• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفن كرؤية تأريخية لتطور الثقافات

د. محمود كامل السيد

الفن كرؤية تأريخية لتطور الثقافات
◄منذ بدء الخليقة والإنسان يصارع ويحاول التكيف والتلاؤم مع الطبيعة والبيئة المحيطة به ليجد نوعاً من التوازن بين متطلباته الجسدية والروحية، وبفطرة الإنسان وحسه لما هو جميل واستبعاده لكل قبيح، وحبه وعشقه للإبداع الفني وهو يحاول صياغة كل ما يقع تحت يديه في قالب فني غني بالقيم الجمالية. ويتعامل الإنسان مع خامات مختلفة يفهم من خلال ممارسته للأعمال الفنية طبيعية الخامة وإمكانياتها الفنية التشكيلية والتقنية.   المشغولات الخشبية كعامل فني: تحمل المشغولات الخشبية بين طياتها عناصر العمل الفني التشكيلي من إيقاع وتوازن وانسجام ومراعاة النسب والفراغ، بمعنى أننا حين نتعامل مع خامة الخشب كأي خامة فنية أخرى وتُراعى فيها بناء عناصر العمل الفني، كما تتميز أشغال الخشب بإتاحة القيام بأعمال ذات بعدين أو تشكيل مجسم بثلاثة أبعاد. ويؤكد هذا الرأي Earl W. Narlene M. Linderman بالنسبة للحرف أو الأشغال اليدوية، وأشغال الخشب جزء من الأشغال اليدوية: "... أنّ الحرف أو الأشغال اليدوية تحتوي على عناصر العمل الفني من توازن وإيقاع وانسجام ونسب". كما تؤيد هذا أيضاً Hayward, Helena بأنّ المشغولات الخشبية تعتبر مثل أي مجال من الفنون التشكيلية: المشغولات الخشبية ليست فقط ذات فائدة تطبيقية، بل تعتبر أساساً للحياة المدنية بل الأبعد من هذا تعتبر شكلاً من أشكال الفنون. ومن هذا يتضح لنا أن أشغال الخشب تعتبر ضرباً من ضروب الفن مثل التصوير الذي خامته الألوان والتشكيل المجسم وخاماته الطين والمشغولات الخشبية وخاماتها الخشب. المشغولات الخشبية... أشكالها... الأساليب الزخرفية.. التراث الشعبي: والمشغولات الخشبية تتعدد أشكالها وتتنوع فيها استخدامات مختلفة في توليفة فنية متكاملة تتضح فيها القيم الجمالية والوظيفية لتلك المشغولات. وبذلك يجد الدارس المتعة والسرور حين يتعامل مع خامات متعددة مما يجعله يبدع أعمالاً فنية مبتكرة. كما تتعدد الأساليب الزخرفية المستخدمة على تلك المشغولات الخشبية فنجد الحفر والتطعيم والتفريغ... إلخ. مما يضفي على الأعمال قيماً جمالية وإثراء بالقيم الفنية. وتستخدم في التصميم عناصر هندسية أو نباتية أو الاثنين معاً لإضافة المزيد من الجمال لتلك المشغولات.   التكنولوجيا والتقاليد الفنية: في الحقيقة هناك تغير كبير لتدخل التكنولوجيا في حياتنا المعاصرة في كل شيء يحيط بنا. وهذا يجعل الإنسان يفقد الكثير من قدراته الإبداعية، ولكن لابدّ أن نتجنب هذا بإعادة وتعليم أبنائنا وإدراكهم للثقافة والإحساس بالقيم الفنية والجمالية لما تحمله التقاليد الفنية التي تركها لنا الأجداد محملة بخبرات جمالية وتقنية. من الممكن أن تساعدنا في إيجاد حلول أثناء ممارستنا للأعمال الفنية، وكذلك التعرف على ماضينا الفني والجذور التاريخية المرتبطة بتلك المشغولات والأعمال الفنية المختلفة، التي تمثل الجانب الثقافي والحضاري لمجتمعنا العربي الإسلامي. والمجالات الفنية التطبيقية تؤكد على الجانب الإنساني والجمالي. بمعنى أنها تتضمن أحاسيس وتجارب وثقافة الأجداد وكذلك ما تتضمنه من قيم جمالية كما تنبع رموزها الفنية من حياة الأجداد السابقة حيث لها دلالتها ومعناها.   