• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن وظواهر النفس

الشيخ محمّد تقي رهبر – الشيخ محمّد حسن رحيميان

القرآن وظواهر النفس

 

يتحدّث القرآن بشكل واسع وشامل حول الإنسان، ويبين في آيات كثيرة وتحت عناوين (الإنسان، النفس، الروح، القلب والعقل..) خصائص الحياة الجسمية والروحية، والمادية والمعنوية، والعقلية والعاطفية لهذا الموجود العجيب الخلقة. وتحليل هذه المباحث وتجزئتها يبين مطالب أساسية وقيمة حول معرفة الإنسان ويكشف الستار عن أسرار معقدة لوجود الإنسان، وخلاصة القول هنا في مقام البحث عن النفس ومراتبها ودرجاتها وما يظهر منها أنّ (الإنسان موجود جسماني وروحاني) وبمقتضى كلّ من هذين البعدين له شكل حياة (مادي ومعنوي).

والإنسان في الحياة المادية مثل كّل ذوات الأرواح، ويسمي القرآن هذا النوع بالحياة الدنيا، والسطحيون وأهل الظاهر والغافلون يعلمون بهذا النوع ويتفكّرون فيه، يقول القرآن الكريم: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم/ 7)، ولكن إدراك الحياة الروحانية هو الأفضل، فهي التي يسميها القرآن بالحياة الطيبة، وهي الهدف الأخير غير القابل للوصول لكلّ أحد، ويحصلها فقط المؤمنون الذين يعملون الصالحات والذين يعرفون الطريق إلى عالم الإنسانية (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل/ 97)، وعندما يقارن القرآن بين هاتين الحياتين يسمي الأولى لعب ولهو، وأنّها تنصرم وتمضي بسرعة، وهي مقدمة، ويعتبر الأخرى حياة واقعية وباقية، وهي هدف نهائي (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64).

مع الالتفات إلى هذين النوعين من الحياة، فإنّ للإنسان وجهين نفسانيين: الأوّل هو النفس في المرتبة النازلة (الدنية)، يعني نفسه الطبيعية التي هي منشأة الغرائز الحيوانية و(الشهوة والغضب) وعامل جلب اللذة ودفع المضرة، ومع أنّ وجودها ضرورية لتأمين الحياة المادية، ومع أنّ تربيتها الإسلامية تهديها وتتحكم بها، ولكنها كلما خرجت عن المسير الصحيح فإنّها سوف تدفع الإنسان إلى الكفر والظلم، والجهل، والطغيان، والجشع، والحسد، والبخل، والخداع، والتكاثر وسائر الخصال الذميمة، وقد أشار القرآن في آيات كثيرة إلى هذا، ويقول القرآن عن هذه الحالة (النفس الأمّارة): (إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف/53)، وأحياناً يصفها بأنّه (مسولة): (كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (طه/ 96).

والوجه الآخر للنفس هو تلك الألطاف الربانية والبارقة الإلهية التي يمكن التعبير عنها بالنفس العالية، والتي هي منشأة الكمالات العقلية والعلمية والعملية والميول مثل: معرفة الله والجنوح نحو القضايا المتعالية، والعرفان، والأخلاق، والعدل، والإحسان والإيثار وسائر الفضائل، وهذا فصل مميّز للإنسان عن سائر ذوات الأرواح، يقول القرآن في بعض الموارد عن خصائص هذا الوجه للنفس بأنّه يمكن معرفة عناوينها الكلية بلحاظ الحالات المختلفة للنفس في كلمات مثل (ملهمة، مطمئنة، لوامة) (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 7-8).

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر/ 28)، (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة/ 1-2).

الآية الأولى تتحدّث عن تعلق النفس بالله في بُعد (تقبل الإلهام) والمعرفة الفطرية وتشخيص الخير والشر، وهي تهيئ المجال لتحصيل الفضيلة والتقوى، والآية الثانية تكرر القول عن طمأنينة النفس والتسليم والرضا التي تساعد في النتيجة على القرب من الله، وحركة الإنسان بشوق إلى الحقّ، وتعبير (ارجعي إلى ربّك) هنا قابل للتأمل؛ لأنّها اعتبرت أنّ النفي تنتسب إلى الله، وهذا كمالها النهائي، ويمكن اعتبار هذه الآية ناظرة إلى البعد القلبي، والآية الثالثة تتحدث عن تحكيم الضمير بعنوان (اللوامة) التي توبخ الإنسان حين ارتكاب المعصية، والبعض اعتبرها مظهر الوجدان الأخلاقي، واعتبرها علماء النفس (أنا الأولى والأعلى).

