأنّها حينئذٍ تعرف معنى مهام ومسؤوليات الزوجة المخلصة الصالحة المحمودة. وفي المقابل، لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوَّج المشرك ولو أعجبها في مظهره ومنظره لأنّ جوهره معاكسٌ لهيئته، ومن ثمّ كيف ينسجم الإيمانُ مع الشرك في حياة الشراكة الزوجية؟ ولو اختارت المسلمةُ عبداً مملوكاً مؤمناً بالله زوجاً لها لكان خيراً لها من الاقتران بمشرك (لأنّها تضمن ما يُسمّى بانسجام الخلفية أو تناسب الأرضية بما يكفل قدراً من الانسجام ويُقلِّل نسبة الاحتدام والخصام).
وفي مسائل الزوجية أيضاً، لا يجوز مقاربة الزوجة الحائض ذات (الدورة الشهرية) جنسياً، لما في ذلك من أضرار صحّية ونفسية على الزوجة، فلابدّ من الانتظار حتى تنتهي الدورة وتطهر المرأة لما تعنيه الطهارة من مراعاة الحالة الصحّية والاستعداد النفسي لمعاودة المعاشرة. وكما يحبّ الله تعالى (التوّابين) الذين يتطهّرون من الذنوب بالتوبة، فكذلك يحبّ (المتطهِّرين) الذين يتنظفون من الحيض ويغتسلون من باقي النجاسات بالماء وأدوات التطهير. وعلى أيّة حال، فإنّ المرأة بالنسبة للرجل كالأرض الزراعية الخصبة للفلّاح، يُودع فيها بذوره فتُنبت وتُنتج له الولد بعد أن تتفاعل البذرة مع خصوبة الأرض.. إنّه يُهيِّؤها ويُعدّها للزرع البشريّ.. وما عدا النهي عن المقاربة الجنسية أثناء الحيض، فإنّ للرجل الحقّ في أن يقارب زوجته في أي وقت شاء وشاءت.
(224-225) : لابدّ في اليمين أو القسم بالله جلّ جلاله من توفّر النيّة، والعزم، والقصد، والجِدّية، وإلّا فبعض الإقسام اللغوية الطارقة أو الطارئة على الألسن لا تعتبر يميناً لأنّها لا تُبنى على قصدٍ جادّ (وهذا من بعض موضوعية القرآن الذي لا يحاسب على (اللغو) العابر، بل على جدّية اليمين الصادر، في الحديث الشريف: «لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين»[8]).
(226-233) : ومن أحكام الطلاق (هي موزَّعة في سور القرآن وليست مجموعة في سورة الطلاق فحسب) أن إذا غضب الزوج على زوجته آلى على نفسه أن لا يقاربها جنسياً، إمّا إلى الأبد أو إلى مدّة تزيد على الأربعة أشهر، فحكمه أن يرجع إليها مع الكفّارة، وإمّا أن يُطلِّقها، فإن رجعا إلى سابق عهد الزوجية عفا الله تعالى عن ذلك. وإذا قرَّرا الطلاق فعلى المرأة المطلَّقة انتظار ثلاث حيضات وأطهار (حتى تتبيّن براءة رحمها)، ولا يحلّ للمرأة أن تكتم ما في رحمها من الولد. وإذا كان طلاقهما رجعياً، يحقّ لهما أن يرجعا أثناءه وفي خلاله إلى الحياة الزوجية، ولا يجوز الإضرار بالزوجة (كونها الطرف الضعيف) على أي نحو، كما لا يحقّ لها أن تضرّ زوجها، مثلما مُطالَبٌ كلٌّ منهما بنفس الحقوق تجاه الآخر، أي أنّ التعامل بالمعروف والحُسنى مُتبادَل بينهما، فعليها أن تطيعه بالحقّ وعليه أن ينفق عليها بالعدل. أمّا الدرجة التي للرجل على امرأته، فهي أنّ بيده حقّ الطلاق. والطلاق الشرعي ثلاث مرّات، يجوز الرجوع فقط في الأوّل والثاني منه، وقاعدة اللطف التي تحكم العلاقة الزوجية هي: إمّا معاشرة كريمة، وإمّا فراق بهدوء دونما تعنُّت وتشدُّد وأذى، حيث لا يجوز للزوج أن يصادر ما لزوجته في ذمّته من حقوق مالية (المهر) إلّا إذا قَصَّرت في حقّه الاستمتاعي، الشرعي، فيجوز لهما عند ذلك الإنفاق على مقدار التعويض في مقابل الطلاق. أمّا إذا طُلِّقت الزوجة للمرّة الثالثة، فلا تحلّ على زوجها إلّا إذا تزوَّجت زواجاً صحيحاً من آخر غيره، فإذا طَلَّقها هذا أو مات، جاز للأوّل الرجوع إليها بعقد جديد. ويمكن للزوجين -عند الطلاق وقبل انتهاء العدّة- التي هي أربعة أشهر وعشرة أيام، أن يتراجعا عن قرار الطلاق. ولكن لا يجوز للزوج إرجاع زوجته بنية إيذائها، وإلّا فليتركها وشأنها تختار مَن تراه صالحاً (هذه الأحكام ليست كيفية أو ذوقية أو مزاجية) الغاية منها التلاعب بمشاعر الآخر، وإنما هي أحكام ربّانية محكمة وقواعد قانونية محترمة، يعدُّ التجاوز أو التحايل عليها ظُلماً وعدواناً. فإذا انتهت العدّة وأرادت الزوجة استبدال زوج مكان زوجها، لا يحقّ حينئذٍ لأحد أن يقف في طريقها أو يمنعها ظُلماً وتعسُّفاً، وإلّا عُدّ ذلك تمرُّداً على حكم الله تعالى.
