• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القصّة.. كأسلوب تربوي

أسرة

القصّة.. كأسلوب تربوي
(العِبرةُ) في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ) (يوسف/ 111)، لا تعني الدرس والموعظة فقط، بل هي (عبورٌ) من بطل القصّة إلى قارئها أو المُستمع إليها، فهي تعبر مساحة الزمن الذين وُلدت فيه إلى زمنٍ آخر يُولدُ في نفس المُتعاطِف معها، أو المُخزِّن لها، ليكون هو بطلها في وقتٍ يحتاج فيه إلى موقف كموقف صاحب القصّة التي قرأها أو استمع إليها، فهزّته هزّة وجدانيّة تشرّبت لها مساحاتُ وجدانية كلّها، فادّخرها في وعيه ليستحضرها عندما تستدعي الحاجةُ، أو الموقفُ المُماثل استحضارها واستدعائها أو استبطانها – بحسب اللّغة النفسية – وليس مجرد استذكارها كحدثٍ مُسلٍّ. ماذا يعني أن (تعبُرَ) القصّةُ جسرَ الزمن لتصلَ إليك؟ يعني أنّ القصّة لا تقتصر على بطلٍ واحد.. قد يكون بطلها الأساس الذي سبق الآخرين بموقفه هو أوّلُ بطلٍ لها، ولكنّه لن يستطيع الإدِّعاء والزعم أنّه بطلها الوحيد أو الأوحد، فطالما أنّ هناك مَن يستدعي الموقف ذاته ليكون بطله من جديد، فهذا يخلع على القصّة دفقاً ودفعاً ونفحةً، بل ونفخة روحية جديدة تجعلها حيّة، مُتجدِّدة، ولّادة على الدّوام، لا يُستنفدُ غرضُها، ما دام هناك مَن يُجسِّد شخصية البطل من جديد، لا على نحو (التمثيل) بل على نحو (التمثّل). نعم، نحن نحتفظ للبطل الأوّل أو الذي فجّر ينبوع الموقف، بحقِّه في الريادة، وأنّه هو الذي أتاح لنا أن ننسج على منواله الصّالح، معترفين بالفضل المشهود المشكور أنّه أوّل مَن شقّ الطريق ومهّدها، فأصبحت سالكة لمن يسير عليها بعده، وأنّ طابور الأبطال من بعده هم خرِّيجو مدرسته.

تلك هي – بإيجاز – مهمّة القصّة التربوية، وذلك هو بالدقّة سرها الأعظم، ولذلك فنحنُ لا نعترف بأنّ ثمّة حدوداً للقصص الهادفة، فهي مفتوحة ومشرعة بانفتاح إنسانيّة الإنسان على المُشترك الأخلاقي والتربوي والتغييري، مثلما أننا لا نجد هناك فواصل كبيرةً وحادّةً تفصلُ بين قصّة إنسانية هادفة لطفلٍ أو فتى أو شابّ أو شيخ أو رجل أو إمرأة.

