• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القمم الروحية في حياة الزهراء (عليها السلام)

عمار كاظم

القمم الروحية في حياة الزهراء (عليها السلام)

انطلقت الكلمة: «فاطمة بضعة مني»، وعندما تكون الكلمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّها تكون ينبوعاً يتدفّق بكلِّ الصفاء والنقاء وبكلِّ المعنى العميق… «بضعة مني»، بضعة من عقله لأنّها عاشت مع عقله، فكانت منذ طفولتها الأولى تنهل من عقله، لأنّ طفولتها لم تكن طفولةً ساذجةً بسيطة، بل كانت طفولة تنفتح على كلّ الذكاء في كلّ عمقه، فكانت، وهي الطفلة، تعيش أباها الرسالة، وتعيش كلّ آلامه التي لم تكن آلاماً شخصيةً، بل كانت آلام الرسالة، آلام الإنسان، وآلام الوعي الذي كان ضحية كلّ تلك الجاهلية.

فقد كانت (عليها السلام) تعيش الإحساس بكلِّ ذلك، وكانت تريد أن تكون أُمّه روحاً وعاطفةً وحناناً، فكانت ـ وهي الطفلة ـ تبكي عندما يتألم، وعندما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي من المسجد وقد وضع القوم الأوساخ على ظهره، كانت تستقبله بدموعها، وكان يرتاح لتلك الدموع، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها «إنّها أمّ أبيها». فأي أب هو هذا الذي كانت الزهراء أُمّه؟! وأيّة أُمومة كان يحسّ بها هذا الأب العظيم الذي كان يدرج في خطّ كهولته ليشعر بالطمأنينة الروحية؟!

وهكذا، كانت (عليها السلام) تتعلَّم من أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد التقت طفولتها الأولى بطفولة الإمام عليّ (عليه السلام)، لأنّهما كانا في بيت واحد، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا عليٍّ تربيةً وروحاً، كما كان أباها بالمعنى المادي للأبوة وبالمعنى الروحي، ودرجا معاً وتعلّما معاً، وقد سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «لولا عليّ لما كان لفاطمة كفؤ». هل هي كفاءة النسب، وأبناء العم كثيرون؟ لا، بل هي كفاءة العقل والروح والخلق والوعي والانفتاح.

عاشت الزهراء (عليها السلام) إنسانيتها في أبهى تجلياتها، وعندما كانت تعبد الله تعالى في محرابها، كانت تفكر في الناس الآخرين قبل أن تفكر في نفسها. نحن عندما نريد أن نبلغ القمّة في القيمة الروحية، فإنّ ما نقوم به لنبلغ هذا المستوى، هو أنّنا نسعى إلى التعامل مع الناس كأنفُسنا: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها». أمّا الزهراء (عليها السلام) فقد كانت تقدّم الناس على نفسها، فكانت تحبّ كلّ الناس، وتفكر فيهم، وتحمل همومهم، وتدعو لهم في كلِّ مشاكلهم قبل أن تدعو لنفسها. ينقل عنها ولدها الإمام الحسن (عليه السلام)، أنّها كانت تقوم الليل في محرابها حتى تتورّم قدماها، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، وشعر وَلدها، وكان في طفولته الأولى، أنّها بحاجة إلى أن تدعو لنفسها أكثر، لأنّها كانت ناحلة الجسم، فقال لها: «يا أماه، لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟» قالت (عليها السلام): «يا بُني، الجار ثمّ الدار».

إنّ هذا يعلِّمنا أنّ علينا أن نفكر في الآخرين، أن نعمل على رفع مستواهم، وأن نحلّ كلّ مشاكلهم ونضمِّد جراحهم ونعيش كلّ آلامهم ونسعد بسعادتهم، ويعلِّمنا أيضاً أنّه عندما نكون بين يدي الله، فإنّ علينا أن نفكر في الناس كلّهم ثمّ نفكر في أنفُسنا. ذلك هو سرّ أهل البيت (عليهم السلام): (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب/ 33)، كلّ رجس المادة، ورجس الذات والمطامع، كلّ الرجس الذي يحبس الإنسان في زنزانة ذاته ويمنعه من أن يعيش إنسانيته برحابتها. ذلك هو سرّ أهل البيت (عليهم السلام) الذين يعلِّمون الإنسان أن يشعر بأنّه مع الإنسان الآخر وليس فوقه، وتلك هي الطهارة، طهارة الفكر عندما ينفتح على الحقِّ، وطهارة القلب عندما ينفتح على الحبّ للإنسان كلّه، وطهارة الطاقة عندما تتحرّك من أجل أن ترفع مستوى الإنسان.

ارسال التعليق

Top