• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الكَلِم الطيب والعمل الصالح

مكي قاسم البغدادي

الكَلِم الطيب والعمل الصالح

◄قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر/ 10).

الكَلِمُ الطيِّبُ، الذي يصعد إلى الله في عُلاه، والعمل الصالح يرفعه الله إليه، ويكرمه بهذا الإيقاع، ومن ثمّ يكرم صاحبه ويمنحه العزّة والاستعلاء، ويخلق حالة من أجواء الشفافية والتطلُّعات الحضارية، التي ينطلق منها حالات التقدُّم والازدهار المتنوّعة.

وإنّ الله عزّوجلّ لا يقبل إلّا طيِّباً، ولا يرد موارد عزّته وكرامته ومنازل تكريمه إلّا الطيِّبون. فجاء الكلم الطيِّب مقروناً بالعمل الصالح وملازماً له، وجاء العمل الصالح على إطلاقه مع الفعل (يرفع) فعل مضارع مستمر، وفي ذلك دلالات كثيرة، نذكر منها: إنّ الفعل (يصعد) جاء مع الكلم الطيِّب. وجاء بصورة خفيفة وشفافة وسهلة، بمعنى يصعد الكلام بنفسه إلى الله تعالى في عُلاه، ليزكيه ويطهره ويعطيه مكانته المناسبة عند الله تعالى وعند الناس وفي نفوس الأفراد.

يصعد الكلم الطيِّب صعوداً ميسراً تلقائياً، كصعود بخار الماء بسهولة إلى أعالي السماء، صعوداً تلقائياً طبيعياً سهلاً بلا تكاليف ولا صعوبات. بينما جاء الفعل (يرفع) مع العمل الصالح، وفي ذلك دلالات بلاغية دقيقة في السياق القرآني:

إنّ صعود العمل الصالح على إطلاقه إلى الله تعالى ليس صعوداً تلقائياً سهلاً بذاته، وإنما بحاجة إلى أعوان أقوياء أكفاء يرفعونه، وهم أصحاب قدرات وإمكانيات، وقد يكونون ملائكة كرام يرفعونه برافعات مناسبة تليق بجلالة قدره، فتجعله ذا قيمة كبيرة ومنزلة رفيعة.

يعطينا السياق القرآني دلالة بلاغية عالية المضامين، وهي تبيّن الفارق الكبير بين تأثير القول، وتأثير العمل في النفوس وفي أرض الواقع، وإنّ تأثير العمل أوقع في النفس من تأثير القول المجرد، لذلك علينا أن نأخذ درساً قرآنياً مهمّاً، أن لا يختلف قولنا عن عملنا، بل يكون عملنا ترجماناً لقولنا، وقولُنا ترجماناً لعملنا، ولا نقول ما لا نعمل، بل نعمل ما نقول. لذلك كان قرين الإيمان في القرآن الكريم العمل الصالح، وفي جميع آياته البيِّنات، كما قرين حسن العبادات بحسن المعاملات في القرآن الكريم أيضاً، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا) (الكهف/ 30).

وعن الإمام الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (الرُّوم/ 44).

قال (ع): إنّ العمل الصالح يذهب إلى الجنّة ويمهد لصاحبه، كما يبعث الرجل غلامه فيفرش له، ثمّ قرأ الآية.

فقد عاتب القرآن الكريم الذين آمنوا بعتاب شديد، وفيه تهديد وتشديد، عندما يختلف قولهم عن فعلهم فإنّها انتقاص في الشخصية، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3).

يريد القرآن الكريم أن يعالج نقاط الضعف في شخصية الذين آمنوا، عندما يحذرهم من اختلاف قولهم عن فعلهم، لذلك جاء السياق القرآني مسوقاً للتوبيخ للذين آمنوا، عن صفة تنقصهم وتقلل قيمتهم الاجتماعية، وتفقدهم القيادة والتأثير بالجماهير، وتجعلهم على هامش الحياة وفي سطح الأحداث، وليس لهم أثر وتأثير في المعادلة الاجتماعية، وتخسرهم عزّة الدنيا وكرامة الآخرة، وتعرّضهم إلى مقت الله وبغضه وكراهيته لعملهم الذي لا يليق بهم، بل هي حالة مَرضيّة تدمر عزّتهم ووحدتهم.. ألا وهي صفة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)، ويكاد هذا الداء يسيطر على الساحة، ويكون ظاهرة اجتماعية خطيرة.

