• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المال ومدى تحقيقه لسعادتك

يوسف ميخائيل أسعد

المال ومدى تحقيقه لسعادتك

◄على الرغم من أنّ لفظي (المال) و(السعادة) متداولان على الألسنة والأقلام، فإنّنا نجد أنفسنا بحاجة إلى تحديد ما نعنيه لدى استخدامنا لهما هنا في هذا المقام. فنحن نعني بالمال القوة الشرائية المتاحة للفرد أو المجموعة، سواء كانت السلعة المشتراة سلعة شيئية أم سلعة خدمية. فأنت لا تعد من الأغنياء إذا كانت لديك عملة لا تستطيع إنفاقها لسبب أو آخر. وكذا فإنّك لا تعد غنياً إذا كان هناك موقف لا يسمح لك بالإفادة مما لديك من أموال مهما كانت كثيرة وتقدر حتى بالملايين. فإذا كان لديك في أحد البنوك رصيد ضخم جدّاً ولديك من العمارات أو المصانع ما يجعلك في أنظار الناس من الأثرياء، ولكنك في نفس الوقت معزول في صحراء بعيداً عن العمران وقد ضللت طريقك بين الرمال. فأنت إذن في هذه الحالة لست غنياً، بل ربما يكون أفقر فقراء العالم أحسن منك حالاً.

فنحن لا ننوط المال وحده وفي حد ذاته القيمة التي تجعلك غنياً، بل نربط بين المال من جهة، وبين قدرتك على التصرف من جهة أخرى. ولكن هناك عنصراً ثالثاً يجب أن نأخذه في الاعتبار هو عنصر الحصافة في تسيير دفة المال الذي في حوزتك. فلابدّ أن تكون هناك سياسة نقدية تأخذ بها نفسك. فإذا كنت موظفاً، وقد تحدد راتبك الشهري بقدر معلوم، وكنت حكيماً في إنفاق مرتبك على مجالات الإنفاق المتباينة، بحيث لا تمد يدك بالاستدانة إلى غيرك، فإنّك عندئذ تكون حكيماً، وبالتالي فإنّك تكون غنياً. ولكن على العكس من هذا فإنّك إذا كنت غير حصيف في تدبير شؤون نفسك، وذلك بأن تبدد ما بين يديك، أو بأن تمسك عن الإنفاق وتأخذ في التقتير على نفسك وعلى غيرك ممن هم في عنقك، فإنّك لا تعد غنياً ولا حصيفاً في الوقت نفسه. فلا يكفي إذن أن يكون المال في حوزتك، ولا يكفي أن تكون حر التصرف في ممتلكاتك، بل يجب من جهة ثالثة أن تكون حصيفاً حكيماً ومتفهما لكيفية الإنفاق التي تجعلك في موقف متوازن بين التبذير والتقتير.

هذا ما نعنيه بالمال. أما ما نعنيه بالسعادة فهو:

أوّلاً: سد الحاجات الأساسية التي تحس بأنّك في حاجة إليها أنت وذووك. وهنا نجد أنّ الحاجات يمكن أن تكون ضروريات، كما أنّها يمكن أن تكون كماليات. والعلاقة بين الضروريات والكماليات علاقة نسبية. فما هو ضروري بالنسبة لك، قد يكون كماليات بالنسبة لشخص آخر. والعكس أيضاً صحيح. والحكم بأنّ الشيء ضروري أم كمالي يتحدد في ضوء المشاعر الشخصية من جهة، وفي ضوء المشاعر الجمعية من جهة أخرى. فالسيارة قد تصير من الضروريات بمجرد إحساسك بأنّك لا تستطيع أن تقضي مصالحك بدونها. وكذا قد يحس المؤلف بأنّ الآلة الكاتبة ضرورية له في تأليفه، بينما قد يحس شخص آخر بأنّها من الكماليات. ولقد تجد العديد من الكُتّاب لا يحسون بأدنى حاجة إلى الحصول على آلة كاتبة. وبالنسبة للجماعات البشرية، فإنّ سكان المدينة لا يحسون بأنّ وجود البقر أو الحمير يشكّل ضرورة في حياتهم. إنّهم على العكس لا يحسون بأنّهم في حاجة إلى أن يمتلكوا أي حيوان للحصول على اللبن أو للانتقال أو حمل الأثقال. وساكن الجبل أو الصحراء ربما يجد في الخيمة خير مسكن له، فيحس بأنّ الخيمة تشكّل ضرورة لا غنى له عنها. أما ساكن المدينة فإنّه يحس بأنّ حصوله على شقة يشكّل ضرورة، وأنّ الخيمة لا توفر له سد حاجته إلى المأوى. وسكان القطب الشمالي من الأسكيمو ربما يجدون أنّهم لا يستغنون عن رعاية حيوان الرنة والإفادة من لبنه ولحمه وجلده. وقل نفس الشيء بالنسبة للجماعات البشرية في البيئات المختلفة من حيث تقديرهم للضروريات والكماليات.