أهمية تدريس إشغال الخشب: تعرضنا بأنّ المشغولات الخشبية كعمل فني وبأنها تتميز بتنوع تصميماتها وأشكالها، والأساليب الزخرفية المتنوعة، كما أوضحنا أنّ التقاليد الفنية التي تمثل ما تركه الأجداد تعتبر مصدراً هاماً كما يبدو لجميع مجالات الفنون التشكيلية. نطرح سؤالاً هل هناك أهمية لتدريس أشغال الخشب بالنسبة للمتعلم؟ وهل تستطيع أن تساعد بجزء في بناء وتكوين شخصيته؟ فالمقصود بتعليم أشغال الخشب أن ينال المتعلم ثقافة شاملة وذلك من خلال تعامله مع خامة الخشب وسُبل تشكيلها من قطع وتجميع وتسويق. كما يجب أن يكون على معرفة بأسس التصميم الجيِّد ودراسة أنواع الدهانات والطلاءات التي تستخدم في أشغال الخشب. كما أن أشغال الخشب لها طابعها الفني المرتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة أي مجتمع من المجتمعات، حيث بدأ استخدام الإنسان للأخشاب منذ وجوده على سطح الأرض، وندرك هذا من خلال الحضارات الإنسانية القديمة مثل الحضارة المصرية القديمة والحضارة الإسلامية حتى يومنا هذا مازالت المشغولات الخشبية داخل كل بيت وتتمثل في الأثاث والأبواب والنوافذ... إلخ. ويؤكد هذا الرأي Linderman بالنسبة للحرف أو الأشغال اليدوية متضمنة أشغال الخشب فيقول: "إنّ الحرف أو الأشغال اليدوية تعطي فرصة كبيرة للتلاميذ للتعرف على المظاهر الثقافية بعمق، كما تعتبر حلقة اتصال بتراث ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، كما نتعرف من خلال التراث الفني والتقاليد الفنية لمنتجاتهم اليدوية على ثقافة أي مجتمع من المجتمعات. ويرى الباحث أنّه من الأهمية دراسة التراث والتقاليد الفنية ليس فقط مجرد ظاهرة، ولكن برؤية جديدة وصياغة لأعمال فنية مبتكرة يكون لها دورها في حياتنا المعاصرة ويكون أساسها التحلي بروح التراث الذي تركه لنا الأجداد.. ويؤكد الباحث أنّ الأعمال الفنية ليست تقليداً أو تسجيلاً للتراث فليس هذا ما يهدف إليه الفن.   الفن كرؤية تاريخية لتطور الثقافات والحضارات: وإلى ما وصل إليه الباحث من أهمية دراسة التراث والتقاليد الفنية وصياغته بأعمال فنية مبتكرة يبدو فيها روح التراث وليس التراث ذاته. ونريد أن نؤكد أنّ الفن رؤية تاريخية لتطور الثقافات والحضارات على مرّ العصور، كما يعتبر لغة اتصال وتسجيلاً برؤية إبداعية تاريخياً لما يحويه الماضي من خبرات فنية. وتقول McFee أن دور الفن الرئيسي الحفاظ والابقاء على الثقافات لأي مجتمع من المجتمعات. ويتضمن الفن التصميم والرموز الفنية حيث تطبق خارج المنازل وداخلها، والأثاث والمشغولات الخشبية.. إلخ. وبهذا يتضح أننا لا يمكن أن ننفصل عن الماضي بتقاليده الفنية التي تثري الأعمال بالفنية بالنسبة للفنان والمتعلم بما تضمنه من معان ويؤكد هذا الراي محمود البسيوني حيث يقول: "... والحقيقة أن اهمال الماضي يجعل مستوى الإبداع سطحياً ولا يحمل تجربة عميقة تتصل ببني البشر..." ويستطرد "إنّ الإنسان لا يتأثر بالمهارات المتضمنة في العمل الفني فحسب، وإنما بالمعاني والقيم التعبيرية والتوافقات والإيقاعات التي ما تزال تشع من تلك الأعمال حتى هذه اللحظة". ويقصد هنا الماضي يتمثل في التراث الفني ذلك الانتاج الهائل