فالقصّة – في فهمنا لمرماها – ليس لها (عمرٌ) ولا (جنسٌ) ولا (قوميّة)، فهي لكلِّ الأعمار، صغيراً كان بطلُها أم كبيراً، وهي لكلا الجنسين سواء كان رمزها رجلاً أو امرأة، وهي قصّة (معولَمة) أنّى كان منبتها الأصلي صينيّاً أوهنديّاً أو فارسيّاً أو فرنسيّاً أو إيطاليّاً أو روسيّاً، إسلاميّاً أو مسيحيّاً أو من أيّة ديانةٍ أخرى. إنّ القصة التربوية، مائدة مفتوحة للجميع، ووجبة صحِّية مُتاحةٌ لكل مَن يريد أن يتغذّى منها، اللّهمّ إلا خصوصيات معيّنة تتعلّق بسباكة أو صياغة القصّة التي تجعل منها صالحة لهذا الصِّنف من الناس أو ذاك، لا فحواها ومغزاها ورسالتها، فقصص الحيوان في (كليلة ودمنة) على سبيل المثال، لا يمكن اعتبارها قصصاً للأطفال فقط، بل هي قصص للأجيال، كلٌّ يأخذ منها على قدر وعيه واستيعابه لمعانيها. ولذلك، فليس صحيحاً القولُ إنّ للأطفال شغفاً كبيراً بالقصص والحكايات والأمثال، كونها تؤثِّر في نفوسهم وتصوّراتهم، فتُسلِّيهم وتُهذِّبهم وتُعوِّدهم على التحلي بالقِيَم الأخلاقية وتغرس في نفوسهم المثل والفضائل، فالقرآن الكريم يُفنِّد هذه المقولة عمليّاً، فهو يسوق قصصه للعقلاء من ذوي الألباب والأبصار وأتباع الرُّشد، رجالاً كانوا أم نساءٌ أم شبّاناً أم فتياناً، ولكلّ الناس وليس للمخاطبين به من المسلمين فقط. فضربُ المثل بامرأة لوط وامرأة نوح لم يكن مُقتصراً على النِّساء، بل جاء الخطاب الرباني هكذا: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا) (التحريم/ 11)، رجالاً ونساءً، فالخيانةُ ليست نسويّة أو أنثويّة بحيث يُعفى الرجل منها.. واستلهاماً من ذلك، فإنّ القصّة وسيلة تربوية فُضلى ليس لتربية النّشئ فقط، بل لكلِّ الأعمار والأجناس والقوميّات، وليس اعتباطاً أن تشغل القصّة الربع الرابع من القرآن الكريم إلى جانب العقيدة والشريعة والأخلاق، فإذا ما أضفنا أو ألحقنا الأخلاق بالقصص للقرابة القريبة بينهما، فإنّ نصف القرآن تربويّ صريح، ونصفهُ الآخر تتجلّى التربية في مفاهيمه وأحكامه، أي أنّه في المحصِّلة كتاب هداية، وتربية، وإصلاح، وتعليم وتزكية.

من هنا، انطلقت فكرة هذا الكتاب الذي لا يُمثِّل مجرّد جمع أو تجميع لقصص متداولة نُشرت أو ذُكرت هنا وهناك، بقدر ما يُمثِّل خلطة ثقافيّة، تربويّة، إن من خلال القصّة ذاتها، وما يمكن أن تعكسه من معانٍ ومردودات على مرايا الأذهان والعقول والنفوس المستقبِلة، أو فيما استخلصنا من الأهم من دروسها، ولا ندّعي أنّنا استنبطنا دروسها كلّها.

فهذا الكتاب موزّع أو مصنّف على شكل وحدات، تنسجم أو تنتظم كل وحدةٍ واحدة منها مجموعةٌ من القصص سرداً واستخلاصاً. ففي الشّقِّ الأوّل، حاولنا أن لا نحتفظ أو نحافظ على صيانة القصّة كما هي في مواردها التي استقيناها منها، بل قمنا بإعادة صياغتها بما نراهُ أقرب لذائقة القارئ، وأنسب للغة المتلقِّي، مع عدم التلاعب بالأصل أو المضمون التربوي، وقد نُبقي على الأصل إذا كان قريباً للغة العصر. وفي الشقِّ الثاني، لم نستقرئ أو نستعرض كلّ دروس القصّة، فنحنُ على يقينٍ أنّ هناك دروساً أخرى غير التي ألمحنا إليها أو استللناها، يمكن أن تنقدح أو تطرأ على ذهن القارئ، وهذه واحدة من إثراءات القصّة التربوية، أي أنّ لها انعكاسات وظلالاً وزوايا كثيرة، يمكن أن يتصيّدها القارئ الذي لا (نصفه) باللّبيب لئلا (نصنِّفه)، فالقصّة – عادةً – حاكيةٌ عن نفسها وليس لغزاً أو معمّيات تحتاج إلى إعمال ذهن.   تنويه: زوار موقع البلاغ الكرام نظراً لأهمية هذا الكتاب التربوي الصادر حديثاً عن مؤسسة البلاغ سوف يتم عرضه على شكل أجزاء في باب (مختارات قصصية) نتمنى أن ينال إعجابكم.

ارسال التعليق

Top