ثانياً: الإحساس بالطمأنينة بإزاء المستقبل. ذلك أنّ الإنسان كائن لا يعيش في حاضره وماضيه فحسب، بل هو يتحسس مستقبله ويتوقعه ويتنبأ به. فإذا ما كانت توقعاته وتنبؤاته تنم عن التعاسة والشقاء والجوع والنكبات، فإنّه لا يستطيع عندئذ أن يتمتع بحاضره مهما كان ذلك الحاضر سعيداً ورائعاً. وإذا صح هذا بإزاء الفرد من الناس، فإنّه يصح أيضاً بإزاء الناس كمجموعة بصفة عامة. فنحن نستطيع أن نقرر أنّ الإنسان المعاصر بصفة عامة لا يحس بالسعادة بإزاء المستقبل في ضوء التفجرات السكانية من جهة، وفي ضوء نقص الغذاء والماء على المستوى العالمي من جهة ثانية، وفي ضوء الحروب والاستعدادات الدائمة للحروب بما تتكلفه من نفقات باهظة، وبما تحدثه أدوات التدمير من خراب وإفناء للنبات والحيوان من جهة ثالثة، وفي ضوء تلوث البيئة من مياه عذبة ومن تربة ومن هواء، وما يترتب على التلوث من نتائج صحّية وخيمة تأتي على سعادة الإنسان ورخائه من جهة رابعة، وفي ضوء ما يتعرض له الإنسان الحديث من توترات نفسية ومن أمراض نفسية وعقلية نتيجة الضغوط الحضارية التي تتمثل أكثر ما تتمثل في الضوضاء وفي فقد السند بسبب المواصلات السريعة وفي الأضواء التي تأخذ بالبصر من جهة خامسة. فكيف يستطيع إنسان الحضارة أن يحس اليوم بالطمأنينة بإزاء ما سوف يحمله له مستقبله في القريب العاجل أو في البعيد الآجل.

ثالثاً: ما يتسنى للفرد أن يؤثر به في المجتمع من حوله. فأنت تحس بالسعادة إذا كنت شخصية مؤثرة. وعلى العكس من هذا فإنّك لا تستشعر السعادة إذا مُنعت من إحداث التأثير في غيرك. فإنّك عندئذ لا تستشعر السعادة تشيع في أنحائك. ولعلك تلاحظ أنّ الطفل الصغير يصبو إلى أن يكون شخصية مؤثرة. ولعلّ الإنسانية بتاريخها الطويل تتلخص في الرغبة في أن تكون ذات تأثير في بعضها البعض، بل وأن تكون مؤثرة في الأجيال التالية لها.