في هذه الأثناء، تبرز مشكلة إرضاع الطفل الذي من حقّه أن يرضع من لبن أُمّه أو غيرها لمدّة عامين، ولها حقّ طلب الأجرة على الإرضاع بما لا يثقل كاهل الزوج مادّياً، ولا يحقّ لأيّ من الزوجين أن يتخذ الولد (رضاعةً وحضانةً) وسيلة للإضرار بالآخر. وإذا مات الأب قبل أن يتم الطفل الرضاعة، فإنّ أجرة رضاعته تُستخرج من إرث أبيه. وفي حال قرر الأبوان (الزوجان) الطلاق، فإمّا أن تستمر أُمّه بإرضاعه مقابل أجرٍ معقول، وإمّا أن يجد الأب له مرضعة أخرى.
(234-237) : وفرض الله تعالى على الأرملة (المتوفّى زوجها) عدّةً (انتظار أربعة أشهر وعشرة أيّام) لا يحق لها أن تتزوّج خلالها. أمّا إذا انتهت المهلة جاز لها أن تتزوَّج.. وربما يعرض لها أثناء العدّة مَن يتمنّى الزواج بها بعد انقضاء عدّتها، وهنا يجوز له التلميح دون التصريح، كأن يقول لها: إذا قررتِ أن تختاري فإنّني أتمنّى أن أكون قرارك أو خيارك. ولا يجوز أن يُعقد القِران (الزواج) بصيغته الشرعية بينهما خلال مدّة العدّة المنصوص عليها (والتي تعدّ فترة نقاهة لاندمال الجروح النفسية لفقدان الشريك، فضلاً عن انكشاف براءة الرحم من عوالق الزواج السابق). وإذا تَزوَّج الرجل امرأة ولم يدخل بها ثم طَلَّقها، عليه حينئذ أن يدفع لها نصف مهرها، إلّا إذا تنازلت له عن ذلك ولم يطالبه به وليّ أمرها، والله يدعو إلى التساهل والتسامح واجتناب الإساءة.
(238-239) : وفرض الله عزّوجلّ الصلاة أوقاتاً محدَّدة، وأوجب المحافظة على أدائها: (في الأوقات والشروط والالتزامات والأبعاد)، واعتبر ذلك جزءاً من هُويّة الإنسان المسلم، والتأكيد على الصلاة الوسطى في الآية (أي على صلاة الظهر) لأنّها تأتي في خضمّ انشغال الإنسان في معمعان الحياة وكسب العيش وتحصيل العلوم والمعارف، وهي فترة ينصرف فيها عن ذكر الله، تكون الصلاة في هذا الوقت (محطة استراحة) من شواغل وصوارف الدنيا، و(محطة تعبئة) للطاقة الروحية التي قد يكون منسوبها قد انخفض في ذلك الوقت. وربما استوحينا من الدعوة للقيام طائعين خاشعين لله لفتة في قيمة أداء الصلاة جماعة لانطوائها على فوائد عديدة. أمّا إذا حان وقت الصلاة وكان المسلمون يخافون تهديد العدو واستغلاله لانشغالهم بصلاتهم، فالحلّ هو أن يصلّوا وهم ماشون أو راكبون، فإذا ذهب الخوف عنهم عادوا إلى صلاتهم المعتادة (وهذا أيضاً من الترخيصات الدالّة على سهولة التشريع الإسلامي وموضوعية أحكامه).