هذه الآية الكريمة التربوية بمثابة تصحيح مسار للذين آمنوا، الذين يظهر عليهم الإيمان الظاهري؛ ولكن يختلف مع الباطن، ويختلف الشكل عن المضمون، والقول عن العمل، والحقيقة عن الادّعاء، أو أن تقول ألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فهم يعدون ويعاهدون ثمّ يخلفون.. فهذا وجه من وجوه النفاق، لا ينبغي للمؤمن أن يتصف به، فإنّه صفة ممقوتة عند الله ومبغوضة عند الناس ومكروهة في المشاعر.

فالأقوال التي لا تصدقها الأعمال: إمّا أن تكون لغواً من القول، وهذا ينبغي تعالي النفس عنه والتنزُّه منه، فإنّ الكلمة على لسان المؤمن يجب أن تكون عقداً وعهداً بين المؤمن ونفسه، يجب الوفاء به، وإمّا: الكلمة التي ينطق بها اللسان ولا يصدقها العمل، كلمة كاذبة أو منافقة أو متلونة تحمل إزدواج الشخصية، ولا يجتمع الإيمان مع النفاق والكذب والتلون والتقلب وازدواج الشخصية، وبقية الصفات السلبية، لأنّ الإيمان صفاء ونقاء وقلب سليم الذي لا يدخل فيه ما ليس فيه.

عن النبيّ (ص): "للمنافق ثلاث علامات: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".

قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).

والمقت، في الأصل: البُغض الشديد عند الله، ومبالغة في الكراهية.

ويُقال: رجل ممقوت، يعني يبغضه الناس ويكرهونه، لأنّه غلبت عليه صفات الشرّ والاعتداء، فيتجنّبه الناس خوفاً من شرّه.

إنّه البغض الإلهي على الذين يطلقون أقوالاً جرداء، ولا يقرنونها بالأعمال.. إنّه إهانة لكرامة الإنسان وعزّته، ومَن هانت عليه فنسه فلا تأمن شرّه، كما يعرض القرآن الكريم صورة حيّة لهذه الحالة الممقوتة في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) (البقرة/ 204).

هناك فرق بين مَن يقول شيئاً لا يريد أن يفعله في قناعته فهو كذّاب ومنافق، وبين الإنسان الذي لا ينجز عملاً يقوله بسبب قصوره وقلّة إمكانياته وضعف إرادته عن فعل ذلك وهو رذيلة منافية لسعادة النفس الإنسانية، فإنّ الله بنى سعادة النفس الإنسانية بمقدار ما تعمل الخير وتنفع الناس من طريق الاختيار دون إجبار، ومفتاحه العزم والإرادة، ولا تأثير إلّا للراسخ في العزم والإرادة، كما قال تعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) (البقرة/ 93).

أمّا تخلف الفعل عن القول بسبب وهن العزم وضعف الإرادة، وقلة الخبرة والتجربة، ولا يرجى للإنسان مع ذلك التخلف، خير ولا سعادة.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) إنّها قاعدة عامّة تشمل نقض العهود والعقود والوعود وتشمل حتى النذور والأمانات وعدم الوفاء بها.

في رسالة الإمام عليّ (ع) لمالك الأشتر قوله: "إياك أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)".

فلا يتناسب الإيمان ونقاؤه مع القول بلا فعل، لأنّ الإيمان ليس مجرد كلمات تقال، ولا تمنيات وآمال، وأحلام وردية ومشاعر نظرية، بل الإيمان قول وعمل والعمل لا يختلف عن القول "ومَن عَلِمَ أنّ كلامه مِن عَمَله قَلَّ كَلامُه إلّا فيما يَعنِيه".

عن رسول الله (ص): "مَن لَم يَحسُبْ كَلامَه مِن عَمَلِه كَثُرَت خطاياه وحَضَرَ عَذابه".

والإيمان: عقيدة تعمل، واستقامة تتحرك، فهو عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل، فهو التطابق بين القول والفعل، ويكون الفعل من خلال القول ولا يخالفه في شيء، لأنّ الانحراف عن القول ولا يتطابق مع الفعل، يؤدي إلى فقدان الثقة بين الناس، وانتشار الفساد والنفاق والكذب والأخلاق السيِّئة، والذي يؤدي إلى تأخر المجتمع، وتتوقف حركة التطور والتقدم.. عندئذ يتخلّف المجتمع عن ركب الحضارة الاجتماعية ويؤدي إلى اهتزاز الوضع الإسلامي كلّه، وإفساح المجال للفئات المضادّة أن تسيطر على الأُمّة الإسلامية. وتزداد الخطورة إذا تحوّلت القوى المضادة إلى قوّة عسكرية غازية تعمل على محاصرة المسلمين وإخضاعهم لسيطرة قوى الكفر والفساد.