وبعد أن عرضنا لمفهومي المال والسعادة، فإنّنا نعود إلى التساؤل مرة أخرى عن العلاقة بين هذين القطبين. فهل هناك تناسب طردي فيما بين كمية المال التي يحرزها المرء وبين إحساسه بالسعادة؟

يقول الواقع إنّ التعويل في إحراز السعادة على مقوم واحد، يكون تعويلاً خاطئاً ومبالغاً فيه. والواجب أن يعوِّل المرء على مجموعة من العوامل التي تتأتى عنها محصلة هي ما يمكن قسميته بالسعادة. ولعلّنا نلخص تلك المقومات التي يجب أن نأخذها في اعتبارنا فيما يلي:

أوّلاً: توافر الحد الأدنى من الإمكانيات المادية. وهذا ما سبق أن عرضنا له وناقشناه في تفسيرنا لمفهوم المال. بيد أنّنا هنا ننبه إلى حقيقة هامة وهي أنّ ثمة ما يسمى بالسيف ذي الحدين بالنسبة للمال. فكما أنّ توافر المال يمكن أن يسبب السعادة – أو بتعبير أصح يمكن أن يساهم في تحقيق السعادة – كذا فإنّ توافر المال لدى المرء يمكن أن يسبب له الشقاء. والأغلب أنّ الشقاء الذي يترتب على توافر المال لدى المرء إنما يرجع إلى تحوّل النظر من المال باعتباره وسيلة إلى النظر إليه باعتباره غاية تقتفي في حد ذاتها. وطالما أنّ المال وسيلة، فإنّه يظل عبداً للإنسان. أما إذا هو تحوّل إلى غاية تقتفي لذاتها، فإنّه يستحيل من مجرد عبد خادم للإنسان إلى سيد متسلط عليه.

ثانياً: الصحّة الجسمية والصحّة النفسية. فالمال وإن كان يساعد المرء في بعض الأحيان لعلاجه من الأمراض التي قد تلم به، فإنّ مشاكل المال يمكن أن تتسبب في تدهور الصحّة الجسمية والصحّة النفسية للإنسان. فالمشتغلون بالمال وما يتصف به من تقلبات – كما هو الحال في المضاربة بالبورصة – كثيراً ما يقعون صرعى نتيجة الصدمات النفسية والتوترات العصبية التي يصابون بها والتي تلح عليهم وتلاحقهم بقسوتها بضراوة وبلا هوادة. ولسنا ننكر أنّ الفقر يصيب المرء بالهموم التي تؤثر في صحّته الجسمية والنفسية. ولكننا ننبه إلى أنّ توافر المال يمكن بدوره أن يؤدي إلى تدهور الحالة الصحّية الجسمية والنفسية للمرء.

ثالثاً: عدم تحويل قيمة المرء من قيمة ذاتية إلى قيمة تتعلق بأمواله. فالغني – ومن حوله – ينظرون إلى المال باعتبار أنّه الوسيلة التي تجعل للإنسان قيمة في هذا الوجود. فالشابة الغنية التي يُقبل عليها الخطبان بكثرة تظن في لغالب أنّهم يتقربون منها طمعاً في مالها وليس لأنّهم يعشقون شخصها ويرغبون في الارتباط بها لذاتها. وكذا يقال عن الغني العجوز الذي يحيطه ذووه بالعناية. إنّه في الغالب يعتقد أنّ جميع مَن سوف يرثونه بعد موته يتمنون موته بسرعة حتى يرثوا ما سوف يتركه لهم من أموال كثيرة. فما يبدونه له من خشية على صحّته إنما هو تمثيل وليس شعوراً حقيقياً ينبع من جوهر قلوبهم. فالإنسان إذن يحب أن تكون له قيمة ذاتية. ولعلّ تقدير الإنسان لنفسه بغض النظر عن أي اعتبار آخر هو الخليق بأن يساهم في إشعاره بسعادته.

ونستطيع في الواقع أن نخلص من النقاط السابقة إلى أنّ المال – وإن استطاع أن يساهم في تحقيق سعادة المرء في بعض الأحيان – فإنّه يعجز عن تحقيقها وحده وفي جميع الأحوال.►

 

المصدر: كتاب شخصيتك بين يديك

ارسال التعليق

Top