التي يتمثل في المجالات المختلفة للفنون التشكيلية. فلقد ترك لنا الأجداد عبر العصور والحضارات المختلفة التي مرت على الإنسانية منذ بدء الإنسان يرسم ويعبر داخل كهفه حتى يومنا هذا تراث فني عريق. وهي تمثل جوانب إنسانية وخبرات فنية كما تعبر عن ثقافة المجتمع. والخلاصة أن عملية الإبداع الفني هو كشف صيغة جديدة لم يكن لها وجود من قبل أو إعادة صياغة شكل قديم بأسلوب جديد، كما يبدو لي أنّ الإبداع الفني هضم وتكيف الماضي ثمّ توظيفه في حياتنا المعاصرة وما يتفق مع التغيرات التي تحدث في عصرنا هذا.   الحرف التقليدية الشعبية.. وإدارة الثقافة والفنون: بعد أن أوضحنا بأنّ الفن يعتبر رؤية تاريخية لتطور الثقافات والحضارات.. وكيف أنّ الفنون التشكيلية في الماضي تمثل تراثاً ثقافياً وفنياً وتمثل الإنسان ككائن حي مميز عن غيره من الكائنات الأخرى. نجد أن كل دول العالم تهتم بفنونها التشكيلية والحرف التقليدية وذلك بالحفاظ عليها لأنّها تمثل الجانب الحضاري لأي بلد في العالم.   دور التربية الفنية في الحفاظ على التراث: ونتيجة لما سبق ذكره من اهتمام الدولة بالحرف التقليدية الشعبية، وكما أنّ التربية الفنية تهدف إلى ربط المتعلم بتراثه الفني حتى تصبح التربية الفنية حلقة اتصال بين الدارس وماضيه الذي يتمثل في إنتاج الأجداد. حيث أن هناك تغيرات كثيرة في المجتمع نتيجة للتطور السريع وطغيان الميكنة والتطور التكنولوجي لهذا يتضح أهمية ودور التربية الفنية. ونتيجة لتغلب الذوق الأوربي في جميع المنازل في البلاد العربية. وبالتالي توارت المشغولات الخشبية وأخذت في الإندثار. ويبدو للباحث أنّه من الأهمية أن يكون هناك مشغولات خشبية مستوحاة من التراث الفني الشعبي تتناسب والحياة المعاصرة. وتكون لها مكانة في المنزل العربي. وبهذا لا نتخلى عن تراثنا الفني القديم، ولا نفقد أصالتنا ونقدمه في ثوب وصياغة جديدة حتى تكون تلك المشغولات الخشبية حلقة اتصال بيننا وبين أجدادنا وماضينا العريق.   الفن والمجتمع: بعد أن عرضنا لنقاط عديدة توضح أهمية الفن للمتعلم.. ودور التربية الفنية في الحفاظ على التراث.. واتضح لنا أنّ الفن على مرّ العصور يمثل رؤية ثقافية.. وإثراءً فنياً.. وحلولاً فنية لبعض المشكلات الفنية في معالجة أشغال الخشب يتضح فيه الأصالة الفنية للتراث. ويؤكد عفيف بهنسي هذه النقطة "تحقيق عمل فني ينتمي إلى شخصية تراثية متميزة بأسسها الجمالية". نجد أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الفن والمجتمع، لأنّ الفن وجد في الإنسان بالفطرة أوجدها الله تعالى عنده، وذلك لحبه للجمال واستبعاده للقبح. والفن ليس لوحة في معرض بل يتغلغل في كل شيء في حياة الإنسان ويمثل الجانب الحضاري لأي تجمع. ويؤكد هذا هربرت ريد على أهمية الفن وأنّه وظيفة هامة من وظائف الحياة: "إننا نحتاج إلى الاعتراف بالفن اعترافاً شاملاً على أنّه وظيفة من وظائف الحياة، وإلى تخطيط طرق حياتنا تخطيطاً بناء يقوم على الفهم الكامل لهذه الوظيفة. فالفنان ضروري في كل مجال عملي، لكي يشكل المادة... يصمم أشكال الحجرات وإضاءتها ولونها وعليه كذلك أن يصمم الأثاث الخاص بهذه الحجرات حتى أصغر جزئياتها".►   * أستاذ التربية الفنية المساعد المعار لجامعة قطر

ارسال التعليق

Top