(240-242) : وفرض سبحانه وتعالى إذا مات الزوج أن يوصي بالإنفاق على زوجته لمدّة سنة ولا تخرج من بيته خلال ذلك. وقيل إنّ هذا الحكم منسوخ (لم يعد قابلاً للعمل به) بآية العدّة المحدَّدة بـ(130) يوماً. والغاية من تبيان هذه الأحكام والقواعد والآداب هو مصلحة الزوجين لئلّا تخضع حياتهما إلى الاجتهادات الشخصية والانفعالات الذاتية الضيِّقة والمتعسِّفة.
(243-245) : هذه هي قصّةُ الذين فرّوا من الجهاد ظنّاً منهم أنّ ذلك يحفظ لهم حياتهم، فأدركهم (أصابهم) الموت بالطاعون فهلكوا وتفتت عظامهم واستحالوا تراباً. مرَّ نبيٌّ يقال له (حزقيل) بذلك التراب الذي كان بشراً، وسأل الله تعالى أن يُحييهم من جديد (وهذا دليلٌ إضافي آخر من أدلة البعث والمعاد بعد الموت. فمن يقدر على أن يفعل ذلك في (أثناء الدنيا) قادرٌ ولا شكّ أن يفعله في (آخر الدنيا) ولا شيء على الله عسير). والسؤال العقلاني المطروح على هامش القصّة: إذا كان الله تعالى هو المحيي المميت، فلِمَ الفرار من القتال مخافة الموت؟ (أليس من الأفضل للإنسان أن يموت مجاهداً شهيداً ومقاوماً بطلاً من أن يموت على فراشه أو على سرير مرضه، كما تموت الحيوانات حتف أنفها (رغماً عنها)، ولهذا قيل: المستميت لا يموت). أليس من الأجدر أن يُضحِّي الإنسان بنفسه وماله في سبيل خير الناس ونفعهم وخلاصهم من البؤس والطغيان، فيُضاعَف له أجره بما لا يحصيه إلّا الله تعالى؟ إنّ الذي يُقرض (يُقدِّم لأخيه الإنسان قرضاً بدون فائدة ربوية) يُضحِّي بتضحية مالية بسيطة وبربحٍ يُسرّه، وقد يبدو ذلك بلا مقابل دنيوي مباشر أو تعويض سريع، لكنه يحظى بالتعويض المؤجَّل.. فإذا اعتبرنا القرض الحسن بـ(18) حسنة، أي بزيادة (8) حسنات على الحسنة العادية التي لمن جاء بها عشرُ أمثالها، فلنا أن نتصوَّر كمّ الأرباح التي نجنيها وفوقها وأعلى وأكبر منها رضا الله تعالى عنّا)!.
(246-252) : يقول القرآن خذوا -أيُّها المسلمون- الدرس الآتي من تاريخ بني إسرائيل لما فيه من أكثر من عبرة. فلقد كانوا يعانون من اضطهاد ملك جبّار اسمه (جالوت)، وطلبوا من نبيّ لهم أن يدعو الله تعالى بأن يرسل لهم قائداً عسكرياً شجاعاً يقاتلون معه وتحت رايته للتخلُّص من شرور ومظالم الطاغية جالوت. وكان لهم ما أرادوا، حيث أرسل الله إليهم شخصاً منهم اسمه (طالوت) يحمل من مواصفات القوّة والشجاعة البدنية والمؤهَّلات النفسية والقيادية ما يمكنه من حسم المعركة مع جالوت، إلّا أنّ بني إسرائيل اعترضوا على الاختيار السماويّ وطعنوا بشخص طالوت كونه فقيراً وليس ثريّاً، مما دعا الكثيرين ممّن كانوا يطالبون بقائد عسكري مغوار يسيرون خلفه أن يتخلّفوا عن خوض المعركة معه، وجاء الردّ السماويّ على اعتراضهم: إنّكم طلبتم قائداً عسكرياً شجاعاً ولم تطلبوا تاجراً صاحب ثروة طائلة. إنّه قائد بمزايا ومواصفات عسكرية عالية: علم ومقدرة في فنون الحرب والقتال، وقوّة بدنية فائقة تؤهله على خوض المعارك الشرسة والفاصلة.. ورفعاً للشكوك التي راودت بني إسرائيل من أنّ طالوت الفقير لا ينتمي إلى أُسرة ملكيّة عريقة، ولم يكن ابن نبي أو حفيده، جاء (طالوت) ومعه صندوق فيه بقايا موسى7 من الألواح التي أنزلها الله عليه، وعصاه أيضاً. وهو دليل حسّي تميل إليه النفس وتطمئن (وإن كان الامتثال لأمر الله بغير هذه الأدلّة أكثر طمأنينة للقلب وسكينة للنفس). خرج طالوت بأمر الله بالمجموعة التي آمنت به وخضعت لقيادته، فما أن اندفعوا خارج المدينة حتى انتابهم العطش وكان في الطريق إلى العدوّ نهر، فأراد الله عزّوجلّ اختبار الصابرين الأشدّاء