القول بلا عمل هو القول المستقيم: فهو لون من ألوان الخداع والغش والكذب والحيلة والمكر، فإنّ اختلاف القول عن الفعل يؤدي إلى المشاكل الصعبة والتحديات الكبيرة المختلفة التي تهزّ أمن الأُمّة ونظامها. وانتشار الفساد وسوء الخدمات وكثرة الحاجات، وزيادة البطالة، وسوء الاستثمارات، وسرقة أموال الدولة، وكثرة العيوب، وزيادة الهموم والغموم والكروب، مما يؤدي إلى عدم الشعور بالقوّة والقدرة والتقدُّم، لأنّها تتآكل من الداخل، مما يعرضها للضعف وعدم مبايعة الجماهير للدولة، وفقدان الثقة بينهما، والإحساس بالتأخر عن بقية الدول المجاورة والدول المتقدمة ويدفعها في نهاية المطاف إلى سقوط هؤلاء وانهيارهم، ويكونون عبرة لمن يعتبر، وأخسر الناس مَن كان عبرة للناس!

بينما تطابق القول والعمل، فإنّه قيمة أخلاقية كبرى تتفجر حياة ولا يصاحبها الموت، ويؤدي بسرعة إلى تقدم الفرد والمجتمع، لأنّ الفرد يحرص على تقدم المجتمع وتماسكه في جميع علاقاته ومشاريعه الاستثمارية، ومنع الفرد والجماعة من أي فساد في المجتمع وتقوية المناعة الذاتية فيهما.

وبذلك تكون الدولة قويّة، لأنّ حياة الأُمّة تمد الدولة والقيادة بالحياة، لثقة الأُمّة بالدولة، وثقة الدولة بالأُمّة، وثقة الفرد بالقيادة، وثقة القيادة بالأفراد.

سبب نزول قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ): وعد المؤمنون بعضهم بعضاً لو حصل الجهاد لجاهدوا في سبيل الله، لما له من الأجر الكثير والمنازل الرفيعة، إلّا أنّهم لمّا حصل الجهاد فرّوا، وأخلفوا وعودهم في غزوة أُحُد، فنزلت الآية موبخة لهم ومعاتبة، وفيها تنديد ووعيد.

ولكن الآية أبعد مدى من سبب نزولها، فتشمل عموم معناها وحركية مغزاها، فلها مفهوم واسع تشمل كلّ قول لا يقترن بالعمل، فيستحق عليه العتاب واللوم والتوبيخ، لذلك فهو نص يشمل كلّ ميادين الحياة المتنوّعة سواء أكانت الجهادية أو العلمية أو النفسية أو الاجتماعية... إلخ.

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) على وجه التحليل: توجه الآية الكريمة خطابها إلى الذين آمنوا، والآية تعترف بإيمانهم؛ ولكن إيمانهم مشوب بالنقص وفيه عيوب ويعاني من خلل واضطراب وتقلب. فهو إيمان غير ثابت وغير مستقر في النفس، ومتذبذب ومتلون، تختلف المظاهر عن المضامين، والأقوال عن الأفعال، والحقيقة عن المدّعى..

فيكون ظاهرهم الإيماني يغر ويسر؛ ولكن عندما تتعامل معهم ترى منهم ما يضر، لذلك يخاطبهم القرآن الكريم بأسلوب إيماني نموذجي مميز، يُبيِّن نقطة ضعفهم، التي تجعلهم منبوذين اجتماعياً وعند الناس.. أمّا عند الله تعالى، يكونون مكروهين مبغوضين.

يذكر القرآن الكريم صفة مكروهة بارزة من صفاتهم القبيحة، من بين مجموعة صفات النقص الضارة الأخرى، لذلك يخاطبهم القرآن الكريم بأسلوب تربوي مؤثر بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ). ►

 

المصدر: مجلة ينابيع/ العدد 61 لسنة 2017م

ارسال التعليق

Top