• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الكلمة.. وسيلة تربية

أسرة البلاغ

الكلمة.. وسيلة تربية

لعلّ مسألة التربية من المسائل التي تتنوّع مؤثراتها حسب تنوّع أبعاد الإنسان في مواقع الإدراك فيه، سواء كانت هذه المواقع مواقع الفكر، أو مواقع العاطفة والإحساس، أو مواقع الجوّ الذي يحيط بالإنسان. ولذلك، فإنّ من الطبيعي أن تكون الكلمة التي هي وسيلة إيصال الفكرة من إنسان إلى إنسان، هي إحدى الوسائل المهمّة والحيويّة جدّاً في مسألة التربية، من خلال المضمون الفكري والروحي والعملي الذي تتناوله الكلمات، ومن خلال طبيعة نوع الكلمة فيما اختزنته في تاريخ التخاطب الإنساني من إيحاءات قد لا يحملها معناها في اللغة، باعتبار أنّ الكلمة تكتسب الكثير من الإيحاءات التي تعطي للمعنى أُفقاً أوسع أو أضيق من أُفقه.

لذلك، كانت الكلمة هي الوسيلة الإلهيّة في التربية، فمن خلال ما أرسل به الله رسله في الكُتُب التي أنزلها عليهم، نجد أنّ حركة التربية الإنسانية تمثِّل الخطّ الطويل الذي عاشته الكلمة في تاريخ الإنسان، وفي كلّ التأثيرات السلبية أو الإيجابية في هذا التاريخ.

 

الوعظ بالكلمة

من خلال ذلك، نطلّ على بعض الأُطر التي تتحرّك فيها الكلمة من خلال مضامينها: فهناك كلمة الوعظ التي استخدمت في القرآن الكريم في التعبير عن خطاب لقمان لولده، وهو يحاول أن يفتح آفاقه على كثير من قضايا العقيدة، وقضايا الحركة في الحياة، فنحن نلاحظ أنّ كلمة (وعظ) تعبّر عن المضمون الفكري الذي يختزن في داخله بعض الجوانب المتصلة بالإحساس، بحيث لا تتحرّك الفكرة بوعي الإنسان من خلال طبيعة الجفاف الفكري الذي يحيط بالفكرة المجرّدة، بل تحاول أن تلتقط بعض التعابير المتصلة بإحساس الإنسان.

 

المزج بين العقل والعاطفة

لذلك، فإنّ الوعظ يتضمّن، إضافةً إلى الفكرة، عنصر اقتحام العاطفة الإنسانية والشعور الإنساني، حتى تكون المسألة مزيجاً من العقل ومن العاطفة. وبذلك، فإنّها تنفذ إلى عقل الإنسان وقلبه، وعندما يُمزَج العقل بالعاطفة، فإنّه يستطيع أن يصنع للإنسان جوّاً يهز كيانه، ويدفعه لاحتضان الفكرة، باعتبار أنّ الفكرة تفسح لنفسها، من خلال عناصرها المتنوّعة، المجال الواسع للدخول إلى كيان الإنسان، وهذا ما نلاحظه في كلّ المواعظ التي لا يبتعد فيها جانب الفكر عن جانب الإحساس.

ولعلّنا نجد أنّ هذا الأسلوب هو الأسلوب المؤثر في إمكانية وصول الحركة التربوية إلى أن تصنع من الإنسان شخصاً آخر، على هدى الخطّ الذي تتحرّك فيه الموعظة، أو تتحرّك فيه التربية، لأنّ الخطأ الذي يعيشه الكثيرون من الناس في إطلاق الفكرة، يكمن في أنّ هناك مَن يطلق الفكرة بجفافها العقلي، بحيث تكون المسألة مسألة معادلات هندسية جامدة، تخاطب العقل الإنساني من دون أن تستجيب لحاجة المناطق الأُخرى في الإنسان، والمتصلة بجانب الإحساس.

وهناك مَن يطلق المسألة بالشكل العاطفي الذي لا يجعل الإنسان يفكِّر بشكل عميق، ما يترك فاصلاً بين الفكر والإيمان، فنحن نجد أنّ هناك الكثيرين من الناس الذين يحملون الفكر ولكنّهم لا يؤمنون به، لأنّ جانب الإيمان هو جانب تحوّل الفكر إلى حالة في الإحساس، وإلى حركة في الشعور.

 

الأسلوب القرآني في الوعظ

من هنا، نجد أنّ قيمة الأسلوب القرآني، هو أنّه يحاول أن يلتقط مفردات الأسلوب من الحياة، فنرى أنّه يدفع بالفكرة في حركة التأمّل، ليحيطها بأجواء من الحسّ فيما يرى الإنسان، وفيما يسمع، وفيما يلمس، وليحرّكها في المناطق الحميمة والعميقة للنفس، من خلال الخوف والرجاء والحبّ والبغض وما إلى ذلك.

وعندما نطلّ على هذا المعنى، فإنّنا نجد أنّ أسلوب الوعظ، عندما يتحرك بشكل مدروس جدّاً، وعندما يكون الواعظ ممّن يأخذ بأسباب القوّة في الفكر، وبأسباب الرقة في العاطفة، كما يأخذ بالانفتاح على كلّ المفردات التي يحتاجها العنصر الفكري والعنصر الشعوري، فإنّه يكون قد أحرز أكثر الأساليب نجاحاً في التربية.

ارسال التعليق

Top