منهم، الثابتين إذا حمي القتال، فأوعز إلى (طالوت) أن يحدِّد لهم مقدار الشرب من ذلك النهر، وهو غُرفة يدٍ واحدة فقط، ففشل كثيرون ونجح قليلون. ولمّا رأت القلّة قلّتها ونقصها تذرّعت أنّ العدد غير كافٍ لمواجهة جالوت الجبّار وبطشه. وهنا ردّت الفئة الأكثر صلابةً وإيماناً إنّ الفئة القليلة الصابرة المؤمنة الواثقة بنصر الله المحسنة الظنّ به، قادرة -إن هي استماتت واستبسلت ووثقت بنصر الله- على أن تهزم جيشاً كبيراً. وعند التقاء الجيشين، دعا المؤمنون الصابرون من جيش طالوت الله عزّوجلّ بأن يُنزل عليهم الصبر ويصبّه على قلوبهم صبّاً، ويوفقهم للثبات في الميدان، ويرزقهم النصر العزيز على عدوّهم. استجاب لهم ربّهم دعاءهم، ومَكَّن أحد المقاتلين الشبّان واسمه داود7 من أن يُطلق حجراً ويُسدِّد الله رميته فيصيب جبهة الطاغية جالوت فيرديه قتيلاً، وبذلك استحقّ أن يكون الملك بعده، وأضاف الله تعالى إلى شجاعته حكمةً وحُكماً عادلاً، وجعله نبيّاً لبني إسرائيل (ومن هذه المواجهة الميدانية بين جيشي الكفر والإيمان، نخلص إلى قاعدة أو سُنّة إلهية تاريخية ثابتة، وهي أنّ الله يدفع الظالمين والكافرين ويهزمهم بجهود وزنود وجنود المؤمنين الصابرين، ولولا مثل هذه المواجهات العنيدة لامتلأت الأرض ظلماً وفساداً وجرائم وخراباً، ولحكم المجرمون العالم، ولضاقت الأرض على الناس بما رحبت).
(253) : تقومُ حكمةُ الله تعالى في التفضيل والترجيح للمقامات والدرجات بحسب منازل القرب منه، وليس في تفضيله محاباة. فالأنبياء والرُّسُل: ليسوا جميعاً على درجة سواء، إلّا أنّهم في النهاية هداة البشرية والقادة إلى سبيل الله والدُّعاة إلى طاعته، إلّا أنّ سبب الاختلاف بين أتباع الأديان ونشوب الحروب الطاحنة بينهم، ليس مرجعها إلى هذا التفاوت في درجات الأنبياء، وإنما هي ناشئة من فكرة عدوانية متخلِّفة تقوم على إلغاء الآخر والاستعلاء عليه بسبب التعصُّب الديني الذي لا ذنب للدين فيه، بل هو بريءٌ من التعصُّب كلّ البراءة.
(254) : الإنفاق -حيثما ورد في القرآن- هو فضلٌ من الله تعالى على المنفقين لأنّه في النتيجة هو الرازق الذي جعلهم مستخلَفين في المال وموكلين بتوزيعه في سدّ احتياجاتهم واحتياجات السائلين والمحرومين، ثمّ إنّه يكافئ المنفقين من رزقه في أشد أوقات حاجتهم إليه، في يوم الفقر والفاقة والحاجة حيث تسقط اعتبارات المال والثروة والتعويض والعلاقات الحميمة والوساطات، فإذا بالمنفقين من مال الله يجدون ما أنفقوه مدخراً ونامياً مضاعفاً، وإذا بالكافرين بالمعاد الباقين الذين منعوا الفقراء والمساكين حقوقهم يجدون أنّهم ظلموا أنفسهم بعدم الإنفاق في الخير حيث لا رصيد مدخراً لهم عند الله.
(255-257) : تُعدّ (آية الكرسي) الأعظم بين آيات القرآن الكريم، لماذا؟ لأنّ فيها تعريفاً وافياً لصفات الله تعالى، ودلالة واضحة على توحيده، وإشارات بيِّنة على كونه واهب الحياة الذي لا يموت، والقائم المهيمن على كلّ ما في الكون، الذي لا يعاني تعباً ولا نعاساً ولا نوماً (ولا أي شكل من أشكال الضعف لأنّه القوّة بعينها)، المالك لكلّ ما في السماوات والأرض، الذي لا شفيع لأحد من المذنبين يوم القيامة إلّا بإذنه ورخصته، العليم بما كان وما هو كائن وبما سيكون، ولا علم للناس إلّا ما عَلَّمهم، ومن ثمّ فملكه الأوسع، وعلمه الأكمل، وسلطانه الأشمل، وقدرته الأعظم، ولا يشقّ أو يصعب عليه شيءٌ في السماء أو في الأرض (هذا هو بتوصيفه التقريبي للناس) فهل إلهٌ، من الآلهة المزعومة، مَن يتصف بهذه الصفات غير الله الواحد الأحد الفرد الصمد؟!
