• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الكرامة الإنسانية ومفهوم التسخير

الشيخ عبدالله جوادي

الكرامة الإنسانية ومفهوم التسخير

◄حينما نتحدث عن الإنسان والنطاق الديني نقصد أن يكون الإنسان عارفاً بدينه من جانب، ومؤمناً وملتزماً به من جانب آخر، وأن يحمل في نفس الوقت معرفة دينية واتجاهاً ومنحىً وأسلوباً دينياً.

وهذا المثلث المبارك هو من معالم الحركة استلهمت من القرآن الكريم. فالقرآن يطرح أصالة الإنسان ضلعاً رئيساً في هذا المثلث: أي العالم والإنسان والصلة بينهما. فالإنسان لم يخلق من أجل العالم، بل العكس هو الصحيح، والعلاقة بين الإنسان والعالم، لا يحدّدها العالم بل الإنسان. وهذا ما يعبر عنه القرآن بالتسخير، إذ يقول أنّ السماوات والأرض وما فيهما خلقها الله وسخرها جميعاً للإنسان. فكل شيء مسخر لله، لكن للإنسان أن يجلس إلى مائدة التسخير هذه أميناً على خزائن البحر في أعماقه وعلى كائنات السماء اللامتناهية ومحافظاً على البيئة في هذا النطاق الواسع، ليقدم الخدمات ويتمتع بها كثيراً. فالإنسان عمود هذا المثلث، وهو الذي يقرّر علاقته بالعالم وسبل انتفاعه به.

وحينما نقرأ في القرآن الكريم أنّ الله خلق الإنسان كريماً، فإنّ هذا يعبر عن منتصف الطريق، وليس عن أوّله ولا آخره. فالكثير من الآيات القرآنية تدعونا لصيانة حرمة الإنسان، ووفقاً لهذه الآيات المباركة، ينبغي العمل بلا هوادة في خدمته، لأنّه مكرم عند الله. ولنا أن نسأل: أين هي نهاية الطريق؟ ولماذا كرم الله الإنسان؟

فالكون مسخر للإنسان، وذلك يدل على كرامته. والجواب عن السؤال الأخير مهم جدّاً، فقوله – تبارك وتعالى –: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70)، يحملنا على التفكر والتبصر في هذه القضية البالغة الأهمية.

ويتجلى هذا الجواب في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30)، والتاء في "خليفة" للمبالغة وليست للتأنيث، فالإنسان ليس خليفاً، بل إنّه خليفة. أي: أن خلافته لها من السموّ والشرف ما يجعل الذات الإلهية المقدّسة تعبر عنها بصيغة المبلغة في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً).

فهل هذه هي المحطة الأخيرة ونهاية المطاف؟

نقول: لا، فالعالم إنما سخّره الله للإنسان لكرامته، والكرامة منحها الله للإنسان ليكون خليفته في الأرض.

وهنا يبقي السؤال هو: ما الخلافة؟

 

ما الخلافة؟

إنّ الإنسان يصلح أن يكون خليفة عندما يدرك ما يقوله المستخلف عنه أوّلاً، ثمّ يؤمن به ثانياً، ثمّ يطبق ذلك ثالثاً.

فإن جلس الإنسان في موضع الخلافة وارتزق من قوت خلافته، ثمّ تكلّم وتصرف كما يريد، كان (كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (الأعراف/ 179).

فإذا جلس ابن آدم إلى مائدة الخلافة، وأكل من طعامها، واستغل عنوانها وحمل على جبهته ختمها، وفي الوقت ذاته تصرف كالسباع والوحوش سيكون من شياطين الإنس والجن.

وإذا أراد الإنسان أن يكون خليفة، فعليه ألا يتفوه إلا بما يقوله المستخلف عنه ولا يذكر إلا اسمه ولا يستمع إلا إلي، ولا يفعل إلا ما فرضه عليه.

فالإنسان كريم للخلافة وخلافته تعني ألا يعيش كالغاصبين، وإذا كان الهوى همه – وليس ما يريده الله – فإنّه لن يكون خليفة الله في الأرض، وإن لم يكن خليفة الله فلن يشمله عنوان "كرّمنا"، بل سيكون ممن قال تعالى فيهم: "بل هم أضل"، أيّاً وأينما كان.

إنّ الكثير من الناس يتعلمون العلم ليكونوا به قادة، لكنهم يفرّطون بحياتهم في هذا السبيل. والسرّ يكمن في أنهم يطرحون ما تشتهيه أنفسهم، وليس ما يريده المستخلف عنه، فيتنزلون عن مكانة الخلافة ويخرجون من دائرة الكرامة الإنسانية ويدخلون في عداد شياطين الإنس وأمثالهم.

ويعبر القرآن عن هذا المفهوم بالآية الكريمة: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) (الأعراف/ 13).

 

الجمع بين العقل والنقل:

إذن، كرامة الإنسان تتحقق بخلافته، فكيف يصبح الإنسان خليفة؟ وهذا هو السؤال الأهم. إنّه يبلغ هذه الغاية السامية إذا قد جمع بين العلوم والمعارف فكثير من العلماء جمعوا بين المعقول والمنقول، بل بين المعقول والمنقول والمشهود، ومنهم من درّس العرفان والفقه، وألف في الفلسفة، لكن أغلبهم كما يعبر أهل الحكمة والعرفان، جمعوا هذه العلوم جمع تكسير.