اعتبر الفيض الكاشاني أنّ هذه المفاهيم الثلاثة (الملهمة، اللوامة، المطمئنة) هي مظاهر (النفس الربانية).

وعلى كلّ حال فإنّ ما قيل حول الإنسان ناظر إلى بُعد واحدٍ أو عدة أبعاد من وجوده، ويجب البحث عن هذا الوجود الرمزي المعقد للإنسان، وسر التربية والأخلاق إنما هو في هذه الميول المختلفة التي تضعه دائماً على مفترق طريقين.

الإنسان في مسيرين متضادين. وبناء على ما لوحظ، ولو بشكل مختصر، عن الإنسان وميوله المختلفة المتضادة والطريقين اللذين أمامه، أصبح من الضروري أكثر إلزامية تربيته الأخلاقية؛ فالفطرة والميول الأخلاقية والعقل والدين من جهة يدعون إلى السعادة، والشهوة والغضب والجهل والمكر يدفعون من جهة أخرى إلى الشقاء، وهذا المعترك موجود منذ اليوم الأوّل، وفلسفة الاختيار والتكليف كامنة في هذين الطريقين، طريقي الإيمان والكفر، والشكر والكفران، وأخيراً السعادة والشقاء.

يقول القرآن عن استعداد الإنسان المزدوج (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 2-3)، يعني يجب على الإنسان تمييز طريق السعادة وطريق الشقاء، من خلال هداية العقل والشرع، وعندها يختار واحداً منهما بإرادة وحرية.

يقول الإمام عليّ (ع): "دواؤك فيك ولا تشعر وداؤك منك ولا تبصر".

واعلم أنّ الإنسان كائن عجيب، له نشأتان وعالمان: نشأة ظاهرية ملكية دنيوية هي بدنه، ونشأة باطنية غيبية ملكوتية من عالم آخر. إنّ للنفس الإنسانية التي هي من عالم الغيب والملكوت مقامات ودرجات، قسموها بصورة عامة إلى سبعة أقسام حيناً وإلى أربعة أقسام حيناً ثانياً، وإلى ثلاثة أقسام حيناً ثالثاً وإلى قسمين حيناً رابعاً، ولكلّ من المقامات والدرجات جنود رحمانية وعقلانية تجذب النفس نحو الملكوت الأعلى وتدعوها إلى السعادة، وجنود شيطانية وجهلانية تجذب النفس نحو الملكوت السفلي وتدعوها إلى الشقاء، وهناك دائماً جدال ونزاع بين هذين المعسكرين، والإنسان هو ساحة حربهما، فإذا تغلبت جنود الرحمان كان الإنسان من أهل السعادة والرحمة وانخرط في ساحة الملائكة وحشر في زمرة الأنبياء والأولياء والصالحين، وأما إذا تغلب جند الشيطان ومعسكر الجهل، كان الإنسان من أهل الشقاء والغضب (مغضوب لله سبحانه) وحشر في زمرة الشياطين والكفار والمحرومين.

قوس الصعود والنزول: لقد عبر بعض الفلاسفة وأهل المعرفة عن كيفية سير وحركة الإنسان بقوس الصعود والنزول، فإذا كان سير وحركة الإنسان يبدأ من الله وينتهي إلى الله وتبينه آية (إنّا لله وإنا إليه راجعون) فإننا بذلك نشبهه بالدائرة، أحد نصفيها (قوس الصعود) والآخر (قوس النزول)، والنزول هو الهبوط إلى العالم الترابي، والصعود هو الارتفاع إلى النقطة التي بدأت منها الحركة.

وفي الدنيا التي هي محل هبوط ونزول الإنسان، تختلط الماديات والمعنويات، البحث عن الله والميل إلى الشيطان، العقل والدين، والشهوة والغضب، ومجال امتحان الإنسان ونضاله إنما هو في هذه المرحلة حتى ينتهي الصراع بنصر إحدى هاتين القوتين المخفيتين في الجسد والروح، والسبيل إلى زاد الإنسان في هذا السير الصعودي مأخوذ من هذا المنزل، والانتصار في هذه المعركة يحتاج إلى مجاهدة وسعي ومتابعة ومثابرة. فإنّه يوجد جاذبتان، واحدة مادية والأخرى معنوية تشد الإنسان إلى طرفها، وإذا لم يسحب الإنسان نفسه من الجاذبة المادية ويوصل نفسه إلى عالم الروح فإنّه لن يستطيع أن يطوي طريق المعنويات والصراط المستقيم الإلهي.

 

المصدر: كتاب التربية والأخلاق في الإسلام

ارسال التعليق

Top