وعلى ذلك، فإنّ نتيجة الإيمان بالله تعالى مجزية وهي الخروج من ظُلمات الجهل والجهالة إلى نور العلم والمعرفة، على عكس الإيمان بالمعبودين سواه الذين يُخرجون الناس من نور العلم إلى ظُلمات الجهل. وطالما أنّ دين الله واضحٌ صريحٌ لا لبسَ فيه، فما الداعي لإجبار وإكراه الناس عليه، ذلك أنّ عقل العاقل يقول له إنّ الرُّشد والخير والصلاح والاستقامة كلّها في الدين، والغيّ والضلال والانحراف والمساوئ كلّها في تركه أو إدارة الظهر له. (هل سائقٌ عاقلٌ يحترم عقله ونفسه يُفضِّل السياقة في الطريق الأعوج ذي العثرات والمطبات (المخاطر) وعنده الطريق المعبَّد الممهّد ذي العلامات الواضحة، المعروف البداية والنهاية؟!).
(258-260) : في حوار الطاغية (النمرود) مع النبيّ إبراهيم7، حين قال إبراهيم7: إنّ الله هو المحيي (باعث الحياة وواهبها بشتى أنواعها)، المميت (الذي يستلب الحياة متى يشاء كيف يشاء)، زعم النمرود أنّ هذه القدرة ليست مختصة بالله (إله إبراهيم طبعاً)، فهو قادر على أن يُصدر أمراً بإعدام شخص (يميته)، ثمّ يعفو عنه (يُحييه). (مع أنّ الفرق بين الإحيائين والإماتتين واضح)؛ لكن إبراهيم7 سايره في الحوار وجاراه. قال: ربّي يأتي بالشمس من المشرق، فأتِ بها من المغرب. فأُفحمَ الطاغيةُ المغرور وأُلقمَ حجراً!! هذا بالنسبة للكافر، وقد يتساءل المؤمن كيف يحيي الله الموتى؟ كما في قصّة الذي رأى مدينة مهدَّمة قد مات أهلها جميعاً، فتساءل: كيف يحيي الله أهل هذه المدينة بعد فنائهم؟ حيث أراد الله تعالى أن يُجيبه عن سؤاله إجابة عمليّة، فأماته مئة عام كما أمات حماره الذي كان يركبه، ثمّ بعث فيهما الحياة ليريه كيف أنّ طعامه وشرابه لم يتغيّرا على الرغم من مرور مئة سنة، وكيف أنّه سبحانه ركَّب عظام حماره ليستعيد حياته من جديد (وهذا برهان آخر على كيفية البعث والمعاد). إبراهيم7 نفسه طلب إلى الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى، لا شكّاً بقدرته -جلّ جلاله- بل ليطمئن قلبه لرؤية ذلك عياناً، فطلب إليه تعالى أن يُقطِّع لحوم أربعة من طيور مختلفة الأنواع ثمّ يخلطها بعضها مع بعض، ثمّ يضع أجزاءً من الخليط على أربعة جبال، ثمّ يناديهنّ باسم الله فيأتينه مسرعات، وهكذا تمّت التجربة الموتية والبعثية في مختبر حياتي أشرف عليه إبراهيم7 بنفسه، ليضاف ذلك أيضاً إلى عديد الأمثلة الدالة على قدرة الله عزّوجلّ على الإحياء بعد الموت.
(261-274) : (على مدى الثلاث والعشرين آية الآتية يتحدّث القرآن في نظرته المالية إلى: (الإنفاق) و(الرِّبا) و(الدَّيْن) وسنعرض لها على التوالي). فـ(الإنفاق) وهو البذل الماليّ في سبيل الله (أي خدمة المجتمع) قد صُمِّم ربّانياً لتأمين احتياجات المحتاجين ولذلك فهو ينمو ويتضاعف في البنك الإلهي، مثلما تتحوّل الحبّة إلى سبع سنابل في كلّ سنبلة مئة حبّة، أي تصبح المكافأة مجزية جداً، فبدلاً من الواحد بعشرة يصبح الواحد بـ(700) وإذا ضاعفنا، غدا الواحد بـ(1400)، وما زاد على ذلك من فضل فهو من سعة الله التي لا يضيق عليها عطاء ولا ينقص منها جزاء. هذا بالنسبة لمن يعطي من أمواله للسائل والمحروم والفقير والمسكين بلا إساءة إلى مشاعره وكرامته (من دون ذكر ذلك أمام الآخرين وبلا إشعار بالتفضُّل).