فالجمع السالم نادرٌ جدّاً. ومن يجمع العرفان السالم والفقه السالم والسياسة السالمة والنقل السالم والعقل السالم، يجمع المعقول والمنقول والمشهود جمعاً سالماً، فلا يحرمه العرفان من تناول الفقه، ولا يمنعه الفقه من تعاطي العرفان أو السياسة، ولا تفصله الفلسفة عن الفقه والعرفان.

ومن يشغله حب المولى عن الاهتمام بشؤونه في هذه الدنيا بجمع العرفان والدنيا جمع التكسير، لا جمعاً سالماً. وجمع التكسير لا ينفع أحداً، إذ لا يتقبل المرء شيئاً من المكسّر.

 

وبالمقابل لو جمعنا الدين بكل أجزائه وأعضاه وجوارحه وجوانحه جميعاً سالماً، وسكن العقل في حرم الدين الآمن، ولم نفسح المجال لمواجهة بين الدين والعقل، أو العقل والشرع، ولو تحدثنا دائماً عن العقل والنقل، ودققنا في المصطلح والفكرة، وحرصنا على ألا نستعمل عبارة "العقل والدين" وكنا بصيرين في أقوالنا وأعمالنا وكتاباتنا، وجعلنا العقل أمام النقل ووضعناهما كليهما في ظل الدين ولم نحصر الخيار بين العقل من جهة والدين أو الشرع من جهة أخرى، لبلغنا حقيقة الخلافة.

 

العقل والفطرة.. وضرورة الوحي:

وهل يمكن لله – سبحانه وتعالى – أن يخلق الإنسان، ولا يعطيه الوسيلة لإدراك كلامه ومشيئته وما يسخطه ويرضيه؟ لا يمكن ذلك أبداً، فالله أنعم على الإنسان بالعقل للحصول، ومنحه الفطرة للشهود والحضور. وإنّ العقل والفطرة جناحان لكل إنسان عارف بالدين مؤمن به وملتزم بأوامره ونواهيه. وبهما يفهم الإنسان كلام المستخلف عنه – عزّ وجلّ – ويدرك بأنّ لله رسلاً وأنبياء، ويفهم أنّه لا يعلم الكثير من الأمور دونهم. صحيح أنّ الإنسان يرتبط بالعالم كله، لكن هذا الرصيد محدود ونطاقه ضيق، ولذا يحتاج إلى رسول يوحى إليه.

والعقل يقضي بضرورة الوحي ويدعو إليه، ولذلك نقول: إنّ للعقل والفطرة في نطاق المعرفة الدينية مكانة تضاهي مكانة النقل. وبسيادة هذا الوعى يكون الوحي سلطاناً في مجال العلوم والمعارف، ويكون النبي أو الإمام هو السلطان بين الناس.

فالكاشف عن حقائق الدين إما العقل، وأما النقل. غير أنّ العقل ليس القياس أو التمثيل أو الخيال أو الظن والوهم. فالعقل البرهاني إلى جانب النقل المعتبر الموثوق به، كلاهما عاملان قويان لمعرفة الدين، والذات الإلهية المقدسة منحت الإنسان أحدهما من الداخل والآخر من الخارج، ليدرك كلام المستخلف عنه ويؤمن به، ويعمل على وفقه، ليصبح بعدئذ خليفته حقاً.

 

الكرامة والخلافة والمعرفة:

إذن كرامة الإنسان تابعة لخلافته، وخلافته ترتبط بمعرفته العقلية والفطرية، فإن أدرك وآمن وعمل بذلك، كان مظهراً لأسماء الله وموضعاً لتكريمه سبحانه. عندئذ تفتح له الجنة، ويرحب به ملائكة الله، ويدخلونه الجنة مصلين عليه.

يبقى أنّ الله – سبحانه وتعالى – منح الإنسان الكرامة، وأعطاه هذا الرصيد ليدرك كلامه الحكيم ويعلم بأنّ هذا الرصيد يعادل هويته، وأنّه لن يتمكن من معرفة العالم كله، بل يحتاج إلى النقل في كثير من الأمور فعليه أن ينسق بين هذا وذاك، بين العقل والنقل.

ومن البديهي أنّ الصراع لا يتحول إلى سلم، إلا بالاستناد إلى مبادئ معرفية. ولو وصل الفهم البشري إلى مستوى البرهان وإلى ما هو حق، وانتقل من مرحلة الفرضيات إلى التجربة، وتخلص من عالم القياس والوهم والخيال والظن، لأصبح علماً برهانياً، واستحق عندئذ أن نقول عنه أن عقلاً كهذا يحكم بأنّ الله أراد كذا وكذا، بدل أن نعتبر هذا الفهم فهماً بشرياً.►

 

المصدر: كتاب الكرامة الإنسانية وخلافة الله في الأرض

ارسال التعليق

Top