وقد يكون القول الحسن والكلمة الطيِّبة أفضل عند الله من الصدقة (التبرُّع الماليّ) مع جرح المشاعر والإساءة إلى الكرامة، ذلك أنّ مثل صدقة الذي يتصدّق (يُعطي) للتظاهر والتفاخر كمثل حجرٍ عليه تُراب ثمّ سقط عليه المطر فغسله وعرّاه، هل يبقى عليه شيء؟! وفي المقابل، فإنّ مثل صدقة الذي يُنفق من أمواله طلباً لرضا الله، كمثل بستان قائم على تلّة خصبة تساقط المطرُ عليها فأنتجت ضعف منتوج ثمارها، وإذا لم تُنبت هذا الكمّ المضاعف من الثمار، فإنّ الطلّ (الندى أو المطر الخفيف) كافٍ لزيادة ثمارها (وهذا في الحدّ الأدنى من المكافأة والمجازاة).
(قارن بين المثلين)؟! ثمّ إنّكم -أيّها المُخاطبون بخطاب القرآن- تصوَّروا لو أنّ أحدكم عنده بستان عامر بالثمار والغِلال وبلغ من العمر سنّاً متقدِّمة، وله أولاد صغار، ثمّ طاف على بستانه (ثروته الكلّيّة) إعصارٌ مدمر فأحرقه وأحاله رماداً، كيف يمكن أن يتلقّى الصدمة؟! هذا المُحطَّم اليائس الذي لم يجنِ من بستانهِ شيئاً والخارج منه صفر اليدين، كثير الشبه بالذي يُنفق (يبذل مالاً) ويؤذي المتصدَّق عليهم بقول أو بفعل.. إنّه مَثلٌ على التعب الذي يذهب سُدىً ولا يُجدي نفعاً. وإنّ من بين شروط العطاء المراد به رضا الله عزّوجلّ أن يكون من المواد الجيِّدة والأموال السليمة، لا أن يعطي الرديء والتالف والفاسد والكاسد (الذي لا يقبله المشتري)، فما لا يقبله الإنسان لنفسه كيف يرتضيه لغيره؟ وكيف ينتظر الجزاء الأحسن من الله في مقابل العطاء الرديء، ألا يعلم إنّ الصدقة تقع بيد الله تعالى قبل أن تقع بيد السائل؟! والإنفاق -على عكس المُتصوَّر- ليس خسارة ولا نقصاناً في المال، بل هو تنمية وزيادة. نعم، الشيطان يوسوس للمنفق أنّ أمواله ستنقص وسيفتقر إن أعطى شيئاً من ماله للفقراء، لكن الله تعالى يعد المعطي والباذل -طلباً لمرضاته- الغنى والمال والبركة، والأجر الأخروي الكبير.
تلك هي الحكمة (الفلسفةُ) في أنّ الإنفاق ربحٌ وليس خسارة، وأنّ ما يُقدِّمه الإنسان (اليوم وهو غنيّ) سيحصل عليه مضاعفاً (غداً وهو فقير) أي عندما يأتي في يوم الفقر والفاقة (يوم القيامة) ويجد أنّ بعض أمواله مدخرٌ في البنك الإلهي وقد نما بسبب تصاعد أرباحه وتضاعفها. وللتصدُّق بالمال طريقان أو طريقتان: (علنيّة) لتشجيع الآخرين وهي طيِّبة وجيِّدة ومحمودة، و(سرِّيّة) لا يعلمها إلّا الله، وتطيب معها نفسُ الفقير أو السائل (الطالب مالاً أو معونةً)، وهي أكثر خيرية وأحسن وقعاً. ورد في الأثر: «صدقةُ السرِّ تُطفئ غضب الربّ»[9].
إنّكم تخفون الصدقة (المعونة المالية أو العينية) لئلّا تتظاهروا أمام الناس، فيقابلكم الله تعالى بأن يُخفي سيِّئاتكم فلا يطالبكم بها. والناس في العطاء إثنان: كريمٌ وبخيل، والكريم لا يُعطي الله الغنيّ عن الناس إنما يُعطي الفقراء مما أعطاه الله فكأنّه يشكر عطاء الله بطريقة عمليّة، والمال المُعطى (اليوم في الدنيا) مُسترجَعٌ مع الزيادة (غداً في الآخرة)، إلّا أنّه يجب مراعاة الأولويات في العطاء والإنفاق، فالمستحقّون هم المحرومون، والمتفرِّغون لطلب العلم، والمجاهدون لرفع راية لا إله إلّا الله، ولتكون كلمته هي العليا وكلمة الكفر والباطل هي السفلى، لأنّ هؤلاء يبدون في نظر الناس أغنياء لتعفُّفهم وعدم سؤالهم أو طلبهم من الناس المساعدة أو المعونة. والتأكيد يتلو التأكيد في القرآن أنّ لا خسارة في الإنفاق السرّي الليلي أو العلني النهاري، وإنّ التعويض (مُعجَّلٌ) في مباركة المال ونمائه، و(مُؤجَّل) في ما ينتظر المنفق الباذل المتصدِّق من مكافآت مادّية ومعنوية مجزية.
(275-279) : في مقابل المُعطين الذين يرجون عطاءَ الله، هناك المتعاطون للرِّبا (الإقراض بفائدة)، حيث يبدو أحدهم كالمصروع أو المجنون الذي كلّما قام ضربه الشيطان على رأسه ليضرب به الأرض، وما ذاك إلّا لأنّ المرابين يُثقلون كواهل المقترضين فيقعدونهم مترنحين تحت وطأة القرض الربويّ، والجزاء من جنس العمل. والغريب أنّ المرابين يدّعون -من خلال التلاعب بالألفاظ والمصطلحات- أنّ (الرِّبا) شبيهٌ بـ(البيع) والله تعالى يُفرِّق بينهما في أنّ الثاني حلال لأنّ الثمن فيه بدل البضاعة، والأوّل حرام لأنّ الرِّبا زيادة بسبب التأخير في الدفع والسداد، فمن استجاب لنداء الله تعالى وكفّ عن التعاطي الربويّ فقد عُفي عنه وغفر الله له ما سلف وسبق من معاملات ربويّة.. وأمّا مَن عاد إلى تعاطيه المحرَّم -بعد النهي عنه-، فهو من أهل النار لأنّه أشعل النيران في البيوت الفقيرة بفوائده المجحفة الثقيلة. وقد تبدو الأموال الربوية -لأوّل وهلة- كثيرة، لكن الله تعالى يفقدها البركة فتُفنى في الحرام كما جاءت من الحرام، أو بما تُسبِّبه من عداوات بين (المرابين) وبين (المحتاجين) فيما يزيد في نماء الصدقات والتبرُّعات والحسنات المراد بها رضا الله تعالى. وها قد جاءكم الإنذار الأخير بوجوب ترك الرِّبا والامتناع عن تعاطيه، فمن داوم عليه مستهتراً ومستهيناً بإنذار الله، فهو معلنٌ للحرب على الله جلّ جلاله، وهي حرب خاسرة في كلّ المقاييس، علماً أنّ آكلَ الرِّبا يُؤدَّبُ مرّتين أو ثلاث فإذا عادَ قُتل.
(280-281) : وإذا علم الدائن أنّ ظروف المَدين وأوضاعه المالية صعبة فليُمهله حتى تنفرج أزمته، ولا يتعجّله بوفاء الدَين على وقته.. أمّا إذا سامحه وأسقط دينه عنه، فهو عند الله تعالى أفضل من الإمهال، إذ كما أنّ لله حقوقاً في ذمّة الإنسان ويسأله أن يتصدّق بها عليه (يسقطها ويمحوها عنه)، فمن المروءة أن يتحلّى بهذا الخُلق الربّاني مع أخيه المَدين فيسامحه ليسامحه الله. في الحديث: «ارحَم مَن في الأرض يرحمُك مَن في السماء»[10]!
(282-284) : ولأنّ الديون عادةً ما تُسبِّبُ مشاكل كبيرة وكثيرة بين الدائن والمَدين قد تصل إلى حدّ القتل والإيذاء أحياناً، أمر الله تعالى بكتابة الدَين (تدوينه وتوثيقه عند كاتب العدل والإشهاد عليه باثنين من الشهود والرجال أو رجل وامرأتين تحرُّزاً واحتياطاً للعدالة وعدم التفريط بحقّ الدائن ولئلّا ينكره المَدين عليه. فلابدّ للديون الصغيرة والكبيرة من أن تُسجَّل وتُؤجَّل بأجل (موعد لسدادها)، ولا ينبغي أبداً التردُّد في الإشهاد عليها، ما عدا أو باستثناء الديون السريعة في التجارات أو البيوع أو الصفقات الفورية التي لا تطول مدّتها فلا بأس من عدم توثيقها. وإذا كان المَدين لا يُحسن التصرُّف بالمال، أو كان صغيراً في السن، فليوكل وليّ أمره في إثبات الدَين والإشهاد عليه. أمّا إذا كان الدَين في سفرٍ ولم يكن هناك كاتب يُدوِّنه، فيمكن الاستعاضة عنه بـ(الرهن)، حيث يُقدِّمه المَدين شيئاً عينياً يُمكِّن الدائن من التصرُّف به في مقابل دينه في حال عجز عن استرداده).
(285) : الإيمان كُلٌّ لا يتجزّأ، والمسلمون مُطالبون بالإيمان برسالة نبيّهم محمّد6 وبالملائكة والرُّسُل والأنبياء من لدن آدم7 وحتى آخر الأنبياء، لأنّ الرُّسُل والرسالات يصدرون جميعاً عن منبع أو مصدر واحد وهو الله تبارك وتعالى. فكيف نُفرِّق بين ما وَحَّده الله؟ وكيف لا نطيع مَن أمر الله تعالى بطاعته؟ (إنّ أُمّة النبوّات واحدةٌ مُوحَّدة، وما الصراع بين الأديان إلّا صراعٌ عصبيٌّ بين أتباع هذه الأديان البريئة من النزاعات والصراعات المذهبية والطائفية).
(286) : حدّ التكليف الشرعيّ الوسع والطاقة والاستطاعة على أدائه وإنجازه والقيام به، فإذا عجز الإنسانُ عن ذلك -لسبب أو لآخر- سقط التكليف (وتلك قاعدة فقهية تترتّب عليها الكثير من الأحكام الثانوية). والله تعالى يحاسب الإنسان على حسناته وأعماله الصالحة بالأجر والثواب، ويعاقبه على سيِّئاته وأعماله الظالمة في الدنيا والآخرة (فلكلّ إنسان ما اختار وعليه تقع تبعة اختياره). لكننا -ونحن نخوض معترك الحياة- نتوجّه إلى الله تعالى في كلّ حين داعين ضارعين أن لا يؤاخذنا ولا يحاسبنا إن نسينا بعض ما تعلَّمناه، كما نسي أبونا آدم7 بعض ما علَّمه الله عزّوجلّ، وأن يغفر لنا ما نُخطئ في تطبيق بعضه، أو ما نعمل في الضدّ منه كما عفا عن كثير من سيِّئات وأخطاء بني إسرائيل، وأن لا يُحمِّلنا المشقة التي حَمَّلها الأُمم السابقة، وأن يرفع عنّا ما لا نستطيع تحمُّله من تكاليف باهضة حَمَّلها الأُمم الماضية، وأن يعفو عنّا إذا أذنبنا كما عفا عن الذين أساءوا من نماذج عرضت لها السورة، وأن يرحم ضعفنا كما رحم ضعفهم، وأن ينصرنا كما نصر عباده المؤمنين الصادقين من أمثال جنود طالوت الملتزمين بعهوده ومواثيقه، (آمين ربَّ العالمين).
[1]- سُمِّيت (الفاتحة) لافتتاح كتاب الله تعالى بها. وذُكِر لها إثنا عشر اسماً منها: أُمُّ الكتاب، والسبع المثاني: السبع لأنها سبع آيات بما فيها البسملة، والمثاني لأن معانيها تتكرر في القرآن بصيغ مختلفة.
[2]- سُمِّيت (البقرة) لورود قصّة بقرة بني إسرائيل فيها، ويمكن اعتبار البقرة جامعة لأهم أو أبرز عناوين وطروحات السور الأخرى، فتكاد تكون هي الأُمّ وهنّ بناتها.
[3]- أجزاء مقطَّعة، وهو تعبير أو صفة قرآنية للّذين يُشطِّرون الدين ويُجزِّأونه بطريقة انتقائية فجّة.
[4]- اليوم (سويسرا) تشبه (مكّة) (مع الفارق الجوهري بالطبع) من حيث كونها واحة سلام عالمية بسبب سياستها الحيادية غير المنحازة، ولذلك تستقطب أكثر الاجتماعات الدولية بين الدول المختلفة أو المتنازعة، لكي يتحقق التحالف والائتلاف تحت مظلتها.
[5]- رواه البخاري في صحيحه، وأخرجه الطبراني في الكبير والصغير.
[6]- من خطبته 6 في استقبال شهر رمضان.
[7]- أخرجه الطبراني في الأوسط، ج2، ص295.
[8]- وسائل الشيعة، 16/ 115، باب 1.
[9]- رواه الترمذي عن أنس.
[10]- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، مادّة (الرحمة).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق